كفرهم في ذلك اليوم ﴿هم﴾ المختصون بأنهم ﴿الظالمون﴾ أي: الكاملون في الظلم لا غيرهم.
وقوله سبحانه:
﴿الله لا إله إلا هو﴾ مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غير ﴿الحيّ﴾ أي: الدائم البقاء ﴿القيوم﴾ أي: الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظهم ﴿لا تأخذه سنة﴾ وهي ما يتقدّم النوم من الفتور، الذي يسمى النعاس، قال ابن الرقاع العاملي:
*وسنان أقصده (أي:

أصابه) النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم*
أي: لا يأخذه نعاس ﴿ولا نوم﴾ وهو حالة تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس.
فإن قيل: تقديم السنة على النوم قياس المبالغة عكسه، أجيب: بأنّ هذا ذكر ترتيب الوجود، إذ وجود السنة سابق على وجود النوم، فهو على طريقة لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، قصداً إلى الإحاطة والإحصاء؛ ولأنه لمّا عبر بالأخذ الذي هو بمعنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة كما لو قيل: فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان، وجملة لا تأخذه سنة ولا نوم نفي للتشبيه بينه وبين خلقه وتأكيد لكونه حياً قيوماً فإن من أخذه نعاس أو نوم كان بآفة تخلّ بالحياة قاصراً في الحفظ والتدبير، ولذلك ترك العاطف فيه.e
وفي الجمل التي بعده من قوله: ﴿له ما في السموات وما في الأرض﴾ إلخ.. وقوله تعالى: ﴿له﴾ أي: بيده وفي تصرّفه واختصاصه ﴿ما في السموات وما في الأرض﴾ أي: ملكاً وخلقاً تقرير لقيوميته، واحتجاج على تفرّده في الألوهية، والمراد بما فيهما ما وجد فيهما داخلاً في حقيقتهما كالكواكب والنبات والمعادن، وخارجاً عنهما متمكناً منهما، كالملائكة والإنس والجنّ.
وقوله تعالى: ﴿من ذا الذي﴾ أي: لا أحد ﴿يشفع عنده إلا بإذنه﴾ له بيان لكبرياء شأنه وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه، يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة وتواضعاً فضلاً أن يدفعه عناداً ومخاصمة ﴿يعلم ما بين أيديهم﴾ في الخلق من أمر الدنيا ﴿وما خلفهم﴾ أي: من أمر الآخرة قاله مجاهد، وقال الكلبي: ما بين أيديهم يعني: الآخرة؛ لأنهم يقدمون عليها وما خلفهم الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم وقيل: ما بين أيديهم ما قدّموا من خير وشرّ وما خلفهم ما هم فاعلوه ﴿ولا يحيطون بشيء﴾ أي: قليل ولا كثير ﴿من علمه﴾ أي: لا يعلمون شيئاً من معلوماته ﴿إلا بما شاء الله﴾ أن يعلمهم به منها بإخبار الرسل ﴿وسع كرسيه السموات والأرض﴾ اختلف في الكرسي فقال الحسن: هو العرش نفسه، وقال أبو هريرة: هو موضع أمام العرش، والأحاديث تدل عليه، ومعنى وسع أنّ سعته مثل سعة السموات والأرض، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة.
ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ السموات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وقال علي ومقاتل: كل قائمة من الكرسي طولها مثل السموات السبع والأرضين السبع، وهو بين يدي العرش، ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام، ملك على صورة أبي البشر آدم عليه الصلاة والسلام، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة، إلى السنة وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور،
بعده صفة.
تنبيه: ذهب جماعة من المحققين إلى أنّ قولنا: الله جار مجرى الاسم العلم لذات الله سبحانه وتعالى، وذهب قوم آخرون إلى أنه لفظ مشتق. قال الرازي: والحق عندنا هو الأوّل؛ لأنّ الأمّة لما اجتمعت على أنّ قولنا: لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أنّ قولنا: الله جار مجرى الاسم العلم. وقد قال تعالى: ﴿هل تعلم له سمياً﴾ (مريم، ٦٥)، أي: هل تعلم من اسمه الله غير الله، وذلك يدل على قولنا: الله اسم لذاته المخصوصة، ولذا استشكل قراءة الجرّ إذ الترتيب الحسن أن يذكر الاسم، ثم يذكر عقبه الصفات كقوله تعالى: ﴿هو الله الخالق البارئ المصور﴾ (الحشر، ٢٤) وأمّا الخالق الله فلا يحسن.
