اعترف بأني الغالب وسلم لي الغلبة.
قال البيضاوي: تنبيه: انظر ما راعى أي: الله سبحانه وتعالى في هذه القصة من المبالغة والإرشاد وحسن التدرج في الحجاج أولاً لأحوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للإلهية، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح أي: يزيل شبهتهم، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الإنقياد عاد إليهم بالإرشاد وسلك طريقاً أسهل وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ثم لما لم يجد أي: ينفع ذلك أيضاً عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك، وقال: اشهدوا بأنا مسلمون. ﴿يا أهل الكتاب﴾ وقد مرّ أنه يعم أهل الكتابين اليهود والنصارى ﴿لم تحاجون﴾ أي: تخاصمون ﴿في إبراهيم﴾ بزعمكم أنه على دينكم ﴿وما أنزلت التوراة﴾ على موسى ﴿والإنجيل﴾ على عيسى ﴿إلا من بعده﴾ أي: بزمن طويل إذ كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة وبعد نزول التوراة حدثت اليهودية وبعد نزول الإنجيل حدثت النصرانية ﴿أفلا تعقلون﴾ بطلان قولكم حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال. ﴿ها أنتم﴾ يا ﴿هؤلاء﴾ ها للتنبيه وأنتم مبتدأ خبره ﴿حاججتم﴾ أي: جادلتم ﴿فيما لكم به علم﴾ من أمر موسى وعيسى وزعمتم أنكم على دينهما ﴿فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم﴾ من شأن إبراهيم وليس له ذكر في كتابكم ﴿وا يعلم﴾ ما حاججتم فيه ﴿وأنتم لا تعلمون﴾ أي: جاهلون به، ثم قال تعالى تبرئة لإبراهيم: ﴿ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً﴾ أي: مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيّم ﴿مسلماً﴾ أي: موحداً منقاداً لله تعالى وليس المراد أنه كان على دين الإسلام وإلا لاشترك الإلزام؛ لأنهم يقولون: ملة الإسلام حدثت بعد نزول القرآن على محمد ﷺ وكان إبراهيم قبله بمدّة طويلة فكيف يكون على ملة الإسلام الحادثة بنزول القرآن، فعلم أن المراد يكون إبراهيم مسلماً أنه كان على ملة التوحيد لا على هذه الملة ﴿وما كان من المشركين﴾ كما لم يكن منكم أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم عزيراً والمسيح. ﴿إنّ أولى الناس﴾ أي: أحقهم ﴿بإبراهيم﴾ من أمّته ﴿للذين اتبعوه﴾ من أمّته ﴿وهذا النبيّ والذين آمنوا وا وليّ المؤمنين﴾ أي: ناصرهم وحافظهم ولما دعا اليهود معاذاً وحذيفة وعماراً إلى دينهم نزل. ﴿ودّت﴾ أي: تمنت ﴿طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم﴾ عن دينكم ويردّونكم إلى الكفر ﴿وما يضلون إلا أنفسهم﴾ أي: أمثالهم أو إن أثم إضلالهم عليهم والمؤمنون لا يطيعونهم فيه ﴿وما يشعرون﴾ بذلك. ﴿يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله﴾ بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوّة محمد ﷺ ﴿وأنتم تشهدون﴾ أنها آيات الله عز وجل أو بالقرآن العزيز وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حق. ﴿يأهل الكتاب لم تلبسون الحق﴾ أي: القرآن المشتمل على نعت محمد ﷺ ﴿بالباطل﴾ أي: بالتحريف والتزوير ﴿وتكتمون الحق﴾ أي: نعت محمد ﷺ ﴿وأنتم تعلمون﴾ أنه حق. ﴿وقالت طائفة من أهل الكتاب﴾ أي: اليهود قالوا لجماعة منهم ﴿آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا﴾ أي: القرآن أي: أظهروا الإيمان به ﴿وجه النهار﴾ أي: أوّله وإنما سمي أوّله وجهاً لأنه أحسنه ولأنه أوّل ما يرى
أنها آلهة وقرأ عاصم بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب ﴿لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون﴾ أي: يصوّرون من الحجارة وغيرها. فإن قيل: قوله تعالى في الآية المتقدّمة ﴿أفمن يخلق كمن لا يخلق﴾ يدلّ على أنّ هذه الأصنام لا تخلق شيئاً وهم يخلقون وهذا هو المعنى المذكور في تلك الآية المذكورة فما فائدة هذا التكرار؟ أجيب: بأنّ فائدته أنّ المعنى المذكور في الآية المتقدّمة أنهم لا يخلقون شيئاً فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون كغيرهم فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار فكأنه تعالى بدأ بشرح نقصهم في ذواتهم وصفاتهم فبين أولاً أنها لا تخلق شيئاً، ثم بيّن ثانياً أنها كما لا تخلق غيرها فهي مخلوقة كغيرها.
الصفة الثانية قوله تعالى: ﴿أموات﴾ أي: جمادات لا روح لها ﴿غير أحياء﴾ إذ الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت. فإن قيل: علم من قوله: أموات أنها غير أحياء فما الفائدة في ذكره؟ أجيب: بأنّ من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطف التي ينشئها الله تعالى حيواناً وأجساد الحيوانات التي تبعث بعد موتها وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة وذلك أعرق في موتها. وقيل: ذكر للتأكيد لأنّ الكلام مع الكفار الذي يعبدون الأوثان وهم في نهاية الجهالة والضلالة ومن تكلم مع الجاهل الغبي فقد يعبر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة وغرضه الإعلام بكون المخاطب في غاية الغباوة في أنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة. الصفة الثالثة قوله تعالى: ﴿وما يشعرون﴾ أي: الأصنام ﴿أيان﴾ أي: وقت ﴿يبعثون﴾ أي: وما تعلم هؤلاء الآلهة متي تبعث الأحياء تهكماً بحالها لأنّ شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حيّ إلا الحيّ القيوم سبحانه وتعالى. وقيل: الضمير راجع للأصنام. قال ابن عباس: إنّ الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، وقيل: المراد بقوله تعالى: ﴿والذين تدعون من دون الله﴾ الملائكة وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله تعالى: إنهم أموات، أي: لا بد لهم من الموت غير أحياء، أي: باقية حياتهم وما يشعرون، أي: لا علم لهم بوقت بعثهم. ولما زيف سبحانه وتعالى طريقة عبدة الأصنام وبيّن فساد مذهبهم قال تعالى: ﴿إلهكم﴾ أي: أيها الخلق جميعاً المعبود بحق ﴿إله﴾ أي: متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أوان وكل زمان وكل مكان ﴿واحد﴾ لا يقبل التعدّد الذي هو مثال النقص بوجه من الوجوه لأنّ التعدّد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم للبعد عن رتبة الإلهية. ﴿فالذين﴾ أي: فتسبب عن هذا أنّ الذين ﴿لا يؤمنون بالآخرة﴾ أي: دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة ﴿قلوبهم منكرة﴾ أي: جاحدة للوحدانية ﴿وهم﴾ أي: والحال أنهم بسبب إنكار ذلك ﴿مستكبرون﴾ أي: متكبرون عن الإيمان بها ﴿لا جرم﴾ أي: حقاً ﴿أن الله يعلم﴾ علماً غيبياً وشاهدياً ﴿ما يسرون﴾ أي: ما يخفون مطلقاً أو بالنسبة إلى بعض الناس ﴿وما يعلنون﴾ أي: يظهرون فيجاز يهم ذلك. ولما كان في ذلك معنى التهديد علل ذلك بقوله تعالى: ﴿إنه﴾ أي: العالم بالسر والعلن ﴿لا يحب المستكبرين﴾ أي: على خلقه فما بالك بالمستكبرين على التوحيد واتباع الرسول ﷺ ومعنى عدم محبتهم أنه يعاقبهم.
فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت لهم الصبا لما روى ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه ﷺ قال: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» لأن الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا زال حزنه ﴿وجنوداً﴾ أي: وأرسلنا جنوداً من الملائكة ﴿لم تروها﴾ وكانوا ألفاً ولم تقاتل يومئذ، فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها على بعض، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول: يا بني فلان هلم إليَّ، وإذا اجتمعوا عنده قالوا: النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب ﴿وكان الله﴾ أي: الذي له جميع صفات الجلال والجمال ﴿بما يعملون﴾ أي: الأحزاب من التحزب والتجمع والمكر وغير ذلك ﴿بصيراً﴾ أي: بالغ الإبصار والعلم.
