الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.
فإن قيل: أي فرق بين القراءتين من جهة المعنى؟ أجيب: بأنّ معنى قراءة التاء الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم فهو إخبار بما سيغلبون ويحشرون وهو الكائن من نفس المتوعد به والذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكى لهم ما أخبره به من وعيد بلفظه كأنه قال: أد إليهم هذا القول الذي هو قولي لك سيغلبون ويحشرون.
﴿قد كان لكم آية﴾ أي: عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستغلبون.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل قد كانت؛ لأنّ الآية مؤنثة؟ أجيب: بأنه إنما ذكر الفعل للفصل بينه وبين الإسم المؤنث بلكم فإن الفصل مسوغ لذلك مع المؤنث الحقيقي كقوله:

*إنّ امرأ غره منكنّ واحدة بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور*
قال الفرّاء: وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه والخطاب لمشركي قريش وقيل: لليهود وقيل: للمؤمنين ﴿في فئتين﴾ أي: فرقتين ﴿التقتا﴾ يوم بدر ﴿فئة﴾ مؤمنة ﴿تقاتل في سبيل الله﴾ أي: طاعته وهم النبيّ ﷺ وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان فرس للمقداد بن عمرو وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجالة وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف ﴿و﴾ فئة ﴿أخرى كافرة﴾ تقاتل في سبيل الشيطان وهم مشركو مكة وقوله تعالى: ﴿يرونهم مثليهم﴾ قرأ نافع بالتاء على الخطاب أي: ترى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويوقنوا بالنصر الذي وعدهم به في قوله: ﴿إن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين﴾ (الأنفال، ٦٦) بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى: ﴿إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين﴾ (الأنفال، ٦٥) والباقون بالياء على الغيبة أي: يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين وكانوا تسعمائة وخمسين أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر.
فإن قيل: هذا مناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال ﴿ويقللكم في أعينهم﴾ (الأنفال، ٤٤) أجيب: بأنه قللهم أوّلاً حتى اجترؤوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا إمداداً من الله تعالى للمؤمنين في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين ﴿رأي﴾ أي: في رأي ﴿العين﴾ أي: رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات وقد نصرهم الله تعالى مع قلتهم ﴿وا يؤيد﴾ أي: يقوي ﴿بنصره من يشاء﴾ نصره كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدوّ ﴿إنّ في ذلك﴾ المذكور ﴿لعبرة﴾ أي: عظة ﴿لأولي الأبصار﴾ أي: لذوي البصائر أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنون.
﴿زين للناس حب الشهوات﴾ أي: ما تشتهيه النفس، وتدعو إليه، والمزين هو الله تعالى للإبتلاء كقوله تعالى: ﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم﴾ (الكهف، ٧) أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع الإنساني أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله وقيل: الشيطان هو المزين، وذهب إليه المعتزلة واستدلوا بقول الحسن: الشيطان والله زينها لأنا لا نعلم أحداً أذم لها من خالقها، وإنما سميت شهوات مبالغة وإيماء إلى أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحيوا شهواتها كقوله تعالى:
في كتب الشيعة عن محمد بن علي الباقر أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر سمي إنساناً لظهوره وإدراك البصر إياه، وقيل: من النسيان لأنه عهد إليه فنسى. ﴿من صلصال﴾، أي: من الطين الشديد اليابس الذي لم تصبه نار، إذا نقرته سمعت له صلصلة، أي: صوتاً. وقال ابن عباس: هو الطين إذا نضب عنه الماء تشقق فإذا حرّك تقعقع. وقال مجاهد: هو الطين المنتن واختاره الكسائي وقال الفراء: هو طين خلط برمل فصار له صوت عند نقره. وقال الرازي: قال المفسرون: خلق الله تعالى آدم من طين فصوّره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالاً لا يدري أحد ما يراد به ولم يروا شيئاً من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح. ﴿من حمأ﴾، أي: طين أسود منتن ﴿مسنون﴾، أي: مصوّر بصورة الآدمي. وقال ابن عباس: هو التراب المبتل المنتن. وقال مجاهد: هو المنتن المتغير. قال البغوي: وفي بعض الآثار إنّ الله تعالى خمر طينة آدم وتركه حتى صار متغير أسود ثم خلق منه آدم عليه السلام. قال ابن الخازن: والجمع بين هذه الأقوال على ما ذكره بعضهم أنّ الله تعالى لما أراد خلق آدم عليه السلام قبض قبضة من تراب الأرض وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب﴾ (آل عمران، ٥٩)
ثم إنّ ذلك التراب بله بالماء وحمأ حتى اسودّ وأنتن ريحه وتغير وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿من حمأ مسنون﴾ ثم إنّ ذلك الطين الأسود المتغير صوّره الله صورة إنسان أجوف فلما جف ويبس كانت تدخل فيه الريح فيسمع له صلصلة وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿من صلصال كالفخار﴾ (الرحمن، ١٤)
وهو الطين اليابس يفخر في الشمس ثم نفخ فيه الروح فكان بشراً سوياً. ولما ذكر سبحانه وتعالى خلق الإنسان ذكر ما خلقه قبل من الجان فقال تعالى:
﴿والجانّ﴾ قال ابن عباس: هو أبو الجن كما أنّ آدم عليه السلام أبو البشر وإبليس أبو الشياطين وفي الجنّ مسلمون وكافرون ويأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم، وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون ولا يموتون إلا إذا مات إبليس. وقال وهب: إنّ من الجنّ من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ومن الجنّ من هو بمنزلة الريح لا يتولدون ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين. قال ابن الخازن: والأصح أنّ الشياطين نوع من الجنّ لاشتراكهم في الاستتار سموا جناً لتواريهم واستتارهم عن الأعين، من قولهم جنّ الليل إذا ستر والشيطان هو العاتي المتمرّد الكافر، والجنّ منهم المؤمن ومنهم الكافر وانتصاب الجان بفعل يفسره. ﴿خلقناه من قبل﴾، أي: قبل خلق الإنسان ﴿من نار السموم﴾، أي: من ريح حارة تدخل مسام الإنسان فتقتله من قوّة حرارتها. قال الرازي: فالريح الحارة فيها نار وبها فيح كما ورد في الخبر أنها من فيح جهنم انتهى. ويقال: السموم بالنهار والحرور بالليل. وقال الكلبي: عن أبي صالح السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها وهي نار تكون بين السماء وبين الحجاب فإذا أحدث الله تعالى أمراً خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به فالهدّة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب. وعن ابن عباس هذه السموم جزء من سبعين جزءاً من السموم التي خلق منها الجان، وتلا هذه الآية. وعن الضحاك عن ابن عباس كان إبليس من حي من الملائكة يقال لهم الجنّ خلقوا من نار السموم، وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن ﴿من مارج من نار﴾ (الرحمن، ١٥)، وأمّا الملائكة فخلقوا
فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية، وعن قتادة قال: خمس من الغيب استأثر الله بهنّ فلم يطلع عليهنّ ملكاً مقرّباً ولا نبياً مرسلاً: إنّ الله عنده علم الساعة فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي: سنة ولا في أي: شهر أليلاً أم نهاراً، وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل أليلاً أم نهاراً، ويعلم ما في الأرحام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى أحمر أم أسود، ولا تدري نفس ماذا تكسب غداً أخيراً أم شراً، وما تدري نفس بأي أرض تموت ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في برّ أم سهل أم جبل.
وعن أحمد وابن أبي شيبة موقوفاً على شهر بن حوشب أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ فقال: ملك الموت، فقال: فكأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند، فأمر سليمان الريح فحلمته إلى بلاد الهند فوق سحابة فلما استقرّ فيها قبض روحه ملك الموت، عليه السلام ثم جاء إلى سليمان عليه السلام فسأله عن نظره إلى الرجل، فقال ملك الموت: كان دوام نظري إليه تعجباً منه إذا أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك، وعن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا متى تقوم الساعة إلا الله، ولا ما في الأرحام إلا الله، ولا متى ينزل الغيث إلا الله، وما تدري نفس بأي: أرض تموت إلا الله».
وعن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أنّ رجلاً قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثكم بأشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة الرعاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها. وخمس من الغيب لا يعلمهنّ إلا الله، ثم تلا إنّ الله عنده علم الساعة إلى آخر الآية، وعن أبي أمامة أنّ إعرابياً وقف على النبي ﷺ يوم بدر على ناقة له عشراء فقال: يا محمد ما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له رجل من الأنصار: دع عنك رسول الله ﷺ وهلم إلي حتى أخبرك، وقعت أنت عليها وفي بطنها ولد منك، فأعرض عنه رسول الله ﷺ ثم قال: «إنّ الله يحب كل حيي كريم ويبغض كل قاس لئيم متفحش ثم أقبل على الأعرابي فقال خمس لا يعلمهنّ إلا الله إنّ الله عنده علم الساعة الآية» وعن سلمة بن الأكوع قال: كان رسول الله ﷺ في قبة حمراء إذ جاءه رجل على فرس فقال له من أنت: «قال أنا رسول الله قال متى الساعة قال غيب وما يعلم الغيب إلا الله قال ما في بطن فرسي قال غيب وما يعلم الغيب إلا الله قال فمتى نمطر قال غيب وما يعلم الغيب إلا الله» وعن ابن عمر أن النبيّ ﷺ قال: «أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس إنّ الله عنده علم الساعة الآية».
وعن ابن مسعود قال أوتي نبيكم ﷺ مفاتيح كل شيء غير خمس: إنّ الله عنده علم الساعة الآية، وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لم يعم على نبيكم إلا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان: إنّ الله عنده علم الساعة إلى آخر السورة، وعن ربعي قال حدّثني رجل من بني عامر أنه قال: يا رسول الله هل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟ فقال: «لقد علمني الله خيراً وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله الخمس إن الله عنده علم الساعة الآية».
وعن بنت معوّذ قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله
﴿من﴾ إخوانك ﴿أصحاب اليمين﴾ أي: يسلمون عليك كقوله تعالى: ﴿إلا قيلاً سلاماً سلاما﴾ وقال القرطبي: فسلام لك من أصحاب اليمين أي: لست ترى منهم إلا ما تحبّ من السلامة فلا تهتم لهم فإنهم يسلمون من عذاب الله تعالى؛ وقيل المعنى: سلام لك منهم، أي: أنت سالم من الاعتمام لهم والمعنى واحد؛ وقيل: أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم؛ وقيل معناه: سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين فحذف إنك؛ وقيل: إنه يحيى بالسلام تكرّماً؛ وعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقوال: أحدها: عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت قاله الضحاك، وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام، الثاني: عند مسألته في القبر يسلم عليه منكر ونكير، الثالث: عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها؛ قال القرطبي: ويحتمل أن يسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراماً بعد إكرام.
ولما ذكر تعالى الصنفين الناجيين أتبعهما الهالكين جامعاً لهم في صنف واحد لأنّ من أريدت له السعادة يكفيه ذلك ومن ختم له بالشقاوة والعياذ بالله تعالى لا ينفعه الإغلاظ والإكثار فقال تعالى: ﴿وأما إن كان﴾ المتوفى ﴿من المكذبين﴾ الذين أخذناه من أصحاب المشأمة وأنتم حوله تتقطع أكبادكم له ولا تقدرون له على شيء أصلاً ﴿الضالين﴾ أي: عن الهدى وطريق الحق ﴿فنزل من حميم﴾ كما قال تعالى: ﴿ثم إنكم أيها الضالون المكذبون﴾ إلى أن قال: ﴿فشاربون شرب الهيم﴾ وقال تعالى: ﴿ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم﴾ (الصافات: ٦٧)
أي: ماء متناه في الحرارة بعد ما نالوا من العطش كما يرد أصحاب الميمنة الحوض كما يبادر به للقادم ليبرد به غلة عطشه ويغسل به وجهه ويديه ﴿وتصلية جحيم﴾ أي: ونزل من تصلية جحيم، والمعنى: إدخال في النار؛ وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها، يقال: أصلاه النار وصلاه أي: جعله يصلاها والمصدر هنا مضاف إلى المفعول كما يقال: لفلان إعطاء ما له أي: يعطي المال ﴿إن هذا﴾ أي: الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به في قولهم: إننا لمبعوثون ومن قيام الأدلة عليه ﴿لهو حق اليقين﴾ أي: حق الخبر اليقين أي: لما عليه من الأدلة القطعية المشاهدة كأنه مشاهد مباشر، وقيل: إنما جاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما وذلك من باب إضافة المترادفين
ولما حقق له تعالى إلى هذا اليقين سبب عن أمره لنبيه ﷺ بالتنزيه عما وصفوه به مما يلزم منه وصفه بالعجز فقال تعالى: ﴿فسبح﴾ أي: أوقع التنزيه كله عن كل شائبة نقص بالاعتقاد والقول والفعل بالصلاة وغيرها بأن تصفه بكل ما وصف به نفسه من الأسماء الحسنى وتنزهه عن كل ما نزه نفسه عنه ﴿باسم ربك﴾ أي: المحسن إليك بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك وإذا كان هذا لاسمه فكيف بما هو له ﴿العظيم﴾ الذي ملأت عظمته جميع الأقطار والأكوان وزادت على ذلك بما لا يعلمه حق العلم سواه، لأنّ من له هذا الخلق على هذا الوجه المحكم وهذا الكلام الأعز الأكرم لا ينبغي لشائبة نقص أن تلم بجنابه أو تدنو من فناء بابه، وعن عقبة بن عامر قال: «لما نزلت ﴿فسبح باسم ربك العظيم﴾ قال النبيّ ﷺ اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ قال النبي ﷺ اجعلوها في سجودكم». خرجه أبو داود وعن


الصفحة التالية
Icon