وقالوا: لقد غلطنا وليس هو بالنعت الذي نعت لنا ففرح ومارهم، وعن الأشعث بن قيس: «نزلت فيّ كان بيني وبين رجل خصومة في بئر وأرض، فاختصمنا إلى رسول الله ﷺ فقال: شاهداك أو يمينه فقلت: إذا يحلف ولا يبالي فقال: من حلف على يمين يستحق بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك هذه الآية».
وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبيّ ﷺ قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قال: فقرأها رسول الله ﷺ ثلاث مرّات فقال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: «المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» وفي رواية المسبل إزاره، وعن أبي هريرة عن النبيّ ﷺ قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم رجل حلف على يمين على مال مسلم فاقتطعه، ورجل حلف يميناً بعد صلاة العصر أنه أعطى بسلعته أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل منع فضل ماء، فإنّ الله تعالى يقول: «اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك».
أي: أهل الكتاب ﴿لفريقاً﴾ أي: طائفة ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب ﴿يلوون ألسنتهم بالكتاب﴾ أي: يقتلونها بقراءته عن المنزل إلى ما حرفوه من نعت النبيّ ﷺ وآية الرجم وغير ذلك يقال: لوى لسانه عن كذا أي: غيره ﴿لتحسبوه﴾ أي: المحرف المدلول عليه بقوله تعالى: ﴿يلوون﴾ ﴿من الكتاب﴾ الذي أنزل الله ﴿وما هو من الكتاب﴾ قرأ ابن عامر وعاصم بفتح السين والباقون بكسرها، وقوله تعالى: ﴿ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله﴾ تأكيد لقوله ﴿وما هو من الكتاب﴾ وزيادة تشنيع عليهم به وبيان لأنهم يزعمون ذلك تصريحاً لا تعريضاً أي: ليس هو نازلاً من عنده.
فإن قيل: نفى الله تعالى كون التحريف من عنده وهو فعل العبد فلا يكون فعل العبد مخلوقاً لله تعالى وإلا لما صح نفيه عنه تعالى أجيب: بأنّ المنفي هو الإنزال كما تقرّر ولا كون التحريف غير مخلوق لله تعالى بكسب العبد وقوله تعالى: ﴿ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون﴾ تأكيد أيضاً وتسجيل عليهم بالكذب والتعمد فيه واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
﴿ما كان﴾ أي: ما ينبغي ﴿لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم﴾ أي: الفهم للشريعة ﴿والنبوّة﴾ أي: المنزلة الرفيعة بالإنباء ﴿ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله﴾ فقال مقاتل والضحاك: نزلت في نصارى نجران كانوا يقولون: إن عيسى أمرهم أن يتخذوه رباً فقال تعالى: ﴿ما كان لبشر﴾ أي: عيسى ﴿أن يؤتيه الله الكتاب﴾ أي: الإنجيل، وقال ابن عباس وعطاء: ما كان لبشر أي: محمد أن يؤتيه الله الكتاب أي: القرآن وذلك «أن أبا رافع القرظي من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله ﷺ أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً؟ فقال: «معاذ الله أن نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني» فنزلت.
