عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها».
وروي أنه ﷺ قال: «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم أربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول: يا رب شقي أم سعيد فيكتبان فيقول: أي رب ذكر أو أنثى فيكتبان فيكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص».
﴿هو الذي أنزل عليك﴾ يا محمد ﴿الكتاب﴾ أي: القرآن ﴿منه آيات محكمات﴾ أحكمت عبارتها بأن حفظت عن الاحتمال والاشتباه فهي واضحات الدلالة ﴿هنّ أمّ الكتاب﴾ أي: أصله المعتمد عليه في الأحكام ويحمل المتشابهات عليها وترد إليها ولم يقل أمّهات الكتاب؛ لأنّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة وكلام الله واحد. وقيل: كل آية منهنّ أمّ الكتاب كما قال تعالى: ﴿وجعلنا ابن مريم وأمّه آية﴾ (المؤمنون، ٥٠) أي: كل واحد منهما آية وقوله تعالى: ﴿وأخر﴾ نعت لمحذوف تقديره وآيات أخر ﴿متشابهات﴾ أي: محتملات لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص والنظر.
فإن قيل: لم جعل بعضه متشابهاً وهلا كان كله محكماً؟ أجيب: بأن في المتشابه من الإبتلاء حكمة عظيمة وهي التمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه وليظهر فيها فضل العلماء ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها فينالوا بها، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها والتوفيق بينها وبين المحكمات الدرجات العلى عند الله.
فإن قيل: لم فرق هنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكماً في موضع آخر فقال ﴿الر كتاب أحكمت آياته﴾ (هود، ١) وجعل كله متشابهاً في موضع آخر فقال ﴿الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً﴾ (الزمر، ٢٣) أجيب: بأنه حيث جعل الكل محكماً فمعناه أنّ آياته حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ. وحيث جعل الكل متشابهاً فمعناه أنّ آياته يشبه بعضها بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ.
تنبيه: أخر جمع أخرى وإنما لم ينصرف؛ لأنه وصف معدول عن الأخريات ففيه الوصف والعدل وهما علتان يمنعان الصرف ﴿فأمّا الذين في قلوبهم زيغ﴾ أي: ميل عن الحق كالمبتدعة ﴿فيتبعون ما تشابه منه﴾ أي: فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل ﴿ابتغاء الفتنة﴾ أي: طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه ﴿وابتغاء تأويله﴾ أي: وطلب أن يؤولوه على ما يشتهونه ﴿وما يعلم تأويله﴾ أي: الذي يجب أن يحمل عليه ﴿إلا الله والراسخون في العلم﴾ أي: الذين ثبتوا وتمكنوا فيه وسئل مالك بن أنس عن الراسخين في العلم قال: العالم العامل بما علم المتبع. وقال غيره: هو من وجد في علمه أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله تعالى، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.
تنبيه: اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم: الواو في قوله ﴿والراسخون﴾ واو العطف أي: أنّ تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم
النبوّة والقول بالنبوّة مفرع على القول بالتوحيد ودلائل التوحيد منها سماوية ومنها أرضية بدأ منها بذكر الدلائل السماوية فقال مفتتحاً بحرف التوقع:
﴿ولقد جعلنا﴾ بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة. ﴿في السماء بروجاً﴾ قال الليث: البروج واحدها برج من بروج الفلك، والبروج هي النجوم الكبار مأخوذة من الظهور يقال: تبرجت المرأة إذا ظهرت وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس والقمر والكواكب السيارة وهي اثنا عشر برجاً الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت وهي منازل الكواكب السبعة السيارة المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة ولها الثور والميزان، وعطارد وله الجوزاء والسنبلة، والقمر وله السرطان، والشمس ولها الأسد، والمشتري وله القوس والحوت، وزحل وله الجدي والدلو. وهذه البروج مقسومة على ثلاثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرّة وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوماً. قال ابن عباس في هذه الآية: يريد بروج الشمس والقمر يعني منازلهما وقال عطية: هي قصور في السماء عليها الحرس. وقال مجاهد: هي النجوم العظام. قال أبو إسحاق: يريد نجوم هذه البروج. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالإدغام. ﴿وزيناها﴾، أي: السماء بالشمس والقمر والنجوم والأشكال والهيئات البهية ﴿للناظرين﴾، أي: المعتبرين المستدلين بها على توحيد خالقها ومبدعها وهو الله الذي أوجد كل شيء وخلقه وصوّره.
