فقال: قد علمت قرابتي من رسول الله ﷺ وحق جدّي عليّ وقدمي في الإسلام، فقلت: قد غفر الله لك أتخطبني في عدّتي، وأنت يؤخذ عنك، فقال: أوقد فعلت إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله ﷺ وموضعي، «قد دخل رسول الله ﷺ على أمّ سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يديه حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها، فما كانت تلك خطبة». وأمّا عدّة الفرقة في الحياة فيحل لغير صاحب العدّة التعريض في غير رجعية، لعدم سلطنة الزوج عليها.
أمّا التصريح فحرام إجماعاً وأما الرجعية فلا يحل التعريض لها؛ لأنها في حكم الزوجة أما صاحب العدّة فيحل له التعريض والتصريح إن حل له نكاحها، وإلا فلا.
﴿أوأكننتم﴾ أي: أضمرتم ﴿في أنفسكم﴾ من نكاحهنّ، فلم تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً، قال السّدّي: هو أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء، ولا يتكلم بشيء ﴿علم الله أنكم ستذكرونهنّ﴾ بالخطبة ولا تصبرون عنهنّ فأباح لكم التعريض وفيه نوع توبيخ ﴿ولكن لا تواعدوهنّ سراً﴾ أي: نكاحاً فالسر كناية عن النكاح الذي هو الوطء؛ لأنه مما يسر قال الأعشى:

*ولا تقربنّ جارة إنّ سرها عليك حرام فانكحن أو تأبدا*
وقال امرىء القيس:
*ألا زعمت ساسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي*
ثم عبر بالسر الذي هو كناية عن الوطء عن عقد النكاح؛ لأنّ العقد سبب في الوطء وقيل: هو الزنا، كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزينة، وهو يعرض بالنكاح ويقول لها: دعيني فإذا وفيت عدتك أظهرت نكاحك قاله الحسن. وقيل: هو أن يصف نفسه لها بكثرة الجماع كأن يقول: آتيك الأربعة والخمسة ونحو ذلك.
فإن قيل: أين المستدرك بقوله: ولكن لا تواعدوهنّ سراً؟ أجيب: بأنه محذوف لدلالة ستذكرونهنّ عليه، تقديره: علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سراً. ﴿إلا أن تقولوا قولاً معروفاً﴾ أي: ما عرف شرعاً من التعريض فلكم ذلك، فإن قيل: أين المستثنى منه؟ أجيب: بأنه محذوف أي: لا تواعدوهنّ مواعدة إلا مواعدة معروفة غير منكرة، أو إلا مواعدة بقول معروف.
قال في «الكشاف» : ولا يجوز أن يكون استثناءً منقطعاً من «سراً» لأدائه إلى قولك: لا تواعدوهنّ إلا التعريض، وقال البيضاوي: وقيل: إنه استثناء منقطع من سراً وهو ضعيف لأدائه إلى قولك: لا تواعدوهن إلا التعريض، وهو ـ أي: التعريض ـ غير موعود أي: بل منجز سراً أي: في السر على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستقبح لأنّ مسارتهنّ في الغالب مما يستحيا من المجاهرة به.
﴿ولا تعزموا عقدة النكاح﴾ أي: على عقده، وفي ذلك مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدّة؛ لأنّ العزم يتقدّم على العقد فإذا نهي عما يتقدمه فهو أولى بالنهي، كما في قوله تعالى: ﴿ولا تقربوا الزنا﴾ (الإسراء، ٤٢) ﴿حتى يبلغ الكتاب﴾ أي: المكتوب ﴿أجله﴾ بأن ينتهي ما فرض فيه من العدّة ﴿واعلموا أنّ الله يعلم ما في أنفسكم﴾ من العزم وغيره ﴿فاحذروه﴾ أى:
الخصوص، فلا يدخل
في ذلك صفات الله تعالى، وإذا كان لا خالق غيره فلا يشاركه في العبادة أحد، فوجب أن ينفرد بالإلهية كما قال تعالى: ﴿وهو الواحد﴾، أي: الذي لا يجانسه شيء، وكل ما سواه لا يخلو عن مماثل يماثله، وأين رتبة من يماثل من رتبة من لا مثل له؟ ﴿القهار﴾ الذي كل شيء تحت قهره، فيدخل تحت قضائه ومشيئته وإرادته، ثم ضرب تعالى مثلاً للحق والباطل بقوله تعالى:
﴿أنزل من السماء﴾، أي: السحاب أو السماء نفسها ﴿ماء﴾، أي: مطراً ﴿فسالت أودية﴾، أي: أنهار جمع واد، وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه، واستعمل للماء الجاري فيه، وتنكيرها؛ لأنّ المطر يأتي على تناوب بين البقاع ﴿بقدرها﴾، أي: بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضارّ، أو بمقداره في الصغر والكبر. ﴿فاحتمل السيل زبداً رابياً﴾، أي: عالياً هو ما على وجهه من قذر ونحوه ﴿ومما توقدون عليه من النار﴾، أي: من جواهر الأرض الذهب والفضة والنحاس والحديد ﴿ابتغاء﴾، أي: طلب ﴿حلية﴾، أي: زينة ﴿أو متاع﴾، أي: ينتفع به كالأواني إذا أذيبت، وآلات الحرب والحرث، والمقصود من هذا بيان منافعها ﴿زبد مثله﴾، أي: مثل زبد السيل، وهو خبثه الذي ينفيه الكير، ومن للابتداء أو للتبعيض. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة على أن الضمير للناس وإضماره للعلم به، والباقون بالتاء على الخطاب ﴿كذلك﴾، أي: مثل هذا الضرب العلي الرتب المتبين السبب ﴿يضرب الله﴾، أي: الذي له الأمر كله ﴿الحق والباطل﴾، أي: مثلهما، فإنه تعالى مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة، فيننتفع به أنواع المنافع، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنيّ والآبار، ومثل الباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وهو قوله تعالى: ﴿فأما الزبد﴾، أي: من السيل وما أوقد عليه من الجواهر ﴿فيذهب جفاء﴾.