وقيل: «قال رجل: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: «ما ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله» والبشر جميع بني آدم لا واحد له من لفظه كالقوم ويوضع موضع الجمع والواحد ﴿ولكن﴾ يقول: ﴿كونوا ربانيين﴾ أي: علماء عاملين منسوب إلى الرب بزيادة ألف ونون تفخيماً كما يقال رقباني
قديمة قبل إبراهيم عليه السلام انتهى. وقد يقال: إنه كان لسان أكثر الناس بالسريانية فلا ينافي ذلك. فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: ﴿فخرّ عليهم السقف من فوقهم﴾ والسقف من فوقهم؟ أجيب: بأنهم قد لا يكونون تحته فلما قال تعالى: ﴿فخرّ عليهم السقف من فوقهم﴾ دل
على أنهم كانوا تحته وحينئذٍ يفيد هذا الكلام بأنّ الأبنية قد تهدّمت وهم ماتوا تحتها. ولما ذكر الله تعالى حال أصحاب المكر في الدنيا ذكر حالهم في الآخرة بقوله عز وجلّ:
﴿
ثم يوم القيامة يخزيهم﴾
أي: يذلهم ويهينهم بعذاب النار ﴿ويقول﴾ لهم الله تعالى على لسان الملائكة توبيخاً: ﴿أين شركائي﴾ أي: في زعمكم واعتقادكم ﴿الذين كنتم تشاقون﴾ أي: تخالفون المؤمنين ﴿فيهم﴾ أي: في شأنهم وقرأ نافع بكسر النون والباقون بفتحها ﴿قال﴾ أي: يقول ﴿الذين أوتوا العلم﴾ أي: من الأنبياء والمؤمنين وقال ابن عباس: يريد الملائكة ﴿إنّ الخزي﴾ أي: البلاء المذل ﴿اليوم﴾ أي: يوم الفصل الذي يكون للفائز فيه العاقبة المأمونة ﴿والسوء﴾ أي: كل ما يسوء ﴿على الكافرين﴾ أي: الغريقين في الكفر الذين تكبروا في غير موضع التكبر، وفائدة قولهم إظهار الشماتة، وزيادة الإهانة، وحكايته لتكون لطفاً لمن سمعه. تنبيه: في الآية دلالة على أن ماهية الخزي وماهية السوء في يوم القيامة مختصة بالكافرين وهذا ينفي حصول هذه الماهية في حق غيرهم ويؤكد هذا قول موسى عليه السلام: ﴿إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى﴾ (طه، ٤٨)
ثم إنه تعالى وصف عذاب هؤلاء الكافرين من وجه آخر فقال سبحانه وتعالى: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة﴾ أي: يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه عليهم السلام. وقرأ حمزة في هذه الآية وفي الآية الآتية بالياء في الموضعين على التذكير لأن الملائكة ذكور والباقون بالتاء على التأنيث لأن لفظ الجمع مؤنث. ﴿ظالمي أنفسهم﴾ أي: بأن عرضوها للعذاب المخلد بكفرهم ﴿فالقوا السلم﴾ أي: استسلموا وانقادوا حين عاينوا الموت قائلين: ﴿ماكنا نعمل من سوء﴾ أي: شرك وعدوان فتقول لهم الملائكة: ﴿بلى﴾ أي: بل كنتم تعملون أعظم السوء ثم علل تكذيبهم بقوله تعالى: ﴿إنّ الله عليم بما كنتم تعملون﴾ أي: فلا فائدة لكم في إنكاركم فيجازيكم به.
ولمّا كان هذا الفعل مع العلم سبباً لدخول جهنم قال تعالى: ﴿فادخلوا﴾ أي: أيها الكفرة ﴿أبواب جهنم﴾ أي: أبواب طبقاتها ودركاتها ﴿خالدين﴾ أي: مقدّرين الخلود ﴿فيها﴾ أي: جهنم لا يخرجون منها وإنما قال تعالى ذلك لهم ليكون أعظم في الخزي والغم وفي ذلك دليل على أنّ الكفار بعضهم أشدّ عذاباً من بعض ثم قال تعالى: ﴿فلبئس مثوى﴾ أي: مأوى ﴿المتكبرين﴾ عن قبول التوحيد وسائر ما آتت به الرسل. ولمّا بيّن تعالى أحوال المكذبين ذكر أحوال الصدّيقين بقوله تعالى:
﴿وقيل للذين اتقوا﴾ أي: خافوا عقاب الله ﴿ماذا﴾ أي: أيّ شيء ﴿أنزل ربكم قالوا خيراً﴾ أي: أنزل خيراً وذلك أنّ أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبيّ ﷺ فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه فيقولون: ساحر شاعر كذاب مجنون ولو لم تلقه خيرلك فيقول السائل: أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة وألقاه فيدخل مكة فيرى أصحاب النبيّ ﷺ فيخبرونه بصدقه، وأنه نبيّ مبعوث
صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت قالت: فقلت يا حسان إن هذا اليهودي يطوف بنا كما ترى بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من ورائنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله ﷺ وأصحابه فانزل إليه فاقتله فقال: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
قالت: فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل قال: ما لي بسلبه من حاجة يا ابنة عبد المطلب» وأقام رسول الله ﷺ وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال رسول الله ﷺ إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإنما الحرب خدعة، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال لهم: يا بني قريظة قد عرفتم وِدِّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم: إن قريشاً وغطفان جاؤوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم وبه أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره إن رأو نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً ﷺ حين تناجزوه.
قالوا: لقد أشرت برأي ونصح، ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً، وقد بلغني أمر رأيته أن حقاً علي أن أبلغكم نصحاً لكم فاكتموا علي قالوا: نفعل قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعثت إليكم اليهود يلتمسون رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني، قالوا صدقت قال فاكتموا علي قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم مثل ما حذرهم فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس، وكان مما صنع الله لرسوله ﷺ أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا: إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فأعدوا للقتال حتى نناجز محمداً ﷺ ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف
الموت وهم يوهمون أنهم يقولون السلام عليك وكان النبيّ ﷺ يرد عليهم فيقول: وعليكم فقالت السيدة عائشة: السام عليكم ولعنة الله وغضبه عليكم، فقال رسول الله ﷺ مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، فقالت: أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ أو لم تسمعي ما قلت، رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ» وقال النبي ﷺ عند ذلك: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت» فأنزل الله تعالى: ﴿وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله﴾ وروى أنس أنه ﷺ قال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» بالواو فقال بعض العلماء: إنّ الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن ندخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سآمة ديننا وهو الملال يقال سئم يسأم سأمة وسأماً، وقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر:
*فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى*
أي: لما أجزنا انتحى فزاد الواو وقال: آخرون هي للاستئناف، كأنه قيل: والسام عليكم، وقال آخرون: هي على بابها من العطف ولا يضرّنا ذلك لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدّم في قوله ﷺ لعائشة.
تنبيه: اختلف العلماء في ردّ السلام على أهل الذمة فقال ابن عباس والشعبي وقتادة: هو واجب لظاهر الأمر بذلك، وقال مالك: ليس بواجب فإن رددت فقل وعليك، وعندنا يجب أن يقول له وعليك لما مرّ في الحديث، وقال بعضهم: يقول في الردّ علاك السلام أي: ارتفع عنك، وقال بعض المالكية: يقال في الردّ السلام عليك بكسر السين يعني الحجارة
ولما كانوا يخفون ذلك جهدهم ويظنون بإملاء الله تعالى لهم أنه ﷺ لا يطلع عليه وإن اطلع عليه لم يقدر أن ينتقم منهم عبر عن ذلك بقوله تعالى: ﴿ويقولون في أنفسهم﴾ من غير أن يطلع عليه أحد ﴿لولا﴾ أي: هلا ولم لا ﴿يعذبنا الله﴾ أي: الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿بما نقول﴾ أي: لو كان نبيناً لعذبنا الله بما نقول وقيل: قالوا إنه يردّ علينا ويقول: وعليكم السام فلو كان نبياً لاستجيب له فينا ومتنا وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب وكانوا يعلمون أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يغضبون فلا يعاجلون من يغضبهم بالعذاب ﴿حسبهم﴾ أي: كافيهم في الانتقام ﴿جهنم﴾ أي: الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والفظاظة فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة ﴿يصلونها﴾ أي: يقاسون عذابها دائماً، فإنا قد أعددناها لهم ﴿فبئس المصير﴾ أي: مصيرهم.
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي: ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة ﴿إذا تناجيتم﴾ أي: اطلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه وكشفه لصاحبه سرّاً ﴿فلا تتناجوا﴾ أي: توجدوا هذه الحقيقة ﴿بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول﴾ أي: الكامل في الرسالة كفعل المنافقين واليهود، وقال مقاتل: أراد تعالى بقوله: ﴿آمنوا﴾ المنافقين آمنوا بلسانهم، وقال عطاء: يريد الذين آمنوا بزعمهم، وقيل: يا أيها الذين آمنوا بموسى ﴿وتناجوا بالبرّ والتقوى﴾ أي: الطاعة والعفاف عما نهى الله تعالى عنه ﴿واتقوا الله﴾ أي: اقصدوا قصداً يتبعه العمل بأن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية ﴿الذي إليه﴾ خاصة ﴿تحشرون﴾ أي: تجمعون


الصفحة التالية
Icon