للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسط الفصل لإظهار قدرهم والترغيب في اقتضاء أثرهم وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحاً لأنه يشق الأرض فهم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة.
ولما ذكر الله تعالى خاصة عباده وخاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح عقبهم بذكر أضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر بقوله تعالى:
﴿إن الذين كفروا﴾ الكفر لغة ستر النعمة وأصله الكفر بالفتح وهو الستر ومنه قيل للزراع والليل كافر ولكمام الثمر كافور، وفي الشرع إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، وينقسم إلى أربعة أقسام: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق، فكفر الإنكار هو أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به، وكفر الجحود هو أن يعرف الله بقلبه ولا يقرّ بلسانه ككفر إبليس واليهود قال الله تعالى: ﴿فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به﴾ (البقرة، ٨٩) وكفر العناد هو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول:

*ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا*
*لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا*
وأمّا كفر النفاق فهو أن يقرّ باللسان ولا يعتقد بالقلب وجيع هذه الأقسام من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له قال الله تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به﴾ (النساء، ٤٨ ـ ١١٦).
تنبيه: احتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي نحو: ﴿إن الذين كفروا﴾ (البقرة، ٦) ﴿إنا نحن نزلنا الذكر﴾ (الحجر، ٩) ﴿إنا أرسلنا نوحاً﴾ (نوح، ١) على حدوث القرآن لاستدعاء ما جاء فيه بلفظ الماضي سابقية المخبر عنه والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بغيره فأجاب أهل السنة: بأن ما جاء فيه بلفظ الماضي مقتضى تعلق الحكم بالخبر عنه وحدوث مقتضى التعلق لا يستلزم حدوث المخبر عنه فلا يستلزم حدوث كلام الله كما في عمله تعالى فإنه قديم ومقتضى تعلقه بغيره حادث والحاصل أنه لا يلزم من حدوث مقتضى التعلق وهو الكلام اللفظيّ حدوث الكلام النفسيّ. ﴿سواء عليهم﴾ أي متساوٍ لديهم ﴿أأنذرتهم أم لم تنذرهم﴾ أي: خوّفتهم وحذرتهم أم لا والإنذار إعلام مع تخويف وتحذير فكل منذر معلم وليس كل معلم منذراً وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشدّ تأثيراً في النفس من حيث أن دفع الضرر أهمّ من جلب النفع فإذا لم ينفع فيهم الإنذار كانت البشارة بعدم النفع أولى ﴿لا يؤمنون﴾ بما جئت به وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله تعالى كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما فلا تطمع في إيمانهم، واحتجّ بهذه الآية من جوّز تكليف ما لا يطاق فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان فلو آمنوا وقع الخلف في كلامه تعالى وهو محال والحق أن التكليف بالممتنع لذاته جائز عقلاً غير واقع بخلاف التكليف بالممتنع لغيره كالذي تعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه فإنه جائز وواقع اتفاقاً.
تنبيه: هاهنا همزتان مفتوحتان من كلمة فقالون وأبو عمرو يسهلان الثانية ويدخلان بينهما ألفاً وكذا ورش وابن كثير إلا أنهما لم يدخلا ألفاً بينهما ولورش وجه آخر وهو أن يبدل الثانية حرف مدّ، وهشام له وجهان: تسهيل الهمزة الثانية وتحقيقها مع إدخال ألف بينهما
﴿قل﴾ أي: قل لهم يا محمد إن كان الأمر كما تقولون ﴿فأتوا بسورة مثله﴾ في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم، فأنتم عرب مثله في البلاغة والفطنة. فإن قيل: هل يتناول ذلك جميع السور الصغار والكبار أو يختص بالسور الكبار؟ أجيب: بأنّ هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فيكون المراد مثل هذه السورة؛ لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه، هكذا أجاب الرازي، والأولى التناول لجميع السور؛ فإنهم لا يقدرون أن يأتوا بأقصر سورة. فإن قيل: لم قال في البقرة ﴿بسورة من مثله﴾ (البقرة، ٢٣) وهنا ﴿بسورة مثله﴾ ؟ أجيب: بأنه ﷺ لم يقرأ ولم يكتب ولم يتتلمذ لأحد فقيل في سورة البقرة: ﴿فأتوا بسورة من مثله﴾ بناء على أنّ الضمير يرجع للنبيّ ﷺ أي: فليأت إنسان يساوي محمداً ﷺ في عدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز، فهذا لا يدل على أنّ السورة في نفسها معجزة، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد ﷺ في عدم التعلم والتتلمذ معجز. ثم بيّن تعالى في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجزة فإنّ الخلق وإن تتلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور وهو المراد من قوله تعالى: ﴿وادعوا من استطعتم﴾ أي: فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به ﴿من دون الله﴾ أي: غيره؛ فإنه تعالى وحده قادر على ذلك ﴿إن كنتم صادقين﴾ أي: في أني أتيت به من عندي؛ لأنَّ العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر.