تنبيه: قال البخاري: قال موسى بن عقبة: كانت غزوة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة أربع، روى محمد بن إسحاق عن مشايخه قال: دخل حديث بعضهم في بعض أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهودة بن قيس، وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله ﷺ خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله ﷺ وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه؟ قالوا: دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت﴾ (النساء: ٥١)
إلى قوله تعالى: ﴿وكفى بجهنم سعيراً﴾ (النساء، ٥٥)
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ﷺ وأجمعوا على ذلك، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد بايعوهم على ذلك، فأجابوهم فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن، فلما سمع بهم رسول الله ﷺ وبما جمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، وكان الذي أشار به على النبي ﷺ سلمان الفارسي رضي الله عنه وكان أول مشهد شهده سلمان رضي الله عنه مع النبي ﷺ وهو يومئذ حُرٌّ فقال: يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فعمل فيه رسول الله ﷺ والمسلمون حتى أكملوه وأحكموه، قال أنس رضي الله عنه: «خرج رسول الله ﷺ إلى الخندق فإذا المهاجرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجزع قال:
*اللهم إن العيش عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة*
فقالوا مجيبين له:
*نحن الذين بايعوا محمدا
على الجهاد ما بقينا أبدا*
من شرائعه ﴿عذاب أليم﴾ أي: بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط الكفارة عنه بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها، فإذا قدر عل خصلة من خصالها فعلها، ولا يتبعض العتق ولا الصوم بخلاف الإطعام حتى لو وجد بعض مدّ أخرجه، لأنه لا بدل له وبقي الباقي في ذمته.
قال الزمخشري: فإن قلت فإذا امتنع المظاهر من الكفارة هل للمرأة أن تدافعه قلت لها ذلك وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والانتفاع بحق الاستمتاع فيلزم أبداً حقها فإن قلت: فإن مس قبل أن يكفر قلت عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر لما روي أن سلمة بن صخر البياضي قال لرسول الله ﷺ ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها فقال عليه الصلاة والسلام: استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر» ا. هـ. والمراد بالاستغفار هنا: التوبة.
ولما ذكر تعالى المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها بقوله تعالى: ﴿إن الذين يحادّون الله﴾ أي: يغالبون الملك الأعلى على حدوده ليجعلوا حدوداً غيرها وذلك صورته صورة العداوة؛ لأنّ المحادة المعاداة والمخالفة في الحدود وهو كقوله تعالى: ﴿ومن يشاق الله﴾ (الحشر: ٤) ﴿ورسوله﴾ أي: الذي عزه من عزه، وقيل: يحادّون الله أي: أولياء الله كما في الخبر «من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة» والضمير في قوله تعالى: ﴿إن الذين يحادّون الله ورسوله﴾ يحتمل أن يرجع إلى المنافقين، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين ويظاهرونهم على النبيّ ﷺ فأذلهم الله تعالى ويحتمل أن يرجع لجميع الكفار فأعلم الله تعالى نبيه ﷺ أنهم ﴿كبتوا﴾ أي: أذلوا وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا، وقال قتادة: أخذوا، وقال أبو زيد: عذبوا، وقال السدي: لعنوا، وقال الفراء: أغيظوا يوم الخندق.
وقيل: يوم بدر ﴿كما كبت الذين من قبلهم﴾ أي: المحادّين المخالفين رسلهم كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصرّ على العصيان.
قال القشيريّ: ومن ضيع لرسول الله ﷺ سنة أو أحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك ﴿وقد أنزلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم ﴿آيات بينات﴾ أي: دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان كترك المحادّة وتحصيل الإذعان ﴿وللكافرين﴾ أي: الراسخين في الكفر بالآيات أو بغيرها من أوامر الله تعالى: ﴿عذاب مهين﴾ بما تكبروا واعتدوا على أولياء الله تعالى وشرائعه يهينهم ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم.
وقوله تعالى: ﴿يوم﴾ منصوب باذكر كما قاله الزمخشري قال: تعظيماً لليوم أو بلهم أي بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبراً أو بفعل مقدّر قدّره أبو البقاء يهانون أو يعذبون أو استقرّ ذلك يوم ﴿يبعثهم الله﴾ أي: الملك الأعظم ﴿جميعاً﴾ أي: حال كونهم مجتمعين، الكافرين المصرّح بهم والمؤمنين المشار إليهم الرجال والنساء أحياء كما كانوا لا يترك منهم أحد، وقيل: مجتمعين في حال واحد ﴿فينبئهم﴾ أي: يخبرهم أخباراً عظيماً مستقصى ﴿بما عملوا﴾ تخجيلاً وتوبيخاً وتشهيراً لحالهم ﴿أحصاه الله﴾ أي: أحاط به عدداً وكماً وكيفاً وزماناً ومكاناً بماله من صفات الكمال والجلال ﴿ونسوه﴾ لأنهم تهاونوا به حيث ارتكبوه ولم يبالوا به لضر أو تهم بالمعاصي وإنما تحفظ
الصفحة التالية