المقدس فيكون من خدمه فحملت، فلما أحست بالحمل قالت: يا ﴿رب إني نذرت﴾ أن أجعل ﴿لك ما في بطني محرّراً﴾ أي: عتيقاً خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدّس، وكان هذا النذر مشروعاً في عهدهم في الغلمان فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا تصلح لذلك فوقعا جميعاً في همّ من ذلك وهلك عمران وحنة حامل بمريم ﴿فتقبل مني﴾ ما نذرته ﴿إنك أنت السميع﴾ لقولي ﴿العليم﴾ بنيتي.
﴿فلما وضعتها﴾ أي: ولدتها جارية والضمير لما في بطنها، وإنما أنث على المعنى؛ لأنّ ما في بطنها كان أنثى في علم الله أو على تأويل النفس أو النسمة ولم يكن يحرّر إلا الغلمان وكانت ترجو أن يكون غلاماً ولذلك نذرت تحريره ﴿قالت﴾ معتذرة يا ﴿رب إني وضعتها أنثى﴾.
فإن قيل: كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها وهو كقوله وضعت الأنثى أنثى؟ أجيب: بأنّ الأصل وضعته أنثى وإنما أنث لتأنيث الحال؛ لأنّ الحال وصاحبها بالذات واحد وأما على تأويل النفس أو النسمة فهو ظاهر كأنها قالت: إني وضعت النفس أو النسمة أنثى ﴿وا أعلم﴾ أي: عالم ﴿بما وضعت﴾ قرأ ابن عامر وشعبة بسكون العين وضم التاء فيكون من كلامها قالته تسلية لنفسها أي: ولعل لله فيه سرّاً وحكمة ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر، وقرأ الباقون بفتح العين وسكون التاء فيكون من كلام الله تعالى تعظيماً لموضوعها وتجهيلاً لها بقدر ما وهب لها منه ومعناه والله أعلم بالأنثى التي وضعت وما علق به من عظائم الأمور وأن يجعلها وولدها آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت. وقرأ أبو عمرو والله أعلم بسكون الميم وإخفائها عند الباء بخلاف عنه، والباقون بالإظهار وقوله تعالى: ﴿وليس الذكر كالأنثى﴾ بيان لما في قوله: ﴿وا أعلم بما وضعت﴾ من التعظيم للموضوع والرفع منه ومعناه وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها واللام فيهما للعهد أمّا معهود لام الأنثى ففي قولها إني وضعتها أنثى وأمّا معهود لام الذكر ففي قولها محرّراً ويجوز أن يكون معنى قولها وليس الذكر كالأنثى أي: وليس الذكر والأنثى سيين فيما نذرت لما يعتري الأنثى من الحيض والنفاس فتكون اللام للجنس وقوله تعالى: ﴿وإني سميتها مريم﴾ عطف على ﴿إني وضعتها أنثى﴾ وما بينهما جملتان معترضتان كقوله تعالى: ﴿وإنه لقسم لو تعلمون عظيم﴾ (الواقعة، ٧٦) وإنما ذكرت ذلك لربها تقرّباً إليه وطلباً؛ لأن يعصمها ويصلحها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها فإنّ مريم في لغتهم بمعنى العابدة.
