مع أنّ ظاهره أمر للكاتب ﴿ولا يأب﴾ أي: لا يمتنع ﴿كاتب﴾ من ﴿أن يكتب﴾ إذا دعي إليها ﴿كما علمه﴾ أي: فضله ﴿ا﴾ بالكتابة فلا يبخل بها بل ينفع الناس بها كما نفعه الله بتعليمها كقوله تعالى: ﴿وأحسن كما أحسن الله إليك﴾ (،) والكاف متعلقة بيأب ﴿فليكتب﴾ تلك الكتابة المعلمة أمر بها بعد النهي عن الإباء تأكيداً ﴿وليملل الذي عليه الحق﴾ أي: وليكن المملل على الكاتب من عليه الحق؛ لأنه المقرّ المشهود عليه والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد جاء بهما القرآن فالإملال ههنا وهو لغة الحجاز والإملاء قوله تعالى: ﴿فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً﴾ (الفرقان، ٥) وهي لغة تميم.
﴿وليتق الله ربه﴾ أي: كل من المملي والكاتب ﴿ولا يبخس﴾ أي: لا ينقص ﴿منه﴾ أي: من الحق أو مما أملى عليه ﴿شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً﴾ أي: مبذراً ﴿أو ضعيفاً﴾ أي: صغيراً أو كبيراً اختل عقله لكبره ﴿أو لا يستطيع أن يملّ هو﴾ لخرس أو جهل باللغة أو نحو ذلك ﴿فليملل وليه﴾ أي: متولي أمره من والد ووصيّ وقيم ووكيل ومترجم ﴿بالعدل﴾ وفي هذا دليل على جريان النيابة في الإقرار. قال البيضاوي: ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل أي: دون المترجم ودونهما فيما لم يتعاطياه ﴿واستشهدوا﴾ أي: وأشهدوا ﴿شهيدين﴾ أي: شاهدين ﴿من رجالكم﴾ أي: البالغين الأحرار والمسلمين دون الصبيان والعبيد والكفار، وأجاز ابن سيرين شهادة العبيد، وأبو حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض ﴿فإن لم يكونا﴾ أي: الشاهدان ﴿رجلين فرجل﴾ أي: فليشهدا والمستشهد رجل ﴿وامرأتان﴾.
وأجمع الفقهاء على أنّ شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين، واختلفوا في غير الأموال فذهبت جماعة إلى أنه تجوز شهادتهنّ مع الرجال في غير العقوبات وهو قول سفيان الثوريّ وأصحاب الرأي، وذهب جماعة إلى أنّ غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين، وذهب الشافعيّ إلى أنّ ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها تثبت بشهادة رجل وامرأتين وشهادة أربع نسوة، واتفقوا على أنّ شهادة النساء غير جائزة في العقوبات ﴿ممن ترضون من الشهداء﴾ أي: من كان مرضياً لدينه وأمانته.
تنبيه: شروط قبول الشهادة سبعة: الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة فمتى فقد شرط منها لم تصح تلك الشهادة، وإنما اشترط التعدّد في النساء لأجل ﴿أن تضل﴾ أي: تنسى ﴿إحداهما﴾ أي: الشهادة لنقص عقلهنّ وضبطهنّ ﴿فتذكر﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون الذال وتخفيف الكاف، والباقون بفتح الذال وتشديد الكاف، وقرأ برفع الراء والباقون بالنصب ﴿إحداهما﴾ أي: الذاكرة ﴿الأخرى﴾ أي: الناسية قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير فتذكر أي: فتجعل إحداهما الأخرى ذكراً يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر، وقرأ حمزة وحده أن تضل إحداهما على الشرط فتذكر بالرفع والتشديد كقوله تعالى: ﴿ومن عاد فينتقم الله منه﴾ (،) وجملة الإذكار محل العلة أي: لتذكر إن ضلت ودخلت على الضلال؛ لأنّ الضلال سبب الإذكار وهم ينزلون كل واحد من السبب والسبب منزلة الآخر ﴿ولا يأب﴾ أي: لا يمتنع ﴿الشهداء إذا ما﴾ أي: إذا ﴿دعوا﴾ لأداء الشهادة والتحمل، فما مزيدة وسموا شهداء على هذا الثاني تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع ﴿ولا تسأموا﴾
الله من شيء في الأرض ولا في السماء} فقيل: من تتمة قول إبراهيم عليه السلام يعني: وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في، أي: مكان، والأكثرون على أنه قول الله تعالى تصديقاً لإبراهيم فيما قال، كقوله تعالى: ﴿وكذلك يفعلون﴾ (النمل، ٣٤)
ولفظة من تفيد الاستغراق، كأنه قيل وما يخفى عليه شيء ما. ولما تم إبراهيم عليه السلام ما دعا به أتبعه الحمد على ما رزقه من النعم بقوله تعالى:
﴿الحمد لله﴾، أي: المستجمع لصفات الكمال ﴿الذي وهب لي﴾، أي: أعطاني ﴿على الكبر﴾، أي: وهب لي وأنا كبير آيس من الولد، قيد الهبة بحال الكبر استعظاماً للنعمة وإظهاراً لما فيه من المعجزة ﴿إسماعيل وإسحاق﴾ ومقدار ذلك السنّ غير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات، فقال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مئة واثنتي عشرة سنة.
