التابوت، وانهزام الجبابرة على يد صبيّ وهو داود، وقتل داود جالوت ﴿آيات الله﴾ الذي جلّت عظمته وتمت قدرته وقوّته ﴿نتلوها﴾ أي: نقصها ﴿عليك﴾ يا محمد ﴿بالحق﴾ أي: بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنهم يجدونه في كتبهم كذلك وأرباب التواريخ ﴿وإنك﴾ أي: والحال إنك ﴿لمن المرسلين﴾ بما دلّت هذه الآية عليه من علّمك بها من غير معلم من البشر، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر، ولما تقدّم في هذه السورة ذكر رسل كثيرة وختم هذه الآيات بأنه ﷺ منهم تشوّفت النفس إلى معرفة أحوالهم في الفضل هل هم فيه سواء أو هم متفاضلون، فأشار إلى علوّ مقادير الكل في قوله:
﴿تلك الرسل﴾ بأداة البعد إعلاماً ببعد مراتبهم وعلو منازلهم وأنها بالمحل الذي لا ينال والمقام الذي لا يطال.
تنبيه: تلك مبتدأ والرسل صفة أي: الرسل التي ذكرت قصصها في السورة، أو التي ثبت علمها عند رسول الله ﷺ أو جماعة الرسل واللام للاستغراق، والخبر ﴿فضلنا بعضهم على بعض﴾ بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره، لما أوجب ذلك من تفضيلهم في الحسنات بعد أن فضلنا الجميع بالرسالة، ولما كان أكثر السورة في بني إسرائيل، وأكثر ذلك في أتباع موسى عليه الصلاة والسلام ذكر وصفه مع وصف نبينا محمد ﷺ فقال: ﴿منهم من كلم الله﴾ بلا واسطة وهو موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، كلّم موسى ليلة الحيرة وهي بفتح الحاء، تحيره في معرفة طريقه من مسيره من مدين إلى مصر وفي الطور، ومحمداً ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى، وبين التكليمين بون عظيم، ومنهم أيضاً آدم كما ورد في الحديث.
﴿ورفع بعضهم﴾ وهو محمد ﷺ ﴿درجات﴾ على غيره بعموم الدعوة وختم النبوّة به، والأتباع الكثيرة في الأزمان الطويلة وينسخ جميع الشرائع، وبكونه رحمة للعالمين وبتفضيل أمته على سائر الأمم، وبالمعجزات المتكاثرة المستمرّة، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السموات والأرض عن الإتيان بسورة من مثله، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر، والفضائل العلمية والعملية الغالبة للحصر، ولو لم يؤت إلا القرآن وحده كفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء؛ لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات وبانشقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع بمفارقته، وتسليم الحجر عليه، وكلام البهائم والشهادة برسالته، ونبع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى.
وروي عنه ﷺ أنه قال: «ما من نبيّ من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة».
وروي عنه أنه قال: «أعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي: نصرت بالرعب من مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمّتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبيّ يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامّة».
وروي عنه أنه قال: «فضلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون».
﴿وأتينا عيسى ابن مريم البينات﴾ من إحياء الموتى وغيره ﴿وأيدناه﴾ أي: قويناه ﴿بروح القدس﴾ وهو جبريل
وجل مع تمام القدرة ﴿سريع الحساب﴾ فيحاسبهم عما قليل في الآخرة بعدما عذبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا. وقال ابن عباس: يريد سريع الانتقام يعني: حسابه للمجازاة بالخير والشرّ، فمجازاة الكفار بالإنتقام منهم، ومجازاة المؤمنين بإيصال الثواب إليهم، وقد تقدّم الكلام في معنى سريع الحساب قبل هذا. وقوله تعالى:
﴿وقد مكر الذين من قبلهم﴾، أي: من كفار الأمم الماضية قيل: مكروا بأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى واليهود مكروا بعيسى فيه تسلية للنبيّ ﷺ وقوله تعالى: ﴿فلله المكر جميعاً﴾، أي: أن مكر جميع الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته؛ لأنه تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد، فالمكر لا يضرّ إلا بإذنه ولا يؤثر إلا بتقديره، فيه أمان له ﷺ من مكرهم، فكأنه قيل: إذا كان حدوث المكر من الله تعالى وتأثيره في الممكور به من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى لا من أحد من المخلوقين، وذهب بعض المفسرين إلى أنّ المعنى: فلله جزاء المكر، وذلك أنهم لما مكروا بالمؤمنين بيّن الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم. قال الواحدي: والأوّل أظهر القولين بدليل قوله تعالى:
﴿يعلم ما تكسب كل نفس﴾، أي: أنّ أكساب العباد معلومة لله تعالى، وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك، فلا قدرة لعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله فيجازيهم على أعمالهم، وفي ذلك وعيد وتهديد للكفار الماكرين، ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد بقوله تعالى: ﴿وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار﴾، أي: العاقبة المحمودة في الدار الآخرة ألهم أم للنبيّ ﷺ وأصحابه؟ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالألف بعد الكاف على الإفراد والكاف مفتوحة والفاء مكسورة مخففة، والباقون بالألف بعد الفاء على الجمع، فالكاف مضمومة والفاء مفتوحة مشدّدة، فمن قرأ بالإفراد أراد الجنس كقوله تعالى: ﴿إنّ الإنسان لفي خسر﴾ (العصر، ٢) ليوافق قراءة الجمع. وقال عطاء: المستهزؤون وهم خمسة والمقتسمون وهم ثمانية وعشرون. وقال ابن عباس: يريد أبا جهل. قال الرازي: والأوّل هو الصواب، أي: ليوافق قراءة الجمع كما مرّ. ولما تقدّم قوله تعالى: ﴿ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه﴾ (الرعد، ٧) عطف عليه بعد شرح ما استتبعه قوله تعالى:
﴿ويقول الذين كفروا لست مرسلاً﴾، أي: لكونك لا تأتي بمقترحاتهم مع أنه ﷺ لم يقل يوماً: إنه قادر عليها، فكأنه قيل: فما أقول لهم؟ فقال تعالى: ﴿قل﴾ لهم ﴿كفى بالله﴾ الذي له الإحاطة الكاملة ﴿شهيداً﴾، أي: بليغ العلم في شهادته بالإطلاع على ما ظهر وما بطن ﴿بيني وبينكم﴾ يشهد بتأييد رسالتي، وتصحيح مقالتي بما أظهر لي من الآية، وأوضح من الدلالة بهذا الكتاب ويشهد بتكذيبهم بادعائكم القدرة على المعارضة، وترككم لها عجزاً، وهذا أعلى مراتب الشهادة؛ لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظنّ بأن الأمر كما شهد به، والمعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله، واختلف في قوله تعالى: ﴿ومن عنده علم الكتاب﴾ فروى العوفي عن ابن عباس أنهم علماء اليهود والنصارى، أي: أنّ كل من كان عالماً من اليهود بالتوراة، ومن النصارى بالإنجيل علم أنّ محمداً ﷺ مرسل من عند الله لما يجد من الدلائل الدالة على نبوّته فيها شهد بذلك من شهد به وأنكره من أنكره منهم.n
والثاني:
مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة، وقال الكلبي: هذا خاص بمن كان منهم مطيعاً، ونفس السموات والأرضين له وملكه فكل له منقادون، فلا شريك له أصلاً ثم ذكر المدلول الآخر بقوله تعالى:
﴿وهو الذي يبدؤ الخلق﴾ أي: على سبيل التجديد كما تشاهدون، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال ﴿ثم يعيده﴾ أي: بعد الموت للبعث. وفي قوله تعالى ﴿وهو أهون عليه﴾ قولان أحدهما: أنها للتفضيل على بابها، وعلى هذا يقال: كيف يتصوّر التفضيل والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حدّ سواء؟ وفي ذلك أجوبة أحدها: إنّ ذلك بالنسبة إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أنّ إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالباً وإن كان هذا منتفياً عن الباري سبحانه وتعالى، فخوطبوا بحسب ما ألفوه. ثانيها: أنّ الضمير في عليه ليس عائداً على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي: والعود أهون على الخلق أي: أسرع؛ لأنّ البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن صارت إنساناً، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل: وهو أقصر عليه وأيسر وأقل انتقالاً، والمعنى: يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم يعني: أن يقوموا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن يصيروا رجالاً ونساء، وهي رواية الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس. ثالثها: أنّ الضمير في عليه يعود على المخلوق بمعنى: والإعادة أهون على المخلوق أي: إعادته شيئاً بعدما أنشأه، هذا في عرف المخلوقين فكيف ينكرون ذلك في جانب الله تعالى والثاني: أنّ أهون ليس للتفضيل بل هي صيغة بمعنى هين كقولهم: الله أكبر أي: كبير، وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس، وقد يجئ أفعل بمعنى الفاعل كقول الفرزدق:

*إنّ الذي سمك السماء بنى لنا بيتاً دعائمه أعز وأطول*
أي: عزيزة طويلة وعود الضمير على الباري تعالى أولى ليوافق الضمير في قوله تعالى ﴿وله المثل﴾ أي: الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامّة والحكمة الشاملة. قال ابن عباس: هو أنه ليس كمثله شيء، وقال قتادة: هو أنه لا إله إلا هو، قال البيضاوي: ومن فسره بلا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية ﴿الأعلى﴾ أي: الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه، ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال ﴿في السموات والأرض﴾ أي: اللتين خلقهما ولم يستعصيا عليه فكيف يستعصي عليه شيء فيهما ﴿وهو﴾ أي: وحده ﴿العزيز﴾ أي: الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان ﴿الحكيم﴾ أي: الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره إلى التوصل إلى بعض شيء منه، ولا تتمّ حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث بل هي الحكمة العظمى ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير. ولما أبان من هذا أنه تعالى المنفرد بالملك بشمول العلم وتمام القدرة وكمال الحكمة اتصل بحسن أمثاله وإحكام مقاله وفعاله قوله تعالى:
﴿ضرب﴾ أي: جعل ﴿لكم﴾ بحكمته أيها المشركون في أمر الأصنام وبيان الإبطال من يشرك بها وفساد قوله بأجلى ما يكون من التقرير ﴿مثلاً﴾ مبتدأ ﴿من أنفسكم﴾ التي هي أقرب الأشياء إليكم، ثم بين المثل بقوله تعالى: ﴿هل لكم﴾ أي: يا من عبدوا مع
من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعاً إلى الله تعالى. وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا إنّ الله لا يقضي يوم السبت شيئاً.
وسأل بعض الملوك وزيره عن هذه الآية فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يتفكر فيها، فقال له غلام أسود: يا مولاي أخبرني ما أصابك لعل الله تعالى يسهل لك على يدي؛ فأخبره فقال: أنا أفسرها للملك فأعلمه فقال أيها الملك شأن الله تعالى أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحيّ، ويشفي سقيما، ويسقم صحيحا، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا، فقال الأمير: أحسنت، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة، فقال: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى.
وعن عبد الله بن طاهر: أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشف لي قوله تعالى: ﴿فأصبح من النادمين﴾ (المائدة: ٣١)
وقد صح أنّ الندم توبة. وقوله تعالى: ﴿كل يوم هو في شان﴾ وصح أنّ القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة وقوله تعالى: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾ (النجم: ٣٩)
فمعناه ليس له إلا ما يسعى فما بال الأضعاف؟ قال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون في هذه الأمة لأنّ الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل: إنّ ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله، وأما قوله تعالى ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾ فمعناه أنه ليس له إلا ما يسعى عدلاً ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً فضلاً، وأما قوله تعالى: ﴿كل يوم هو شان﴾ فإنها شؤون يبديها لاشؤون يبتديها؛ فقام عبد الله: فقبل رأسه وسوغ خراجه.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ المدبر لكما هذا التدبر العظيم ﴿تكذبان﴾ أي: أبتلك النعم أم بغيرها؟.
﴿سنفرغ لكم﴾ أي سنقصد لحسابكم وجزائكم؛ وقرأ حمزة والكسائي: بعد السين بالياء التحتية والباقون بالنون ﴿أيه الثقلان﴾ أي: الإنس والجنّ وذلك يوم القيامة فإنه تعالى لا يفعل ذلك في غيره قال القرطبي: يقال فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً وتفرّغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلت وليس بالله تعالى شغل يفرغ منه؛ وإنما المعنى سنقصد لمجازاتكم ومحاسبتكم فهو وعيد لهم وتهديد قاله ابن عباس والضحاك؛ كقول القائل لمن يريد تهديده: إذا أتفرّغ لك أي أقصدك وأنشد ابن الأنباري لجرير:
*الآن وقد فرغت إلى نمير فهذا حين كنت لهم عذابا*
يريد: وقد قصدت، وأنشد الزجاج والنحاس:
*فرغت إلى العبد المقيد في الحجل*
وفي حديث النبي ﷺ «أنه لما بايع الأنصار ليلة العقبة صاح الشيطان: يا أهل الحباحب هذا مذمم يبايع بني قيلة على حربكم، فقال النبيّ ﷺ هذا أزبّ العقبة أما والله يا عدوّ الله لأتفرغنّ لك» أي: أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا اختيار الكسائي وغيره. قال ابن الأثير الأزبّ في اللغة الكثير الشعر؛ وهو ههنا شيطان اسمه أزبّ العقبة وهو الحية. وقيل: إنّ الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور ثم قال تعالى: ﴿سنفرغ لكم أيها الثقلان﴾ أي ما وعدناكم ونوصل كلاً إلى ما وعدناه أقسم ذلك وأتفرّغ منه قاله الحسن ومقاتل وابن زيد.
تنبيه: رسمْ ﴿أيه﴾ بغير ألف فإذا وقف عليها وقف أبو عمرو والكسائي أيها بالألف ووقف الباقون على الرسم أيه وفى


الصفحة التالية
Icon