قال أبو حيان: مضمحلاً، أي: متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له. وقال ابن الأنباري: متفرّقاً، وانتصابه على الحال. ﴿وأما ما ينفع الناس﴾ من الماء ومن الجواهر الذي هو مثل الحق. ﴿فيمكث في الأرض﴾، أي: يثبت ويبقى لينتفع به أهلها ﴿كذلك﴾، أي: مثل ذلك الضرب ﴿يضرب﴾، أي: يبين ﴿الله﴾ الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ﴿الأمثال﴾ فيجعلها في غاية الوضوح، وإن كانت في غاية الغموض. قال أهل المعاني: هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل، فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والأحوال، فإن الله يمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو على الماء، فيذهب الزبد فيبقى الماء الصافي الذي ينفع، وكذلك الصفو من هذه الجواهر يبقى، ويذهب العلو الذي هو الكدر وهو ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض كذلك الحق والباطل. وقيل: هذا مثل للمؤمن واعتقاده وانتفاعه بالإيمان كمثل الماء الصافي الذي ينتفع به الناس، ومثل الكافر وخبث اعتقاده كمثل الزبد الذي لا ينتفع به البتة. ثم إنه تعالى لما ذكر الحق والباطل ذكر ما لأهلهما من الثواب والعقاب فقال تعالى:
﴿للذين استجابوا لربهم﴾، أي: أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوّة وبعث الأموات، والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله محمد ﷺ ﴿الحسنى﴾ قال ابن عباس وقال أهل المعاني: الحسنى
بشركهم نعمة النجاة فيكون ذلك فعل من لا عقل له أصلاً وهم يتحاشون عن مثل ذلك، والثاني: كونها للأمر ﴿وليتمتعوا﴾ باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها، وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر وعاصم بالكسر وهي محتملة للوجهين المتقدّمين، والباقون بالسكون وهي ظاهرة في الأمر فإن كانت اللام الأولى للأمر فقد عطف أمراً على مثله، فإن قيل كونها للأمر مشكل إذ كيف يأمر الله تعالى بالكفر وهو متوعد عليه؟ أجيب: بأن ذلك على سبيل التهديد كقوله تعالى: ﴿اعملوا ما شئتم﴾ (فصلت: ٤٠)
وإن كانت للعلة فقد عطف كلاماً على كلام فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة ﴿فسوف يعلمون﴾ يومئذٍ ما يحلّ بهم من العقاب، ولما كان الإنسان يكون في البحر على أخوف ما يكون وفي بيته يكون على آمن ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر الله المشركين عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله ذكرهم حالهم عند الأمر العظيم بقوله تعالى:
﴿أولم يروا﴾ أي: أهل مكة بعيون بصائرهم ﴿أنا جعلنا﴾ بعظمتنا لهم ﴿حرماً﴾ وقال ﴿آمناً﴾ لأنه لا خوف على من دخله، فلما أمن كل من دخله كان كأنه هو نفسه الآمن وهو حرم مكة فإنها مدينتهم وبلدهم وفيها سكناهم ومولدهم وهي حصينة بحصن الله وآمنة موجبة للتوحيد والإخلاص لأنكم في أخوف ما أنتم دعوتم الله وفي آمن ما حصلتم عليه كفرتم بالله، وهذا متناقض لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص فما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير وهذه النعمة العظيمة التي حصلتم وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله فكيف تكفرون بها؟ والأصنام التي قلتم في حال الخوف أنها لا أمن لها كيف آمنتم بها في حال الأمن ﴿و﴾ الحال أنه ﴿يتخطف الناس من حولهم﴾ أي: من حول من فيه من كل جهة قتلا وسبياً مع قلة من بمكة وكثرة من حولهم فالذي خرق العادة في فعل ذلك حتى صار على هذا السنن قادر على أن يعكس الحال فيجعل من بالحرم متخطفاً ومن حوله آمناً أو يجعل الكل في الخوف على منهاج واحد ﴿أفبالباطل﴾ من الشياطين والأديان وغيرهما ﴿يؤمنون﴾ والحال أنه لا يشك عاقل في بطلانه ﴿وبنعمة الله﴾ التي أحدثها لهم من الإنجاء وإرسال محمد ﷺ ﴿يكفرون﴾ حيث جعلوا موضع شكرهم له على النجاة وغيرها شركهم بعبادة غيره.