فإن قيل: إنّ إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسماعيل وأمّه في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت ما ولد إسحاق، فكيف يمكنه أن يقول ذلك؟ أجيب: بأن هذا يقتضي أنّ إبراهيم إنما ذكر هذا الكلام في زمن آخر لا عقب ما تقدّم من الدعاء. قال الرازي: ويمكن أيضاً أن يقال: إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسماعيل وظهور إسحاق، وإن كان ظاهر الروايات بخلافه انتهى. تنبيه: قوله (على الكبر) بمعنى مع كقوله:
*إني على ما ترين من كبري
... أعلم من حيث يؤكل الكتف
وهو في موضع الحال. ولما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإفصاح والتصريح قال: ﴿إنّ ربي﴾، أي: المحسن إليّ ﴿لسميع الدعاء﴾، أي: لمجيبه. فإن قيل: الله تعالى يسمع كل دعاء أجابه أو لم يجبه؟ أجيب: بأن هذا من قولك: سمع الملك كلامي إذا اعتدّ به وقبله، ومنه سمع الله لمن حمده. المطلوب الخامس: قوله: ﴿رب اجعلني مقيم الصلاة﴾، أي: معدّلاً لها مواظباً عليها.
تنبيه: في الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنّ قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام ﴿واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام﴾ (إبراهيم، ٣٥)
يدل على أنّ ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله تعالى. وقوله: ﴿رب اجعلني مقيم الصلاة﴾ يدل على أنّ فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى، وذلك تصريح بأنّ إبراهيم عليه السلام كان مصراً على أنّ الكل من الله تعالى، وقوله تعالى: ﴿ومن ذرّيتي﴾ عطف على المنصوب في اجعلني، أي: واجعل بعض ذريتي كذلك؛ لأن كلمة من في قوله (ومن ذرّيتي) للتبعيض، وأما ذكر هذا التبعيض، فلأنه علم بإعلام الله تعالى أنه يكون في ذرّيته جمع من الكفار وذلك قوله تعالى: ﴿ولا ينال عهدي الظالمين﴾ (البقرة، ١٢٤)
. المطلوب السادس: أنه عليه السلام لما دعا الله تعالى في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال: ﴿ربنا وتقبل دعاء﴾. قال ابن عباس: يريد عبادتي بدليل قوله تعالى: ﴿وأعتزلكم وما تدعون من دون الله﴾ (مريم، ٤٨)
. وقيل: دعائي المذكور المطلوب السابع قوله:
﴿ربنا﴾، أي: أيها المالك لأمورنا المدبر لنا ﴿اغفر لي﴾ فإن قيل: إنّ طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة ذنب أجيب: بأن المقصود من ذلك الالتجاء إلى الله تعالى، وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته، ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال: ﴿ولوالديّ﴾ فإن قيل: كيف جاز أن يستغفر لوالديه وكانا
ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه بل خالفهما، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك، وربما أفهم ذلك الإعراض عنهما بالكلية فلهذا قال تعالى ﴿وصاحبهما في الدنيا﴾ أي: في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دمت حياً بها ﴿معروفاً﴾ ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والإحتمال وما تقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم، ولما كان ذلك قد يجرّ إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة نفي ذلك بقوله تعالى: ﴿واتبع﴾ أي: بالغ في أن تتبع ﴿سبيل﴾ أي: دين وطريق ﴿من أناب﴾ أي: أقبل خاضعاً ﴿إليّ﴾ لم يلتفت إلى عبادة غيري وهم المخلصون، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله تعالى ولا عن الإخلاص له.