تنبيه: مراتب تحدّي رسول الله ﷺ بالقرآن ستة: أوّلها: أنه تحداهم بكل القرآن كما قال تعالى: ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً﴾ (الإسراء، ٨٨). ثانيها: أنه تحدّاهم بعشر سور فقال تعالى: ﴿فأتوا بعشر سور مثله مفتريات﴾ (هود، ٣٢). ثالثها: أنه تحدّاهم بسورة واحدة كما قال تعالى: ﴿فأتوا بسورة من مثله﴾ (البقرة، ٢٣). رابعها: أنه تحدّاهم بحديث مثله. خامسها: أن في تلك المراتب الأربعة كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله ﷺ في عدم التلمذة والتعلم، ثم في هذه السورة طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي: إنسان سواء تعلم العلوم أم لم يتعلمها. سادسها: أنّ في المراتب المتقدّمة تحدي واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الاتيان بهذه المعارضة، كما قال تعالى: ﴿وادعوا من استطعتم من دون الله﴾ وههنا آخر المراتب فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أنّ القرآن معجز، ثم إنَّ الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا بالقرآن فقال تعالى:
﴿بل كذبوا﴾ أي: أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك ﴿بما لم يحيطوا بعلمه﴾ أي: القرآن أوّل ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته من غير شبهة أصلاً بل عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم، فهو من باب: مَنْ جَهِلَ شيئاً عاداه، والإحاطة إدارة ما هو كالحائط حول الشيء وإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه ﴿ولما يأتهم﴾ أي: إلى زمن تكذيبهم ﴿تأويله﴾ أي: تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب وعاقبة ما فيه من الوعيد حتى يتبين لهم
صدق} أي: ذكراً جميلاً وقبولاً عاماً وثناءً حسناً بما أظهرت من خصال الخير ﴿في الآخرين﴾ أي: من الناس الذين يوجدون بعدي إلى يوم الدين لأكون للمتقين إماماً، فيكون لي مثل أجورهم، فإنّ من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، قال ابن عباس: أعطاه الله تعالى بقوله: ﴿وتركنا عليه في الآخرين﴾ (الصافات: ٧٨)
أنّ أهل الإيمان يتولونه ويثنون عليه وقد جعله الله شجرة مباركة فرع منها الأنبياء الذين أحيا الله تعالى بهم ذكره الذي من أعظمه ما كان على لسان أعظمهم النبيّ الأميّ ﷺ من قوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إلى آخره، ولما طلب عليه السلام سعادة الدنيا وكان لا نفع لها إلا باتصالها بسعادة الآخرة التي هي الجنة طلبها بقوله:
﴿واجعلني﴾ أي: مع ذلك كله بفضلك ورحمتك ﴿من ورثة جنة النعيم﴾ لأنّ فيها النظر إلى وجه الله الكريم وهو السعادة الكبرى، شبهها بالأرض الذي يحصل بغير اكتساب إشارة إلى أنها لا تنال إلا بمنه وكرمه لا بشيء من ذلك، ولما دعا لنفسه ثنى بأحق الخلق ببره بقوله:
﴿واغفر لأبي﴾ بالهداية والتوفيق إلى الإيمان لأنّ المغفرة مشروطة بالإيمان وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط، فقوله: ﴿واغفر لأبي﴾ كأنه دعاء له بالإيمان، وقيل: إنّ أباه وعده بالإسلام لقوله تعالى: ﴿وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه﴾ (التوبة: ١١٤)
فدعا له قيل: أن يتبين له أنه عدوّ لله كما سبق في سورة التوبة، وقيل: إنّ أباه قال له أنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً وتقيةً وخوفاً فدعا له لاعتقاده أنّ الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، ولذلك قال في دعائه ﴿إنه كان من الضالين﴾ فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضالّ لما قال ذلك، وقيل: إن الاستغفار للكفار لم يكن ممنوعاً إذ ذاك.
﴿ولا تخزني﴾ أي: تفضحني ﴿يوم يبعثون﴾ أي: العباد، فإن قيل: كان قوله: ﴿واجعلني من ورثة جنة النعيم﴾ كافياً عن هذا وأيضاً قال تعالى: ﴿إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين﴾ (النحل: ٢٧)
فما كان نصيب الكفار فقط كيف يخافه المعصوم؟ أجيب: بأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فكذا درجات الأبرار خزي المقرّبين وخزي كل واحد بما يليق به، ولما نبه عليه السلام على أنّ المقصود هو الآخرة صرح بالتنزيه في الدنيا بقوله:
﴿يوم لا ينفع﴾ أي: أحداً ﴿مال﴾ أي: يفتدى به أو يبذله لشافع أو ناصر وقاهر ﴿ولا بنون﴾ ينتصر بهم أو يعتضد فكيف بغيرهم، وفي استثناء قوله:
﴿إلا من﴾ أوجه: أحدها: أنه منقطع وجرى عليه الجلال المحلي أي: لكن من ﴿أتى الله بقلب سليم﴾ فإنه ينفعه ذلك، الثاني: أنه مفعول به لقوله تعالى: لا ينفع أي: لا ينفع المال والبنون إلا هذا الشخص فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البرّ وبنوه الصلحاء لأنه علمهم وأحسن إليهم، الثالث: أنه بدل من المفعول المحذوف ومستثنى منه إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلا من كانت هذه صفته.
واختلف في القلب السليم على أوجه: قال الرازي أصحها: أنّ المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة، الثاني: أنه الخالص من الشرك والنفاق وهو قلب المؤمن وجرى على هذا الجلال المحلي وأكثر المفسرين، فإنّ الذنوب قل أن يسلم
من أوامرنا ﴿الذين كفروا﴾ أي: ستروا بغفلتهم وتماديهم الأدلة الظاهرة ﴿على النار﴾ عرض الجند على الملك، فيسمعون من تغيظها وزفيرها ما لو قدّر أن أحداً يموت في ذلك اليوم لماتوا من معاينته، وهائل رؤيته ثم يقال لهم ﴿أليس هذا﴾ أي: الأمر الذي كنتم به توعدون، ولرسلنا في إخبارهم به تكذبون ﴿بالحق﴾ أي: الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، أم هو خيال وسحر ﴿قالوا﴾ أي: مصدّقين حيث لا ينفعهم التصديق ﴿بلى﴾ وما كفاهم البدار إلى تكذيب أنفسهم حتى أقسموا عليه بقولهم: ﴿وربنا﴾ أي إنه لحق هو أثبت الأشياء، وليس فيه شيء مما يقارب السحر.
تنبيه: المقصود من هذا الاستفهام التحكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. ﴿قال فذوقوا العذاب﴾ أي: باشروه مباشرة الذائق باللسان. ومعنى الأمر؛ الإهانة بهم والتوبيخ لهم ثم صرّح بالسبب فقال تعالى: ﴿بما كنتم﴾ أي: خلقاً مستمرّاً ﴿تكفرون﴾ في دار العمل.
ولما قرّر تعالى المطالب الثلاثة؛ وهي التوحيد، والنبوّة، والمعاد. وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة لنبيه محمد ﷺ وذلك لأنّ الكفار كانوا يؤذونه ويوحشون صدره. فقال تعالى:
﴿فاصبر﴾ أي: على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة، وعلى أذى قومك قال القشيري: الصبر، هو الوثوق بحكم الله تعالى والثبات من غير بث ولا استكراه ﴿كما صبر أولو العزم﴾ أي: الثبات والجدّ في الأمور. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أولو الحزم وقوله تعالى: ﴿من الرسل﴾ يجوز فيه أن تكون ﴿من﴾ تبعيضية وعلى هذا فالرسل: أولو عزم وغير أولي عزم ويجوز أن تكون للبيان، وعليه جرى الجلال المحلي فكلهم على هذا أولو عزم.
قال ابن زيد كل الرسل كانوا أولي عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض كما يقال: اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز. وقال بعضهم: الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعلة كانت فيه. ألا ترى أنه قيل لنبينا ﷺ ﴿ولا تكن كصحاب الحوت﴾ (القلم: ٤٨)
وقال قوم: هم نجباء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر لقوله تعالى بعد ذكرهم ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ (الأنعام: ٩٠)
وقال الكلبيّ هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الله تعالى وقيل: هم ستة؛ نوح وهود وصالح ولوط. وشعيب وموسى. وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء وقال مقاتل: هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد ولده، وذهاب بصره ويوسف صبر في الجب والسجن، وأيوب صبر على الضرّ. وقال ابن عباس وقتادة هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، أصحاب الشرائع فهم مع محمد ﷺ خمسة ونظمهم بعضهم في بيت فقال:
*محمد إبراهيم موسى كليمه فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم*
قال البغوي: ذكرهم الله تعالى على التخصيص في قوله تعالى ﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم﴾ (الأحزاب: ٧)
وفي قوله تعالى: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً﴾ (الشورى: ١٣)
الآية.
وعن مسروق قال «قالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله ﷺ يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم


الصفحة التالية
Icon