يهودا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وساروا إليه ليقتلوه فبعث الله تعالى إليه جبريل فأدخله في خوخة في سقفها كوة فرفعه الله تعالى إلى السماء من تلك الكوة فأمر يهودا رأس اليهود رجلاً من أصحابه أن يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل لم ير عيسى فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيها فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه، فلما صلب جاءت أمّ عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله تعالى من الجنون يبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى فقال لهما: على من تبكيان؟ إنّ الله تعالى رفعني ولم يصبني إلا خير وإن هذا شبه لهم، فلما كان بعد سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى: اهبط إلى مريم فإنه لم يبك عليك أحد بكاها ولم يحزن حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل، فأهبطه الله تعالى إليها فاشتعل حين أهبط نور فجمعت له الحواريين، فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله تعالى إليه وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى، فلما أصبح الحواريون تحدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى عليه الصلاة والسلام إليهم.
وروي أنّ الله تعالى أرسل إليه سحابة فرفعته فتعلقت به أمه وبكت فقال لها: إنّ القيامة تجمعنا وكان ذلك ليلة القدر ببيت المقدس وله ثلاث وثلاثون سنة، وقالت أهل التواريخ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشر سنة وولدته لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، فأوحى الله تعالى إليه على رأس ثلاثين سنة ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين وعاشت أمّه بعد رفعه ست سنين وقوله تعالى:
﴿إذ قال الله﴾ ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو لمضمر مثل اذكر ﴿يا عيسى إني متوفيك﴾ أي: مستوفي أجلك ومعناه إني عاصمك من أن يقتلك الكافر ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم أو قابضك من الأرض. من توفيت مالي أي: قبضته أو متوفيك نائماً كما قال تعالى: ﴿وهو الذي يتوفاكم بالليل﴾ (الأنعام، ٦٠) أي: يميتكم، إذ روي أنه رفع نائماً أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت ﴿ورافعك إليّ﴾ أي: إلى محل كرامتي ومقرّ ملائكتي، إذ روي أنّ الله تعالى رفعه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وكان إنسياً سماوياً أرضياً، وقال محمد بن إسحاق: النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه. وقال الضحاك: إنّ في الآية تقديماً وتأخيراً معناه إني رافعك إليّ ﴿ومطهرك من الذين كفروا﴾ أي: مخرجك من بينهم ومنجيك منهم ومتوفيك بعد إنزالك من السماء.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ ﷺ قال: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد».
وروى الشيخان حديث: «أنه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبينا ويقتل الدجال والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية» وفي حديث مسلم أنه يمكث سبع سنين، وفي حديث عند أبي داود والطيالسي «أربعين سنة» ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون، فيحمل على أنّ مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده أربعون، وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد نزول
أصوات بعضهم ببعض وتشاجرت الرياح إذا اختلطت وقال تعالى: ﴿حتى يحكموك فيما شجر بينهم﴾ (النساء، ٦٥)
ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ. فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه ويصح أن يكون المراد بالشجر هنا ما له ساق لأنّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وحينئذٍ فإطلاق الشجر على الكلأ مجاز. ﴿فيه﴾ أي: الشجر ﴿تسيمون﴾ أي: ترعون مواشيكم يقال: أسمت الماشية إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت. قال الزجاج: أخذ ذلك من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر في الأرض برعيها علامات وقال غيره: لأنها تعلم الإرسال في المرعى.
ولما ذكر تعالى الحيوانات تفصيلاً وإجمالاً ذكر الثمار تفصيلاً وإجمالاً بقوله تعالى: ﴿ينبت﴾ أي: الله ﴿لكم به﴾ أي: بذلك الماء ﴿الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات﴾ فبدأ بذكر الزرع وهو الحبّ الذي يقتات به كالحنطة والشعير والأرز لأن به قوام البدن بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن وبارك فيه وثلث بذكر النخيل لأنّ ثمرها غذاء وفاكهة وختم بذكر الأعناب لأنه شبيه النخيل في المنفعة من التفكه والتغذية ثم ذكر تعالى سائر الثمار إجمالاً لينبه بذلك على عظيم قدرته وجزيل نعمته على عباده لأنّ الحبة الواحدةتقع في الطين فإذا مضى عليها مقدار معين من الوقت نفذ في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنفتح الحبة فينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى ثم تخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ثم إنّ تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب، فإنّ قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ﴿إنّ في ذلك لآية﴾ بينة على أنّ فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده وإنما تحصل معرفة ذلك ﴿لقوم يتفكرون﴾ فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته فيؤمنون.