﴿ومن أظلم﴾ أي: أشدّ وضعاً للأشياء في غير مواضعها ﴿ممن افترى﴾ أي: تعمد ﴿على الله كذباً﴾ أي: أيّ كذب كان من الشرك وغيره كما كانوا يقولون ﴿إذا فعلوا فاحشة وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها﴾ ﴿أو كذب بالحق﴾ أي: النبيّ ﷺ أو القرآن المعجز المبين على لسان هذا الرسول الأمين الذي ما أخبر خبراً إلا طابقه الواقع ﴿لما﴾ أي: حين ﴿جاءه﴾ من غير إمهال إلى أن ينظر ويتأمل بل سارع إلى التكذيب أوّل ما سمعه وقوله تعالى: ﴿أليس في جهنم مثوىً للكافرين﴾ استفهام تقرير لمثواهم كقوله:
*ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح*
قال بعضهم: ولو كان استفهاماً ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل، وحقيقته أن الهمزة همزة
وقال ابن السكيت دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ﴿وأمر﴾ لأنّ عذابها للكفار غير مفارق ولا مزايل فهي أعظم نائبة وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر وفي رواية: أن النبيّ ﷺ كان يثب في درعه ويقول: اللهمّ إن قريشاً جادلتك وتجاهر رسولك بفخرها بخيلها فأخنهم الغداة. يقال: أخنى عليه الدهر أي غلبه وأهلكه ومنه قول النابغة:
*أخني عليها الذي أخنى على لبد*
وأخنيت عليه أفسدت ثم قال: ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر﴾ قال عمر: فعرفت تأويلها وهذا من معجزات رسول الله ﷺ لأنّه أخبر عن غيب فكان كما أخبر؛ قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكية وفي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: «لقد أنزل على محمد ﷺ بمكة وإني لجارية ألعب» ﴿بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر﴾ وعن ابن عباس أنه ﷺ قال: «وهو في قبة له يوم بدر أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا، فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك وهو في الدرع فخرج وهو يقول: ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم﴾ يريد يوم القيامة ﴿والساعة أدهى وأمر﴾ مما لحقهم يوم بدر».
﴿إن المجرمين﴾ أي: المشركين القاطعين لما أمر الله تعالى أن يوصل ﴿في ضلال﴾ أي: هلاك بالقتل في الدنيا ﴿وسعر﴾ أي: نار مسعرة أي مهيجة في الآخرة وقيل: ﴿في ضلال﴾ أي: عمى عن القصد بالبعث وسعر. قال الضحاك أي: نار تسعر عليهم وقيل ضلال ذهاب عن طريق الجنة في الآخرة، وسعر جمع سعير نار مسعرة وقال الحسين بن الفضل: إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونار في الآخرة. وقال قتادة: في عناء وعذاب.
ثم بين عذابهم في الآخرة بقوله تعالى: ﴿يوم يسحبون﴾ أي: في القيامة إهانة لهم من أي ساحب كان ﴿في النار﴾ أي الكاملة النارية ﴿على وجوههم﴾ لأنهم في غاية الذل والهوان جزاء بما كانوا يذلون أولياء الله تعالى مقولاً لهم من أي قائل اتفق ﴿ذوقوا﴾ لأنه لا منعة لهم ولا حمية بوجه ﴿مَسَّ سقر﴾ أي: حرّ النار وألمها فإن مسها سبب للتألم بها، وسقر علم لجهنم مشتقة من سقرته الشمس أو النار أي لوحته ويقال: صقرته بالصاد وهي مبدلة من السين قال ذو الرمة:
*إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها يا فنان مربوع الصريمة معبل*
وعدم صرفها للتعريف والتأنيث. وقال بعض المفسرين: إنّ هذه الآية نزلت في القدرية لما روي أنه ﷺ قال: «مجوس هذه الأمة القدرية» وهم المجرمون الذين سماهم الله تعالى في قوله سبحانه ﴿إنّ المجرمين في ضلال وسعر﴾ وفي مسلم عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله ﷺ في القدر فنزلت هذه الآية إلى آخرها» قال الرازي: والقدري هو الذي ينكر القدر وينسب الحوادث لاتصالات الكواكب لما مرّ أنّ قريشاً خاصموا النبيّ ﷺ في القدر، ومذهبهم أن الله تعالى مكن العبد من الطاعة والمعصية وهو قادر على خلق ذلك في العبد وقادر على أن يطعم الفقير ولهذا قالوا: أنطعم من لو


الصفحة التالية
Icon