تنبيه: في هذا حث على معرفة الرجال بالحق وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة، فمن كان عمله موافقاً لهما اتبع، ومن كان عمله مخالفاً لهما اجتنب. وإذا كان مرجع أمورهم كلها إليه في الدنيا ففي الآخرة كذلك كما قال تعالى ﴿ثم إليّ﴾ أي: في الآخرة ﴿مرجعكم فأنبئكم﴾ أي: أفعل فعل من يبالغ في التعقيب والاختبار عقب ذلك وتبيينه لأنّ ذلك أنسب شيء للحكمة وتعقب كل شيء بحسب ما يليق به ﴿بما كنتم تعملون﴾ أي: تجيددون عمله من صغير وكبير، وجليل وحقير، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد، فأعد لذلك عدته، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيداً لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال تعالى: وصينا بمثل ما وصى به وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يتبعا في الإشراك فما ظنكم بغيرهما ونزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثاً لم تطعم فيها شيئاً، ولذلك قيل من أناب إليّ هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فإن سعداً أسلم بدعوة أبي بكر له، ثم إن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبتِ إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله تعالى فقال.
﴿يا بني﴾ مجيباً له مستعطفاً مصغراً له بالنسبة إلى حلم شيء من غضب الله تعالى ﴿إنها﴾ أي: الخطيئة ﴿إن تك﴾ وأسقط النون لغرض الإيجاز في الإيصاء ﴿مثقال﴾ أي: وزن، ثم حقرها بقوله ﴿حبة﴾ وزاد في ذلك بقوله ﴿من خردل﴾ أي: إن تكن في الصغر كحبة الخردل، وقرأ نافع مثقال بالرفع على أنّ الهاء ضمير الخطيئة كما مر أو القصة وكان تامة، وتأنيثها الإضافة المثقال إلى الحبة كقول الأعشى:
*وتشرق بالقول الذي قد ذكرته | كما شرقت صدر القناة من الدم* |
رمصاً جعلهن الله تعالى بعد الكبر أتراباً على ميلاد واحد في الاستواء». وروى أنس بن مالك رضى الله عنه يرفعه في قوله تعالى ﴿إنا أنشأناهن إنشاء﴾ قال: هن العجائز العمش الرمص كنّ في الدنيا عمشاً رمصاً. وعن المسيب بن شريك عن النبيّ ﷺ في قوله تعالى: ﴿إنا أنشأناهن إنشاء﴾ قال: «هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقاً جديداً كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً» فلما سمعت عائشة رضى الله عنها ذلك قالت واوجعاه فقال النبي ﷺ «ليس هناك وجع». وعن الحسن رضى الله عنه قال: أتت عجوز النبيّ ﷺ فقالت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز، قال: فولت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول ﴿إنا أنشأناهن إنشاء﴾ » ﴿فجعلناهن﴾ أي: الفرش المنشآت وغيرهن بعظمتنا المحيطة بكل شيء ﴿أبكاراً﴾ أي عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى ولا وجع؛ وذكر المسيب عن غيره: أنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا؛ وقال مقاتل وغيره: هن الحور العين أنشأهن الله تعالى لم تقع عليهن الولادة وقوله تعالى: ﴿عرباً﴾ جمع عروب كصبور وصبر وهي الغنجة المحببة إلى زوجها، وقال الرازي في اللوامع: الفطنة
بمراد الزواج كفطنة العرب؛ وقيل: الحسناء؛ وقيل: المحسنة لكلامها؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هن العواتق. وأنشدوا
*وفي الخباء عروب غير فاحشة | ريا الروادف يعشى دونها البصر* |
«وفي تعلق اللام في قوله تعالى: ﴿لأصحاب اليمين﴾ وجهان أحدهما: أنّها متعلقة بأنشأناهن أي: لأجل أصحاب اليمين والثاني: أنها متعلقة بأتراباً كقولك: هذا ترب لهذا أي: مساو له.