ثم ذكر سبحانه وتعالى أشياء تدلّ على أنه الفاعل المختار بقوله تعالى: ﴿وسخر لكم﴾ أي: أيها الناس لإصلاح أحوالكم ﴿الليل﴾ للسكنى ﴿والنهار﴾ للمعاش. ثم ذكر آية النهار فقال: ﴿والشمس﴾ أي: لمنافع اختصاصها ثم آية الليل فقال: ﴿والقمر﴾ لأمور علقها به ﴿والنجوم﴾ أي: الآيات نصبها لها. ثم نبه على تغيرها بقوله تعالى: ﴿مسخرات﴾ أي: بأنواع التغير لما خلقها له على أوضاع دبرها ﴿بأمره﴾ أي: بإرادته سبباً لصلاحكم وصلاح ما به قوامكم دلالة على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار ولو شاء تعالى لأقام أسباباً غيرها أو أغنى عن الأسباب. وقرأ ابن عامر برفع الأربع وهي الشمس والقمر والنجوم ومسخرات على الابتداء والخبر ووافقه حفص في الاثنين الأخيرين والنجوم مسخرات لا غير والباقون بالنصب عطفاً على ما قبله في الثلاثة الأول وفي الرابع وهو مسخرات على الحال. ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الأشياء وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم ذلك بقوله: ﴿إنّ في ذلك﴾ أي: التسخير العظيم ﴿لآيات﴾ أي: دلالات متعدّدة كثيرة عظيمة
الله تعالى» وقيل سها في صلاته فقالت اليهود: له قلبان قلب مع أصحابه وقلب معكم، وعن الحسن نزلت في أن الواحد يقول: لي نفسان نفس تأمرني ونفس تنهاني، فإن قيل: ما وجه تعدية الظهار وأخواته بمن؟ أجيب: بأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فكانوا بتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة، فكان قولهم: تظاهر منها، تباعد منها جهة الظهار، فلما تضمن معنى التباعد منها عدي بمن.
فإن قيل: ما معنى قولهم: أنت علي كظهر أمي، أجيب: بأنهم أرادوا أن يقولوا: أنت عليّ حرام كبطن أمي فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج؛ لأنه عمود البطن، ومنه حديث عمر: يجيء به أحدهم على عمود بطنه أراد على ظهره، ووجه آخر: وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرماً عندهم محظوراً، وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر، ثم لم يقنع بذلك حتى جعله كظهر أمه، وهو منكر وزور وفيه كفارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المجادلة.
وقرأ ابن عامر والكوفيون اللائي بالهمزة المكسورة والياء بعدها في الوصل، وسهل الياء كالهمزة ورش، والبزي وأبو عمرو مع المد والقصر، وعن أبي عمرو والبزي أيضاً إبدالها ياء ساكنة مع المد لا غير، وقالون وقنبل بالهمزة ولا ياء بعدها، وقرأ تظهرون عاصم بضم التاء، وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء مخففة، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء والظاء مخففتين وألف بعد الظاء وفتح الهاء مخففة، وابن عامر كذلك إلا أنه يشدد الظاء، والباقون بفتح التاء والظاء والهاء مع تشديد الظاء والهاء ولا ألف بعد الظاء وقوله تعالى: ﴿ذلكم﴾ إشارة إلى كل ما ذكر وإلى الأخير ﴿قولكم بأفواهكم﴾ أي: مجرد قول لسان من غير حقيقة كالهذيان ﴿والله﴾ أي: المحيط علماً وقدرة وله جميع صفات الكمال ﴿يقول الحق﴾ أي: ماله حقيقة الثابت الذي يوافق ظاهره باطنه فلا قدرة لأحد على نقضه، فإن أخبر عن شيء فهو كما قال: ﴿وهو﴾ أي: وحده ﴿يهدي السبيل﴾ أي: يرشد إلى سبيل الحق.
ولما كان كأنه قيل فما تقول اهدنا إلى سبيل الحق قال تعالى:
﴿ادعوهم﴾ أي: الأدعياء ﴿لآبائهم﴾ أي: الذين ولدوهم إن علموا ولذا قال زيد بن حارثة: قال ﷺ «من دعي إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام» وأخرجه الشيخان عن سعد بن أبي وقاص، ثم علل تعالى ذلك بقوله تعالى: ﴿هو﴾ أي: هذا الدعاء ﴿أقسط﴾ أي: أقرب إلى العدل من التبني، وإن كان إنما هو لمزيد الشفقة على المُتَبَنَّى والإحسان إليه ﴿عند الله﴾ أي: الجامع لصفات الكمال، وعن ابن عمران زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ﴿ادعوهم لآبائهم﴾ الآية وقيل: كان الرجل في الجاهلة إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان، أما إذا جهلوا فهو ما ذكر بقوله تعالى: ﴿فإن لم تعلموا آباءهم﴾ لجهل أصلي أو طارئ ﴿فإخوانكم﴾ أي: فهم إخوانكم ﴿في الدين﴾ إن كانوا دخلوا في دينكم أي: قولوا لهم إخواننا ﴿ومواليكم﴾ إن كانوا محررين أي: قولوا موالي فلان، وعن مقاتل إن لم تعلموا لهم أباً فانسبوهم
إنّ أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ فلما علا سنى ونثرت بطني أي: كثر ولدي جعلني عليه كأمّه فقال لها النبيّ ﷺ حرمت عليه فقالت: والله ما ذكر طلاقاً وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليّ، فقال رسول الله ﷺ حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي فقد طالت صحبتي ونفضت له بطني، فقال رسول الله ﷺ ما آراك إلا حرمت عليه
أو أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله ﷺ وإذا قال لها رسول الله ﷺ حرمت عليه، هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي وأنّ لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهمّ أني أشكو إليك، فأنزل على لسان نبيك وكان هذا أوّل ظهار في الإسلام، فأنزل الله تعالى: ﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها﴾ الآية فأرسل رسول الله ﷺ إلى زوجها وقال: ما حملك على ما صنعت قال: الشيطان فهل من رخصة؟ فقال: نعم وقرأ عليه الأربع آيات فقال له هل تستطيع العتق فقال لا والله فقال هل تستطيع الصوم؟ فقال لا والله إني إن أخطأني أن آكل في اليوم مرّة أو مرتين لكل صبري ولظننت أني أموت قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة فأعانه رسول الله ﷺ بخمسة عشر صاعاً، وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين مسكيناً».
وروي أنه ﷺ قال لها مريه أن يعتق رقبة فقالت: أيّ رقبة والله لا يجد رقبة وما له خادم غيري، فقال: مريه أن يصوم شهرين، فقالت: والله ما يقدر على ذلك إنه يشرب في اليوم كذا كذا مرّة، فقال: مريه فليطعم ستين مسكيناً، فقالت: أنّى له ذلك» ﴿وتشتكي﴾ أي: تتعمد بتلك المجادلة الشكوى منتهية ﴿إلى الله﴾ أي: سؤال الملك الأعظم الرحمة الذي أحاط بكل شيء علماً.
فإن قيل: ما معنى قد في قوله تعالى: ﴿قد سمع﴾ أجيب: بأنّ معناها التوقع لأنّ رسول الله ﷺ والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله تعالى تجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرّج عنها لصدقها في شكواها وقطع رجائها في كشف ما بها من غير الله إنّ الله تعالى يكشف كربتها ﴿والله﴾ أي: والحال أنّ الذي وسعت رحمته كلّ شيء، لأنّ له الأمر كله ﴿يسمع تحاوركما﴾ أي: تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب ﴿إن الله﴾ أي: الذي أحاط بجميع صفات الكمال ﴿سميع﴾ أي: بالغ السمع لكل مسموع ﴿بصير﴾ أي: بالغ البصر لكل ما يبصر فهما صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة وهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متصفاً بهما
ولما أتم تعالى الخبر عن إحاطة العلم استأنف الإخبار عن حكم الأمر المجادل بسببه فقال تعالى: ﴿الذين يظهرون﴾ أي: يوجدون الظهار في أي زمان كان وقوله تعالى: ﴿منكم﴾ أي: أيها العرب المسلمون توبيخ لهم وتهجين لعادتهم لأنّ الظهار كان خاصاً بالعرب دون سائر الأمم فنبه تعالى على أنّ اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس عن هذا الكلام لأنّ الكذب لم يزل مستهجناً عندهم في الجاهلية ثم زاده الإسلام استهجاناً ﴿من نسائهم﴾ أي: يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله تعالى عليهم ظهور أمّهاتهم.
والظهار لغة: مأخوذ من الظهر لأنّ صورته الأصلية أن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، وخصوا الظهر دون البطن


الصفحة التالية
Icon