وأجيب عن ذلك بأنه لا يبعد أن تذكر الصفة أوّلاً، ثم يذكر الاسم ثم تذكر الصفة مرّة أخرى كما يقال: مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه، وهو بعينه نظير قوله تعالى: ﴿صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض﴾ والآية تفيد حصر ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره، وذلك ليدلّ على أنه لا مالك إلا الله، ولا حاكم إلا الله، وأنه تعالى خالق لأعمال العباد؛ لأنها حاصلة في السموات والأرض، فوجب القول بأنّ أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله، وإذا ثبت أنها مقدورة لله وجب وقوعها بقدرة الله، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره، وذلك محال، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال تعالى: ﴿وويل للكافرين﴾، أي: الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السموات وما في الأرض، وعبدوا من لا يملك شيئاً البتة، بل هو مملوك لله تعالى؛ لأنه من جملة ما في السموات وما في الأرض، وويل مبتدأ، وجاز الابتداء به؛ لأنه دعاء كسلام عليكم وللكافرين خبره، وقوله تعالى: ﴿من عذاب شديد﴾، أي: يعذبهم في الآخرة متعلق بويل ولا يضر الفصل بالخبر، ثم وصفهم بقوله تعالى:
﴿الذين يستحبون﴾، أي: يختارون ﴿الحياة الدنيا على الآخرة﴾، أي: يؤثرونها عليها ﴿ويصدّون عن سبيل الله﴾، أي: يمنعون الناس عن قبول دين الله ﴿ويبغونها﴾، أي: السبيل ﴿عوجاً﴾، أي: معوجة والأصل ويبغون لها زيغاً وميلاً، فحذف الجار، وأوصل الفعل إلى الضمير ﴿أولئك﴾، أي: الموصوفون بهذه الصفات ﴿في ضلال بعيد﴾، أي: عن الحق وإسناد البعد إلى الضلال إسناد مجازي؛ لأنّ البعيد هم الضلال بميلهم عن الباقي إلى الفاني. ثم ذكر ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين بقوله تعالى:
﴿وما أرسلنا من رسول﴾، أي: في زمن من الأزمان ﴿إلا بلسان﴾، أي: لغة ﴿قومه﴾ أمّا بالنسبة إلى الرسول؛ فلأنه تعالى بين أنّ سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة البشر، وكان هذا الإنعام في حقك أكمل وأفضل، وأمّا بالنسبة إلى عامّة الخلق، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلا بلسان أولئك القوم ﴿ليبين لهم﴾ ما أمروا به فيفهموه عنه بيسر وسرعة؛ لأنّ ذلك أسهل لفهم أسرار تلك الشريعة، والوقوف على حقائقها وأبعد عن الغلط والخطأ.
تنبيه: تمسك طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية بهذه الآية على أن محمداً ﷺ لم يرسل لغير العرب من وجهين:
الأوّل: أن القرآن لما كان نازلاً بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب، وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا عليهم. الثاني: أنّ قوله تعالى:
على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها، وإن عبد غيره قال الله تعالى ﴿ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله﴾ (لقمان: ٢٥)
وقال ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ (الزمر: ٣)
ولكن لا عبرة بالإيمان الفطريّ في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعيّ المأمور به، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين، وقيل: الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله تعالى على الإسلام، روي عن عبد الله بن المبارك قال: معنى الحديث: أن كل مولود يولد على فطرته أي: على خلقته التي جبل عليها في علم الله من السعادة والشقاء، وكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها، فمن علامات الشقاوة أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما، وقيل: معنى الحديث: أنّ كل مولود يولد في مبدأ الفطرة على الخلقة أي: الجبلة السليمة والطبع المتهيء لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرّ على لزومها؛ لأنّ هذا الدين موجود حُسنه في العقول وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من النشوء والتقليد، فمن يسلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره. ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخطابي في كتابه، ولما كانت سلامة الفطرة أمراً مستمرّاً قال تعالى:
﴿لا تبديل لخلق الله﴾ أي: الملك الأعلى الذي لا كفء له فلا يقدر أحد أن يغيره، فمن حمل الفطرة على الدين قال معناه: لا تبديل لدين الله، فهو خبر بمعنى النهي أي: لا تبدّلوا دين الله. قاله مجاهد وإبراهيم. والمعنى: إلزموا فطرة الله أي: دين الله واتبعوه ولا تبدّلوا التوحيد بالشرك، ومن حملها على الخلقة قال: معناه لا تبديل لخلق الله أي: ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة، فلا يصير السعيد شقياً ولا الشقي سعيداً، وقال عكرمة: معناه تحريم إخصاء البهائم أي: في غير المأكول وفي المأكول الكبير، أمّا المأكول الصغير فإنه يجوز، ويلحق بالخصي المحرّم كل تغيير محرّم كالوشم ﴿ذلك﴾ أي: الشأن العظيم ﴿الدين القيم﴾ أي: المستقيم الذي لا عوج فيه توحيد الله تعالى ﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ أن ذلك هو الدين المستقيم لعدم تدبرهم. وقوله تعالى:
﴿منيبين﴾ أي: راجعين ﴿إليه﴾ تعالى فيما أمر به ونهى عنه حال من فاعل أقم، قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم وحدّ الخطاب أوّلاً ثم جمع؟ قلت: خوطب رسول الله ﷺ أوّلاً، وخطاب الرسول خطاب لأمّته مع ما فيه من التعظيم للإمام، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص ﴿واتقوه﴾ أي: خافوه فإنكم وإن عبدتموه فلا تأمنوا أن تزيغوا عن سبيله ﴿وأقيموا الصلاة﴾ أي: داوموا عليها وعلى أدائها في أوقاتها ﴿ولا تكونوا من المشركين﴾ أي: لا تكونوا ممن يدخل في عدادهم بمواددةٍ أو معاشرةٍ أو عملٍ تشابهونهم فيه، فإنه من تشبه بقوم فهو منهم، وهو عامّ في كل مشرك سواء كان بعبادة صنمٍ أونارٍ أو غير ذلك. وقوله تعالى.
﴿من الذين﴾ بدل من المشركين بإعادة الجار ﴿فرّقوا دينهم﴾ أي: الذي هو الفطرة الأولى، فعبد كل قوم منهم شيئاً ودانوا ديناً غير دين مَن سواهم وهو معنى ﴿وكانوا شيعاً﴾ أي: فرقاً متخالفين كل واحدة منهم تتشايع من دان بدينها على من خالفهم حتى كفّر بعضهم بعضاً واستباحوا الدماء والأموال، فعلم قطعاً أنهم كلهم ليسوا على الحق، وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الفاء وتخفيف الراء، والباقون بغير ألف وتشديد
رضي الله تعالى عنهما: هو اللهب الخالص الذي لا دخان له. وقال الضحاك هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس كدخان الحطب وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر وقيل: هو اللهب الأحمر. وقال عمرو: هو النار والدخان جميعاً وحكاه الأخفش عن بعض العرب قال حسان:
*هجوتك فاختضعت لها بذل بقافية تأجج كالشواظ*
وقرأ ابن كثير: بكسر الشين والباقون: بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد مثل صوار من البقر وصوار وهو القطيع من البقر.
واختلف في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ونحاس﴾ فقيل: هو الصفر المعروف يذيبه الله تعالى ويعذبهم به. وقيل: هو الدخان الذي لا لهب معه قاله الخليل، وهو معروف في كلام العرب؛ وأنشد الأعشى:
*تضيء كضوء سراج السلي
... ط لم يجعل الله فيه نحاسا*
وقال ابن برحان والعرب تسمى الدخان نحاساً بضم النون وكسرها، وأجمع القراء على ضمها ا. هـ وقال الضحاك: هو دردري الزيت المغلي. وقال الكسائي: التي لها ريح شديد. ﴿فلا تنتصران﴾ أي فلا تمتنعان ولا ينصر بعضكم بعضاً من ذلك بل يسوقكم إلى المحشر.
﴿فبأي آلاء﴾ أي نعم ﴿ربكما﴾ أي: المدبر لكما هذا التدبير المتقن ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم ـ فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء ـ أم بغيرها؟.
﴿فإذا انشقت السماء﴾ أي: انفرجت، فكانت أبواباً لنزول الملائكة ﴿فكانت وردة﴾ أي: محمرّة مثل الوردة ﴿كالدهان﴾ أي: كالأديم الأحمر على خلاف العهد بها لشدّة حرّ نار جهنم. وقال مجاهد والضحاك وغيرهما: الدهان الدهن والمعنى صارت في صفاء الدهن؛ والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي: تذوب مع جريان الدهن حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها؛ وقال الحسن: كصب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً؛ وجواب إذا فما أعظم الهول.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ أي: الخالق والرازق لكما ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما يكون بعد ذلك؟.
﴿فيومئذ﴾ أي: فتسبب عن يوم إذ انشقت السماء أنه ﴿لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جانّ﴾ أي: سؤال تعرّف واستعلام، بل سؤال تقريع وتوبيخ وملام، وذلك أنه لا يقال له هل فعلت كذا؟ بل يقال له لم فعلت كذا؟ على أنّ ذلك اليوم طويل وهو ذو ألوان تارة يسأل فيه، وتارة لا يسأل والأمر في غاية الشدّة وكل لون من تلك الألوان يسمى يوماً فيسأل في بعض ولا يسأل في بعض وقيل: المعنى ألا يسألون إذا استقروا في النار. وقال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم لأنّ الله تعالى حفظها عليهم وكتبتها الملائكة؛ رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وعن الحسن ومجاهد: لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم؛ دليله قوله تعالى: ﴿يعرف المجرمون بسيماهم﴾ (الرحمن: ٤١).
ورواه مجاهد عنه أيضاً: في قوله تعالى: ﴿فوربك لنسألنهم أجمعين﴾ (الحجر: ٩٢)
وقوله تعالى: ﴿فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان﴾ (الرحمن: ٣٩)
قال لا يسألهم ليعرف ذلك منهم ولكنه يسألهم لم عملتموها سؤال توبيخ؛ وقال أبو العالية: لا يسأل


الصفحة التالية
Icon