الأكمه والأبرص قال: فجرجيس أولى؛ لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً. ومعنى خلق آدم من تراب أي: صوّر جسده من تراب ﴿ثم قال له كن﴾ أي: أنشأه بشراً بأن نفخ فيه الروح كقوله تعالى: ﴿ثم أنشأناه خلقاً آخر﴾ (المؤمنون، ١٤) وقوله تعالى: ﴿فيكون﴾ حكاية حال ماضية أي: فكان وكذلك عيسى قال له: كن من غير أب فكان ويجوز أن تكون ثم لتراخي الخبر لا لتراخي المخبر عنه وقوله تعالى:
﴿الحق من ربك﴾ خبر مبتدأ محذوف أي: أمر عيسى وقوله تعالى: ﴿فلا تكن من الممترين﴾ أي: الشاكين خطاب للنبيّ ﷺ والمراد غيره فحاشا رسول الله ﷺ أن يكون ممترياً.
﴿فمن حاجك﴾ أي: جادلك من النصارى ﴿فيه﴾ أي: عيسى ﴿من بعد ما جاءك من العلم﴾ أي: من البينات الموجبة للعلم بأنّ عيسى عبد الله ورسوله ﴿فقل﴾ لهم ﴿تعالوا﴾ أي: هلموا بالرأي والعزم ﴿ندع﴾ جزم في جواب الأمر وعلامة جزمه سقوط الواو ﴿أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم﴾ أي: ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وإنما قدّمهم على النفس؛ لأنّ الرجل يخاطر بنفسه لأجلهم ويحارب دونهم فنجمعهم ﴿ثم نبتهل﴾ أي: نتضرع في الدعاء ونبالغ فيه ﴿فنجعل لعنت الله على الكاذبين﴾ بأن نقول: اللهم إلعن الكاذب بأمر عيسى، فلما قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غداً، فخلا بعضهم ببعض وقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبيّ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما بأهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكنّ، فإن أبيتم إلا الإقامة على دينكم وعلى ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله ﷺ وقد غدا محتضناً للحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها رضي الله عنها وهو ﷺ يقول لهم: «إذا أنا دعوت فأمنوا» فقال أسقف نجران ـ وهو اسم سرياني لرئيس النصارى وعاملهم وهو غير العاقب: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأيت أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا، فقال رسول الله ﷺ «فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فأبوا فقال: «إني أنابذكم» فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على
أن لا تغزونا ولا تحنفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب تؤديها للمسلمين وعارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يؤدّوها، فصالحهم رسول الله ﷺ على ذلك وقال: «والذي نفسي بيده إنّ العذاب تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر» ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا كلهم.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله ﷺ خرج وعليه
في الأرض رواسي} أي: جبالاً ثوابت ﴿أن تميد﴾ أي: كراهة أن تميل وتضطرب ﴿بكم﴾ وقيل: لئلا تميل بكم والأوّل قدره البصريون والثاني قدّره الكوفيون، وقد تقدّم مثل ذلك في قوله تعالى: ﴿يبين الله لكم أن تضلوا﴾ (النساء، ١٧٦)
. روي أن الله تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت وقوله تعالى: ﴿وأنهاراً﴾ عطف على رواسي لأنّ الإلقاء بمعنى الخلق والجعل. ألا ترى أنه تعالى قال في آية أخرى: ﴿وجعل فيها رواسي من فوقها﴾ (فصلت، ١٠)
. وقال تعالى: ﴿وألقيت عليك محبة مني﴾ (طه، ٣٩)
. وذكر تعالى الأنهار بعد الجبال لأن معظم عيون الأنهار وأصولها تكون من الجبال. ﴿و﴾ جعل لكم فيها ﴿سبلاً﴾ أي: طرقاً مختلفة تسلكون فيها في أسفاركم والتردّد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان ﴿لعلكم تهتدون﴾ أي: بتلك السبل إلى مقاصدكم وإلى معرفة الله تعالى فلا تضلون.
﴿و﴾ جعل لكم فيها ﴿علامات﴾ أي: من الجبال وغيرها جمع علامة تهتدون بها في أسفاركم. ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأوضحها براً وبحراً ليلاً ونهاراً نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظنّ أن المخاطب مخصوص والأمر لا يتعدّاه فقال تعالى: ﴿وبالنجم﴾ أي: الجنس ﴿هم﴾ أي: أهل الأرض كلهم وأولى الناس بذلك المخاطبون وهم قريش ثم العرب كلها لفرط معرفتهم بالنجوم. ﴿يهتدون﴾ وقدّم الجارّ تنبيهاً على أن الدلالة بغيره بالنسبة إليه سافلة، وقيل: المراد بالنجم الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي. وقيل: الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم. ولما ذكر سبحانه وتعالى من عجائب قدرته وبديع خلقه ما ذكر على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدّمة كلها دالة على كمال قدرة الله ووحدانيته، وأنه تعالى المنفرد بخلقها جميعها قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام العاجزة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تقدر على شيء.
﴿أفمن يخلق﴾ أي: هذه الأشياء الموجودة وغيرها ﴿كمن لا يخلق﴾ شيئاً من ذلك بل على إيجاد شيء ما فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادة من لا يستحق العبادة وترك عبادة من يستحقها وهو الله تعالى. فإن قيل: ذلك إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق فكان حق الإلزام أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ أجيب: بأنهم لما جعلوا غير الله مثل الله تعالى في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها فانكر عليهم ذلك بقوله تعالى: ﴿أفمن يخلق كمن لا يخلق﴾. فإن قيل: من لا يخلق إن أريد به جميع ما عبد من دون الله كان ورود من واضحاً لأنّ العاقل يغلب على غيره فيعبر عن الجميع بمن ولو جيء أيضاً بما لجاز وإن أريد به الأصنام فلم جيء بمن الذي هو لأولي العلم؟ أجيب: بأنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله تعالى على أثره: ﴿والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون﴾ (النحل، ٢٠)
وإلى قول الشاعر:
*بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي | فقلت ومثلي بالبكاء جدير |