الصالحات} مبتدأ خبره ﴿طوبى لهم﴾ واختلف العلماء في تفسير طوبى فقال ابن عباس: فرح لهم وقرة عين. وقال عكرمة: نعمى لهم. وقال قتادة: حسنى لهم. وقال النخعي: خير لهم وكرامة. وقال سعيد بن جبير: طوبى اسم الجنة بالحبشية. قال الرازي: وهذا القول ضعيف؛ لأنه ليس في القرآن إلا العربي لا سيما، اشتقاق هذا اللفظ من اللغة العربية ظاهر. وعن أبي هريرة وأبي الدرداء أن طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها. وقال عبيد بن عمير: هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبيّ ﷺ وفي كل دار وغرفة غصن منها لم يخلق الله لوناً ولا زهرة إلا وفيها منه إلا السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل. وقال مقاتل: وكل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح الله تعالى بأنواع التسبيح. وعن أبي سعيد الخدري أنّ رجلاً سأل النبيّ ﷺ ما طوبى؟ قال: «شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها». وعن معاوية بن قرّة عن أبيه يرفعه: «طوبى شجرة غرسها الله تعالى بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة». وفي رواية عن أبي هريرة أنه قال: «إنّ في الجنة شجرة يقال لها: طوبى يقول الله تعالى لها: تفتقي لعبدي عما يشاء فتتفتق له عن فرس مسرجة بلجامها وهيئتها كما يشاء وتتفتق له عن راحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما يشاء». وقيل: طوبى فعلى من الطيب قلبت ياؤه واواً لضم ما قبلها مصدر لطاب كبشرى وزلفى ومعنى طوبى لك أصبت خيراً وطيباً. ﴿وحسن مآب﴾، أي: حسن المنقلب.
﴿كذلك﴾، أي: مثل إرسال الرسل الذين قدمنا الإشارة إليهم في آخر سورة يوسف وفي غيرها ﴿أرسلناك في أمّة﴾، أي: جماعة كثيرة ﴿قد خلت من قبلها﴾، أي: تقدّمتها ﴿أمم﴾ طال أذاهم لأنبيائهم، ومن آمن بهم، واستهزاؤهم بهم في عدم الإجابة حتى كأنهم تواصوا بهذا القول فليس ببدع إرسالك إليهم ﴿لتتلو﴾، أي: لتقرأ ﴿عليهم﴾، أي: على أمّتك ﴿الذي أوحينا إليك﴾ من القرآن وشرائع الدين ﴿وهم﴾، أي: والحال أنهم ﴿يكفرون بالرحمن﴾، أي: بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء.
وقال قتادة: هذه الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن سهل بن عمرو لما جاء للصلح واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال رسول الله ﷺ لعلي: «أكتب بسم الله الرحمن الرحيم». فقال سهل بن عمرو: لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعني مسيلمة الكذاب أكتب كما كنت تكتب باسمك اللهمّ» فهذا معنى قوله: ﴿وهم يكفرون بالرحمن﴾، أي: أنهم يكفرونه ويجحدونه. قال البغويّ: والمعروف أنّ الآية مكية، وسبب نزولها أنّ أبا جهل سمع النبيّ ﷺ وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن، فرجع إلى المشركين فقال: إنّ محمداً يدعو الله ويدعو إلهاً آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن، إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: ﴿قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى﴾ (الإسراء، ١١٠). وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبيّ ﷺ «اسجدوا للرحمن» قالوا: وما الرحمن؟ قال الله تعالى: ﴿قل﴾ لهم يا محمد إنّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته ﴿هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت﴾، أي: اعتمدت عليه في أموري كلها ﴿وإليه متاب﴾،
حرثوها وقلبوها للزرع والغرس والمعادن والمياه وغير ذلك ﴿وعمروها﴾ أي: أولئك السالفون ﴿أكثر مما عمروها﴾ أي: هؤلاء الذين أرسلت إليهم بل ليس لهم من إثارة الأرض وعمارتها كبير أمر، فإن بلاد العرب إنما هي في جبال سود، وفياف غبر، فما هو إلا تهكم بهم وبيان لضعف حالهم في دنياهم التي لا فخر لهم بغيرها ﴿وجاءتهم رسلهم بالبينات﴾ أي: بالحجج الظاهرات مثل ما أتاكم به رسولنا من وعودنا الصادقة وأمورنا الخارقة كأمر الإسراء وما أظهر فيه من الغرائب كالإخبار: «بأن العير تقدِم في يوم كذا يقدُمها جمل صفته كذا وغرائره كذا فظهر كذلك» وما آمنتم به كما لم يؤمن من كان أشدّ منكم قوّة ﴿فما﴾ أي: تسبب أنه ما ﴿كان الله﴾ أي: على مالهم من أوصاف الكمال مريداً ﴿ليظلمهم﴾ بأن يفعل معهم فعل من تعدونه أنتم ظالماً بأن يهلكهم في الدنيا ثم يقتص منهم في القيامة قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل بالبينات ﴿ولكن كانوا﴾ بغاية جهدهم ﴿أنفسهم﴾ أي: خاصة ﴿يظلمون﴾ أي: يجدّدون الظلم لها بإيقاع الضر موقع مجلب النفع.
﴿ثم كان عاقبة﴾ أي: آخر أمر ﴿الذين أساؤا﴾ وقوله تعالى ﴿السوأى﴾ تأنيث الأسوأ وهو الأقبح كما أن الحسنى تأنيث الأحسن، والمعنى: أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم إن عاقبتهم السوأى، إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر، أي: العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي جهنم التي أعدت للكافرين. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عاقبة بالرفع على أنها اسم كان والسوأى خبرها، والباقون بالنصب على أنها خبر كان. وقيل: السوأى اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة، وإساءتهم ﴿أن﴾ أي: بأن ﴿كذبوا بآيات الله﴾ أي: القرآن. وقيل: تفسير السوأى ما بعده وهو قوله تعالى ﴿أن كذبوا﴾ أي: ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب، حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله ﴿وكانوا بها﴾ مع كونها أبعد شيء عن الهزء ﴿يستهزئون﴾ أي: يستمرون على ذلك بتحديده في كل حين. ولما كان حاصل ما مضى أنه تعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء صرح بذلك في قوله تعالى:
﴿الله﴾ أي: المحيط علماً وقدرة ﴿يبدأ الخلق﴾ أي: بدأ منه ما رأيتم وهو يجدد في كل وقت ما يريد من ذلك كما تشاهدون ﴿ثم يعيده﴾ أي: خلقهم بعد موتهم أحياء، ولم يقل يعيدهم لرده إلى الخلق ﴿ثم إليه ترجعون﴾ للجزاء فيجزيهم بأعمالهم، وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة على النسق الماضي والباقون بالتاء على الخطاب أي: إليه ترجعون معنى في أموركم كلها في الدنيا وإن كنتم لقصور النظر تنسبونها للأسباب، وحساً بعد قيام الساعة، وهي أبلغ من القراءة الأولى؛ لأنها أنص على المقصود، ولما ذكر الرجوع أتبعه ببعض أحواله بقوله تعالى:
﴿يوم تقوم الساعة﴾ سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما هم فيه من العظماء والكبراء والرؤساء ﴿يبلس المجرمون﴾ أي: يسكت المشركون لانقطاع حجتهم، فالإبلاس أن يبقى يائساً ساكتاً متحيراً. يقال: ناظرته فأبلس. ومنه الناقة المبلاس أي: التي لا ترغو، وقال مجاهد: مفتضحون، وقال قتادة: المعنى: ييأس المشركون من كل خير، ولما كان الساكت ربما أغناه عن الكلام غيره نفي ذلك بقوله تعالى محققاً له بجعله ماضياً.
﴿ولم يكن﴾ ومعناه لا يكون ﴿لهم من شركائهم﴾ أي: ممن أشركوهم بالله وهم الأصنام ﴿شفعواء﴾ ينقذونهم
حيث التقابل، فإن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وأنَّ جرى الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله تعالى فهو مناسب لسجود النجم والشجر.
﴿والسماء﴾ أي: ورفع السماء ثم فسر ناصبها فيكون كالمذكور مرتين إشارة إلى عظيم تدبيره لشدّة ما فيها من الحكم فقال تعالى: ﴿رفعها﴾ أي حسا قال البقاعي: بعدما كانت ملتصقة بالأرض ففتقها وأعلاها عنها؛ وقال الزمخشري وتبعه البيضاوي: خلقها مرفوعة؛ قال البيضاوي: محلاً ورتبه، وقال الزمخشري: حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه.
﴿ووضع الميزان﴾ أي: العدل الذي دبر به الخافقين من الموازنة وهي المعادلة لتنتظم أمورنا كما قال ﷺ «بالعدل قامت السموات والأرض» وقال السدي: وضع في الأرض العدل الذي أمر به يقال وضع الله الشريعة ووضع فلان كذا أي: ألفه. وقيل على هذا الميزان القرآن لأنّ فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل، وقال الحسن وقتادة والضحاك هو الميزان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى: ﴿وأقيموا الوزن بالقسط﴾ (الرحمن: ٩)
والقسط هو العدل؛ وقيل هو الحكم، وقيل المراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال.
﴿أن﴾ أي: لأجل أن ﴿لا تطغوا﴾ أي: تتجاوزوا الحدود ﴿في الميزان﴾ فمن قال: الميزان العدل قال: طغيانه الجور؛ ومن قال: إنه الميزان الذي يوزن به قال: طغيانه البخس قال ابن عباس: لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال: يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس المكيال والميزان ومن قال: إنه الحكم قال: طغيانه التحريف. وقيل فيه إضمار أي: وضع الميزان وأمركم أن لا تطغوا فيه.
فإن قيل: إذا كان المراد به ما يوزن به فأيّ نعمة عظيمة فيه حتى يعدّ في الآلاء؟ أجيب: بأنّ النفوس تأبى الغبن ولا يرضى أحد أن يغلبه غيره ولو في الشيء اليسير، ويرى أنّ ذلك استهانة به فلا يترك خصمه يغلبه فوضع الله تعالى معياراً بيّن به التساوي ولا تقع به البغضاء بين الناس وهو الميزان، وهو كل ما توزن به الأشياء بين الناس، ويعرف مقاديرها به من ميزان ومكيال ومقياس، فهو نعمة كاملة ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته وكثرته وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء اللذين لا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما.
﴿وأقيموا الوزن بالقسط﴾ أي: افعلوه مستقيماً بالعدل. وقال أبو الدرداء: أقيموا لسان الميزان بالعدل. وقال ابن عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب وقال مجاهد: القسط العدل بالرومية ﴿ولا تخسروا الميزان﴾ أي: لا تنقصوا الموزون، أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان؛ وكرّر لفظ الميزان تشديداً للتوصية وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه؛ وقيل: كرّره لمحال رؤوس الآي، وقيل كرّره ثلاث مرات: الأول: بمعنى الآلة وهو قوله تعالى: ﴿ووضع الميزان﴾ والثاني: بمعنى المصدر أي لا تطغوا في الوزن. والثالث: للمفعول أي لا تخسروا الموزون. قال ابن عادل: وبين القرآن والميزان مناسبة، فإنّ القرآن فيه العلم الذي لا يوجد في غيره من الكتب والميزان به يقام العدل الذي لا يقام بغيره من