﴿وحفظناها من كل شيطان رجيم﴾، أي: مرجوم وقيل: ملعون. قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الله لغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد محمد ﷺ منعوا من السموات كلها فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، فلما منعوا تلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال: لقد حدث في الأرض حدث فبعثهم ينظرون فوجدوا رسول الله ﷺ يتلو القرآن فقالوا: والله هذا حدث وقوله تعالى: ﴿إلا من استرق السمع﴾ بدل من كل شيطان رجيم. وقيل استثناء منقطع، أي: لكن من استرق السمع واستراق السمع اختلاسه. قال ابن عباس: يريد الخطفة اليسيرة وذلك أنّ الشياطين يركب بعضهم بعضاً إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب كما قال تعالى: ﴿فأتبعه شهاب مبين﴾ وهو شعلة من نار ساطعة وقد يطلق على الكواكب لما فيها من البريق يشبه شهاب النار فلا يخطئ أحداً فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه أو جنبه أو يده حيث يشاء الله. ومنهم من يخبله فيصير غولاً فيضل الناس في البوادي. روى أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «إذا قضي الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العليّ الكبير، فيسمعها مسترقو السمع» ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض. ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدّد بين أصابعه
بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة، ويدل على ذلك وجهان: الأوّل: أن المعلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان فالزمان منحصر في سبعة أيام والمكان منحصر في سبعة أقاليم، ولأنّ الكواكب السيارة سبعة والمنجمون ينسبون إليها أموراً فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير.
ومنه قوله ﷺ «المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» الثاني: أن في السبعة معنى يخصها ولذلك كانت السموات سبعاً والأرضون سبعاً وأبواب جهنم سبعاً وأبواب الجنة ثمانية، لأنها الحسنى وزيادة، فالزيادة هي الثامن؛ لأن العرب عند الثامن يزيدون واو تقول القراء لها واو الثمانية وليس ذلك إلا للإستئناف لأنّ العدد تم بالسبعة، ثم بين نتيجة ذلك بقوله تعالى: ﴿إن الله﴾ أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿عزيز﴾ أي: كامل القدرة لا نهاية لمقدوراته ﴿حكيم﴾ أي: كامل العلم لا نهاية لمعلوماته.
تنبيه: قد علم مما تقرّر أنّ الآية من الاحتباك ذكر الأقلام دليلاً على حذف مدادها وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلاً على حذفها في الأشجار، ولما ختم تعالى بهاتين الصفتين بعد إثبات القدرة على الإبداع من غير انتهاء ذكر بعض آثارها في البعث بقوله تعالى:
﴿ما خلقكم﴾ أي: كلكم في عزته وحكمته إلا كخلق نفس واحدة، وأعاد النافي نصاً على كل واحد من الخلق والبعث على حدته بقوله تعالى: ﴿ولا بعثكم﴾ أي: كلكم ﴿إلا كنفس﴾ أي: كبعث نفس، وبين الأفراد تحقيقاً للمراد تأكيداً للسهولة بقوله تعالى: ﴿واحدة﴾ فإن كلماته مع كونها غير نافذة نافذة وقدرته مع كونها باقية بالغة فنسبة القليل والكثير إلى قدرته على حدّ سواء؛ لأنه لا يشغله شأن، عن شأن، ثم دل على ذلك بقوله تعالى: مؤكداً ﴿إن الله﴾ أي: الملك الأعلى ﴿سميع﴾ أي: بالغ السمع يسمع كل مسموع ﴿بصير﴾ أي: بليغ البصر يبصر كل مبصر لا يشغله شيء عن شيء، ولما قرّر تعالى هذه الآية الخارقة دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرّتين بقوله تعالى:
﴿ألم تر﴾ وهو محتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الخطاب مع النبيّ ﷺ الأكثر وكأنه تعالى ترك الخطاب مع غيره؛ لأن من هو غيره من الكفار لا فائدة في الخطاب معهم ومن هو غيره من المؤمنين فهم تبع له، والوجه الثاني: المراد منه الوعظ والواعظ يخاطب ولايعين أحداً فيقول لجمع عظيم: يا مسكين إلى الله مصيرك فمن نصيرك ولماذا تقصيرك ﴿أنّ الله﴾ أي: بجلاله وعز كماله ﴿يولج﴾ أي: يدخل إدخالاً لا مرية فيه ﴿الليل في النهار﴾ فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه فإذا النهار قد عمّ الأرض كلها أسرع من اللمح ﴿ويولج النهار﴾ أي: يدخله كذلك ﴿في الليل﴾ فيخفى حتى لا يبقى له أثر فإذا الليل قد طبق الآفاق مشارقها ومغاربها في مثل الطرف فيميز سبحانه كلاً منهما من الآخر بعد اضمحلاله فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره ﴿وسخر الشمس﴾ آية للنهار يدخل الليل فيه ﴿والقمر﴾ أي: آية لليل كذلك ثم استأنف ما سخرا فيه بقوله تعالى: ﴿كل﴾ أي: منهما ﴿يجري﴾ أي: في فلكه سائراً متمادياً وبالغاً ومنتهياً ﴿إلى أجل مسمى﴾ لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك
ابن عادل: والصحيح أنّ المراد بالكتاب: المصحف الذي بأيدينا لما روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم «لا يمس القرآن إلا طاهر»، وقال ابن عمر قال النبيّ ﷺ «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالمصحف ﴿لا يمسه إلا المطهرون﴾ فقام فاغتسل وأسلم، وعلى هذا قال قتادة وغيره معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس انتهى.
وقال ابن عباس: ﴿مكنون﴾ محفوظ عن الباطل والكتاب هنا كتاب في السماء، وقال جابر: هو اللوح المحفوظ، أي: لقوله تعالى: ﴿بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ﴾ (البروج: ٢١ ـ ٢٢)
وقال عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن، وقال السدي: الزبور وقيل: لا من «لا يمسه» نافية والضمة في لا يمسه ضمة إعراب وعلى هذا ففي الجملة وجهان: أحدهما: أن محلها الجرّ صفة لكتاب، والمراد به: إمّا اللوح المحفوظ والمطهرون حينئذ الملائكة، أو المراد به المصحف والمراد بالمطهرون الملائكة كلهم، والثاني: محلها رفع صفة لقرآن والمراد بالمطهرين: الملائكة فقط أي: لا يطلع عليه، لأنّ نسبة المس إلى المعاني متعذرة وقيل: إنها ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لوفك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى: ﴿لم يمسسهم سوء﴾ (آل عمران: ١٧٤)
ولكنه أدغم، ولما أدغم حرّك بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب، وفي الحديث: «إنا لم نرده عليكما إلا أنا حرم» بضم الدال، وإن كان القياس يقتضي جواز فتحها تخفيفاً، وبهذا ظهر فساد رد من رد بأنّ هذا لو كان نهياً كان يقال لا يمسه بالفتح لأنه خفي عليه وانضم ما قبل الهاء في هذا التحويل لا يجوّز سيبويه غيره.
واختلفوا في المس المذكور في الآية فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة وقال أبو العالية وابن زيد: هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، وقال الكلبي: هم السفرة الكرام البررة وهذا كله قول واحد وهو اختيار مالك، وقال الحسن: هم الملائكة الموصوفون في سورة عبس في قوله تعالى: ﴿صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة﴾ (عبس: ١٣ ـ ١٦)
وقيل: معنى لا يمسه لا ينزل به إلا المطهرون أي: إلا الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون، ولو كان المراد طهر الحدث لقال المتطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء ومن قال بالأوّل قال: المطهرون يعني المتطهرون.
تنبيه: اختلف العلماء في مس المصحف وحمله على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي، وأما الحمل فلأنه أبلغ من المس سواء حمله بعلاقته أم في كمه أم على رأسه وسواء مس نفس الأسطر أم ما بينها أم الحواشي أم الجلد أم العلاقة أم الخريطة أم الصندوق إذا كان المصحف فيهما، وسواء مس بأعضاء الوضوء أم بغيرها؛ وقال جماعة بجواز مسه وحمله واحتجوا بأنّ النبيّ ﷺ كتب إلى هرقل كتاباً فيه قرآن، وهرقل محدث يمسه هو وأصحابه، وبأنّ الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، وبأنه إذا لم تحرم القراءة فالحمل والمس أولى، وبأنه يجوز حمله


الصفحة التالية
Icon