تنبيه: في قوله تعالى: حكاية عنها ﴿سميتها مريم﴾ دليل على أنّ الإسم والمسمّى والتسمية أمور متغايرة أو معنى سميتها مريم جعلت اسم المولود مريم ﴿وإني أعيذها﴾ أي: أجيرها ﴿بك﴾ أي: بحفظك ﴿وذرّيتها﴾ أي: أولادها ﴿من الشيطان الرجيم﴾ أي: المطرود. روى الشيخان: «ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها» ولا يبعد كما قال الطيبي اختصاص عيسى وأمّه بهذه الفضيلة دون الأنبياء لجواز أن يمكن الله تعالى الشيطان من مسهم مع عصمتهم من الإغواء ولا يمتنع كما قال التفتازاني: أن يمس الشيطان المولود حين يولد بحيث يصرخ كما ترى وتسمع وليست تلك المسة للإغواء ليدفع أنه لا يتصوّر في حق المولود حيث يولد وحينئذٍ فقول البيضاويّ معناه أنّ الشيطان يطمع في إغواء كل مولود أي:
تعالى:
﴿ولقد كذب أصحاب الحجر﴾ وهم ثمود قوم صالح عليه السلام وديارهم بين المدينة الشريفة والشام ﴿المرسلين﴾ أي: كلهم بتكذيب رسولهم كما كذب هؤلاء المرسلين بتكذيبك لأنّ الرسل يشهد بعضهم لبعض بالصدق فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع وهم في إثبات الرسالة بالمعجزة على حد سواء ثم أتبع ذلك قوله تعالى: ﴿وآتيناهم﴾ أي: بما لنا من العظمة والقدرة على يد رسولهم صالح عليه السلام ﴿آياتنا﴾ أي: آيات الكتاب المنزل على نبيهم أو معجزات كالناقة وكان فيها آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظيم خلقها وقرب ولادتها وغزارة لبنها وإنما أضاف الآيات إليهم وإن كانت لنبيهم صالح عليه السلام لأنه مرسل من ربهم إليهم بهذه الآيات ﴿فكانوا عنها﴾ أي: الآيات ﴿معرضين﴾ أي: تاركيها غير ملتفتين إليها لا يتفكرون فيها ثم أخبر تعالى عنهم أنهم كانوا مثل هؤلاء في الأمن من العذاب والغفلة عما يراد بهم مع أنهم كانوا أشدّ منهم فقال تعالى:
﴿وكانوا ينحتون﴾ والنحت قلع جزء بعد جزء من الجسم على سبيل المسح ﴿من الجبال﴾ أي: التي تقدّم أنا جعلناها رواسي. ﴿بيوتاً آمنين﴾ عليها من الإنهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها لا كبيوتكم التي لا بقاء لها على أدنى درجة. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص برفع الباء والباقون بكسرها. ﴿فأخذتهم الصيحة﴾ أي: صيحة العذاب ﴿مصبحين﴾ أي: وقت الصبح.
﴿فما أغنى﴾ أي: ما دفع ﴿عنهم﴾ الضرّ والبلاء ﴿ما كانوا يكسبون﴾ أي: يعملون من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد. وعن جابر رضي الله تعالى عنه مررنا مع رسول الله ﷺ على الحجر فقال لنا: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء ثم زجر رسول الله ﷺ راحلته فأسرع حتى خلفها». ولما ذكر تعالى هذه القصص تسلية لنبيه ﷺ فإنه إذا سمع أنّ الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء الله بمثل هذه المعاملات سهل تحمل تلك السفاهة قال تعالى:
﴿وما خلقنا السموات والأرض﴾ أي: على ما لها من العلوّ والسعة والأرض على ما لها من المنافع والغرائب ﴿وما بينهما﴾ من هؤلاء المشركين المكذبين وعذابهم ومن المياه والرياح والسحاب المسبب عنه النبات وغير ذلك ﴿إلا بالحق﴾ أي: إلا خلقاً ملتبساً بالحق فيتفكر فيه من وفقه الله تعالى ليعلم النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى ﴿وإن الساعة﴾ أي: القيامة ﴿لآتية﴾ لا محالة فيجازي الله تعالى كل أحد بعمله ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبّه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم بقوله تعالى:
﴿فاصفح الصفح الجميل﴾ أي: أعرض عنهم إعراضاً لا جزع فيه ولا تعجل بالإنتقام منهم وهذا منسوخ بآية السيف. قال الرازي: وهو بعيد لأنّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والصفو والصفح فكيف يصير منسوخاً اه. والأوّل جرى عليه البغوي وجماعة من المفسرين ثم علل تعالى هذا الأمر بقوله:
﴿إنّ ربك﴾ أي: المحسن إليك الآمر لك بهذا ﴿هو﴾ أي: وحده ﴿الخلاّق﴾ أي: المتكرر منه هذا الفعل ﴿العليم﴾ أي: البالغ العلم بكل المعلومات فليست أقوالهم وأفعالهم إلا منه سبحانه وتعالى لأنه خالقها وقد علمت أنه لا يضيع مثقال ذرة فاعتمد عليه في أخذ حقك فإنه نعم المولى ونعم النصير. ولما صبره الله تعالى على أذى قومه وأمره أن يصفح
فيكونون ما شاء الله أن يكونوا، ثم ينادي منادٍ: سيعلم أهل الجمع لمن يكون العز اليوم والكرم، ليقم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً فيقومون وفيهم قلة، ثم يلبث ما شاء الله أن يلبث، ثم يعود فينادي المنادي: سيعلم أهل الجمع لمن العز اليوم والكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
فيقومون وهم أكثر من الأولين ثم يلبث ما شاء الله أن يلبث ثم يعود فينادي المنادي: سيعلم أهل الجمع لمن العز اليوم والكرم، ليقم الحامدون على كل حال فيقومون وهم أكثر من الأولين، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ﴿تتجافى في جنوبهم عن المضاجع﴾ يقول: تتجافى لذكر الله إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله.
ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة بين أنه لها بقوله تعالى: مبيناً لحالهم ﴿يدعون﴾ أي: داعين ﴿ربهم﴾ الذي عوّدهم بإحسانه ثم علله بقوله تعالى: ﴿خوفاً﴾ أي: من سخطه وعقابه، فإن أسباب الخوف من نقائصهم كثيرة سواء أعرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا لأنهم لا يأمنون مكر الله لأنه يفعل ما يشاء ﴿وطمعاً﴾ في رضاه الموجب لثوابه، وقال ابن عباس: خوفاً من النار وطمعاً في الجنة وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب وإن كانوا مجتهدين في طاعته.
ولما كانت العبادة تقطع غالباً عن التوسع في الدنيا بما دعت نفس العابد إلى التمسك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عند الحاجة، وصفهم الله تعالى بقوله تعالى: ﴿ومما رزقناهم﴾ أي: بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوة ﴿ينفقون﴾ من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم فلا يبخلون بما عندهم اعتماداً على الخلاق الرزَّاق الذي ضمن الخلق فهم بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم.
ولما ذكر تعالى جزاء المستكبرين ذكر جزاء المتواضعين بقوله عز من قائل:
﴿فلا تعلم نفس﴾ أي: من جميع النفوس مقربة ولا غيرها ﴿ما أُخفي﴾ أي: خبئ ﴿لهم﴾ أي: لهؤلاء المذكورين من مفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم في الصلاة في جوف الليل وبالصدقة وبغير ذلك، وقرأ حمزة بسكون الياء والباقون بالفتح.
ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال تعالى ﴿من قرة أعين﴾ أي: من شيء نفيس تقرّ به أعينهم لأجل ما أقلقوها عن قرارها بالنوم، ثم صرح بما أفهمته فاء السبب بقوله تعالى: ﴿جزاء﴾ أي: أخفاها لهم لجزائهم ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿كانوا يعملون﴾ أي: من الطاعات في دار الدنيا. روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتهم ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم﴾ الآية وعن ابن مسعود قال: «إنه لمكتوب في التوراة لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وإنه لفي القرآن ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾.
وعن ابن عمر قال: إن الرجل من أهل الجنة ليجيء فيشرف عليه النساء فيقلن: يا فلان بن فلان ما أنت بمن خرجت من عندها بأولى بك منا فيقول: ومن أنتن؟ فيقلن: نحن من اللاتي قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين
في سبيل الخير وحسنه؛ كما قال الرازي: أن يصرف بصره عن النظر إلى فعله والنفقة وإلا متنا به وطلب العوض عليه ﴿يضاعف﴾ أي: ذلك القرض ﴿لهم﴾ من عشرة إلى سبعمائة كما مرّ لأنّ الذي كان له العرض كريم، وقرأ ابن كثير وابن عامر: بتشديد العين ولا ألف بينها وبين الضاد؛ والباقون بتخفيف العين وبينها وبين الضاد ألف ﴿ولهم﴾ أي: مع المضاعفة ﴿أجر كريم﴾ أي: ثواب حسن وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم.
ثم بين سبحانه وتعالى الحامل على الصدقة ترغيباً فيه وهو الإيمان فقال تعالى: ﴿والذين آمنوا﴾ أي: أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم ﴿بالله﴾ أي: الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام ﴿ورسله﴾ أي: كلهم لأجل ما لهم من النسبة إليه فمن كذب واحد منهم لم يكن مؤمناً بالله تعالى: ﴿أولئك﴾ أي: هؤلاء العالو الرتبة ﴿هم الصديقون﴾ أي: الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه؛ وقال القشيري الصديق من استوى ظاهره وباطنه؛ ويقال: هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ولا يجنح للتأويلات؛ وقال مجاهد: كل من آمن بالله تعالى ورسله عليهم السلام فهو صدّيق وتلا هذه الآية؛ وقال الضحاك: الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضى الله عنهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نبيه ﷺ وعلى آله، واختلف في نظم قوله تعالى: ﴿والشهداء عند ربهم﴾ أي: المحسن إليهم بالتربية لمثل تلك الرتبة العالية فمنهم من قال: هي متصلة بما قبلها والواو للنسق وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين، وقال الضحاك: هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم؛ وقال مجاهد: كل مؤمن صدّيق وشهيد وتلا هذه الآية، وقال قوم: تم الكلام عند قوله تعالى: ﴿هم الصديقون﴾ ثم ابتدأ بقوله تعالى: ﴿والشهداء﴾ فهو مبتدأ وخبره ﴿لهم أجرهم﴾ أي: جعله ربهم لهم ﴿ونورهم﴾ أي: الذي زادهموه من فضله برحمته قالوا: والواو للاستئناف وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وجماعة؛ ثم اختلفوا فيهم فمنهم من قال: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو قول مقاتل بن حيان، وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله عز وجل.
ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعاً لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى: ﴿والذين كفروا﴾ أي: ستروا ما دلت عليه الأدلة ﴿وكذبوا بآياتنا﴾ أي: على مالها من العظمة بنسبتها إلينا ﴿أولئك﴾ أي: هؤلاء البعداء من كل خير ﴿أصحاب الجحيم﴾ أي: النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفاً، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة.
ثم بين سبحانه وتعالى الحامل على الصدقة ترغيباً فيه وهو الإيمان فقال تعالى: ﴿والذين آمنوا﴾ أي: أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم ﴿بالله﴾ أي: الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام ﴿ورسله﴾ أي: كلهم لأجل ما لهم من النسبة إليه فمن كذب واحد منهم لم يكن مؤمناً بالله تعالى: ﴿أولئك﴾ أي: هؤلاء العالو الرتبة ﴿هم الصديقون﴾ أي: الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه؛ وقال القشيري الصديق من استوى ظاهره وباطنه؛ ويقال: هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ولا يجنح للتأويلات؛ وقال مجاهد: كل من آمن بالله تعالى ورسله عليهم السلام فهو صدّيق وتلا هذه الآية؛ وقال الضحاك: الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضى الله عنهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نبيه ﷺ وعلى آله، واختلف في نظم قوله تعالى: ﴿والشهداء عند ربهم﴾ أي: المحسن إليهم بالتربية لمثل تلك الرتبة العالية فمنهم من قال: هي متصلة بما قبلها والواو للنسق وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين، وقال الضحاك: هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم؛ وقال مجاهد: كل مؤمن صدّيق وشهيد وتلا هذه الآية، وقال قوم: تم الكلام عند قوله تعالى: ﴿هم الصديقون﴾ ثم ابتدأ بقوله تعالى: ﴿والشهداء﴾ فهو مبتدأ وخبره ﴿لهم أجرهم﴾ أي: جعله ربهم لهم ﴿ونورهم﴾ أي: الذي زادهموه من فضله برحمته قالوا: والواو للاستئناف وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وجماعة؛ ثم اختلفوا فيهم فمنهم من قال: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو قول مقاتل بن حيان، وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله عز وجل.
ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعاً لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى: ﴿والذين كفروا﴾ أي: ستروا ما دلت عليه الأدلة ﴿وكذبوا بآياتنا﴾ أي: على مالها من العظمة بنسبتها إلينا ﴿أولئك﴾ أي: هؤلاء البعداء من كل خير ﴿أصحاب الجحيم﴾ أي: النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفاً، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة.
ولما ذكر تعالى حال الفريقين في الآخرة حقر أمر الدنيا بقوله تعالى: ﴿اعلموا﴾ أي: أيها العباد المبتلون بحب الدنيا ﴿أنما الحياة الدنيا﴾ أي: الحاضرة التي رغب في الزهد فيها والخروج عنها بالصدقة والقرض الحسن، وما مزيدة للتأكيد أي: الحياة في هذه الدار ﴿لعب﴾ أي: لعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان ﴿ولهو﴾ أي: