بأن الفاء إنما دخلت في خبر إن لشبه الذين بالشرط وإيذاناً بتسبب امتناع الفدية على الموت على الكفر بخلافه في الآية الأولى لا دليل فيه على السبب كما تقول: الذي جاءني له درهم لم تجعل المجيء سبباً لاستحقاق الدرهم بخلاف قولك: فله درهم ونصب ذهباً على التمييز كقولهم: عشرون درهماً وقوله تعالى: ﴿ولو افتدى به﴾ محمول على المعنى كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تقرّب به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة، ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله تعالى: ﴿ولو أنّ للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه﴾ والمثل يحذف كثيراً في كلامهم كقوله: ضربته ضرب زيد وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله ﴿أولئك لهم عذاب أليم﴾ أي: مؤلم ﴿وما لهم من ناصرين﴾ أي: مانعين عنهم العذاب ومن مزيدة للإستغراق.
روى أنس عن رسول الله ﷺ قال: «يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة: لو أنّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به فيقول: نعم فيقول: أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي» ﴿لن تنالوا البر﴾ أي: لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله تعالى الذي هو الرحمة والرضا والجنة ﴿حتى تنفقوا مما تحبون﴾ من أموالكم أو ما يعمها وغيرها كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله تعالى والنفس في سبيله، وقال الحسن: لن تكونوا أبراراً.
روي أنه ﷺ قال: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله.
روي لما نزلت هذه الآية جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء ـ وهو بفتح الباء الموحدة وكسرها وبفتح الراء وضمها مع المدّ والقصر ضيعة بالمدينة وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله ﷺ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ـ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله ﷺ «بخ بخ ذاك مال رابح ـ أو قال رائح ـ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: افعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه» قوله ﷺ بخ بخ كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء وتكرّر للمبالغة وهي مبنية على السكون، فإن وصلت كسرت ونونت وربما شدّدت وقوله: رابح أو رائح يقال لضيعة الإنسان: مال رائح بالياء أي: يروح نفعه إليه ورابح بالباء الموحدة أي: ذو ربح كقولك لابن وتامر أي: ذو لبن وذو تمر.
وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال: هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله ﷺ أسامة بن زيد بن حارثة فكأن زيداً وجد في نفسه وقال: إنما أردت أن أتصدّق به، فقال رسول الله ﷺ «أما إن الله قد قبلها منك» وكتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعريّ أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما جاءت أعجبته فقال: إن الله قال:
﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ (آل عمران، ٩٢)
يختلفون فيه} يتعلق بما دل عليه بلى، أي: يبعثهم ليبين لهم والضمير لمن يموت وهو عامّ للمؤمنين والكافرين والذي اختلفوا فيه هو الحق. ﴿وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين﴾ في قولهم: ﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء﴾ وقولهم: ﴿لا يبعث الله من يموت﴾ وقيل: يجوز أن يتعلق بقوله: ﴿ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً﴾ أي: بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله مفترين على الله الكذب ثم بين سبحانه وتعالى تيسر الإعادة بقوله تعالى:
﴿إنما قولنا﴾ أي: بما لنا من العظمة والقدرة ﴿لشيء﴾ إبداء وإعادة ﴿إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ أي: يتسبب عن ذلك القول أنه يكون. تنبيه: قوله تعالى: ﴿قولنا﴾ مبتدأ و ﴿أن نقول﴾ خبره. فيكون وكن من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، ، أي: إذا أردنا حدوث شيء فليس إلا أن نقول له: أحدث فيحدث عقب ذلك من غير توقف. فإن قيل: قوله تعالى: ﴿كن﴾ إن كان خطاباً مع المعدوم فهو محال وإن كان خطاباً مع الموجود فكان أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال؟ أجيب: بأنّ هذا تمثيل لنفي الكلام والغايات وخطاب مع الخلق بما يعقلون ليس هو خطاب المعدوم لأنّ ما أراد فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد تعالى خلق الدنيا والآخرة بما فيها من السموات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك، ولكن خاطب تعالى العباد بما يعقلون، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «يقول الله تبارك وتعالى: يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له. أمّا شتمه إياي فيقول: إنّ لي ولداً. وأمّا تكذيبه فيقول: ليس يعيدني كما بدأني». حديث وفي رواية: «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً. وأنا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٍ». وقرأ ابن عامر والكسائي بفتح النون من يكون عطفاً على يقول أو جواباً للأمر والباقون بالرفع. ولما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي والجهالة والجهل والضلال، وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وإنزال العقوبة بهم، وحينئذٍ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا من تلك الديار والمساكن فبيّن تعالى حكم تلك الهجرة، وما لهؤلاء
المهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة بقوله تعالى:
تعالى عنه يقول: دهم الأمر وتوقد الجمر واشتد من الحرب الحر أي: يومي من الموت أفر يوم لا يقدر، أو يوم قدر، وذلك أن أجل الله الذي جعله محيطاً بالإنسان لا يقدر أن يتعداه أصلاً ﴿وإذا﴾ أي: إن فررتم ﴿لا تمتعون﴾ في الدنيا بعد فراركم ﴿إلا قليلاً﴾ أي: مدة آجالكم وهي قليل فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئاً كثيراً.
ولما كان ربما يقولون بل ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم ومن ثبت فاصطلم، أمره الله تعالى بالجواب عن هذا بقوله تعالى:
﴿قل﴾ أي: لهم منكراً عليهم ﴿من ذا الذي يعصمكم﴾ أي: يجيركم ويمنعكم ﴿من الله﴾ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في حال الفرار وقبله وبعده ﴿إن أراد بكم سوءاً﴾ أي: هلاكاً أو هزيمة فيرد ذلك عنكم ﴿أو﴾ يصيبكم بسوء إن ﴿أراد﴾ أي: الله ﴿بكم رحمة﴾ أي: خيراً أسماه بها لأنه أثرها، والمعنى: هل احترزتم في جميع أعماركم عن سوء أراده فنفعكم الاحتراز أو اجتهد غيره في منعكم رحمة منه، فتم له أمره أو أوقع الله بكم شيئاً من ذلك فقدر أحد مع بذل الجهد على كشفه بدون إذنه، ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك ذكر السوء أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً. وذكر الرحمة ثانياً دليلاً على حذف ضدها أولاً. وهذا بيان لقوله تعالى: ﴿لن ينفعكم الفرار﴾ وقوله تعالى: ﴿ولا يجدون لهم﴾ أي: في وقت من الأوقات ﴿من دون الله﴾ أي: غيره ﴿ولياً﴾ أي: يواليهم فينفعهم بنوع نفع ﴿ولا نصيراً﴾ أي: ينصرهم من أمره فيرد ما أراده بهم من السوء عنهم تقرير لقوله تعالى: ﴿من ذا الذي يعصمكم﴾ من الله الآية.
ولما أخبرهم تعالى بما علم مما أوقعوه من أسرارهم وأمره ﷺ بوعظهم، حذرهم بدوام عمله بمن يخون منهم بقوله تعالى:
﴿قد يعلم الله﴾ الذي له إحاطة الجلال والجمال ﴿المعوقين منكم﴾ أي: المثبطين عن رسول الله ﷺ وهم المنافقون ﴿والقائلين لإخوانهم﴾ أي: ساكني المدينة ﴿هلم﴾ أي: ائتوا وأقبلوا ﴿إلينا﴾ موهمين أن ناحيتهم مما يقام فيها القتال ويواظب فيها على صالح الأعمال قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار رسول الله ﷺ ويقولون لإخوانهم ما محمد ﷺ وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لا التقمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا الرجل فإنه هالك، وقال مقاتل: نزلت في المنافقين وذلك أن اليهود أرسلت إلى المنافقين وقالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحداً، فأنا أشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا فهلم إلينا، فأقبل عبد الله بن أُبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا: ما ترجون من محمد، ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا هنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود فلم يزداد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيماناً واحتساباً.
تنبيه: هلم اسم صوت سمي به فعل متعد مثل احضر وقرب، وأهل الحجاز يسوّون فيه بين الواحد والجماعة، وبلغتهم جاء القرآن العزيز، وأما بنو تميم فتقول: هلم يا رجل هلما يا رجلان هلموا يا رجال ﴿ولا﴾ أي: والحال أنهم لا ﴿يأتون البأس﴾ أي: الحرب أو مكانها ﴿إلا قليلاً﴾ أي: للرياء والسمعة بقدر ما يراهم المخلصون، فإذا اشتغلوا بالمعاركة وكفى كل منهم ما إليه تسللوا عنه لواذاً وعاذوا بمن لا ينفعهم من الخلق عياذاً.
﴿أشحة﴾ أي: يفعلون ما تقدم، والحال أن كلاً منهم شحيح ﴿عليكم﴾ أي: بحصول
من فاته العلم وأي شيء فات من أدرك العلم.
وما قاله الأحنف: كاد العلماء يكونون أرباباً، وكل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل ما يصير.
وما قاله الزبيري: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال.
وما قاله أبو مسلم الخولاني: مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا برزت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عنهم تحيروا.
وما قاله معاذ: تعلم العلم فإنّ تعلمه لك حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة.
وما قاله علي: العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق.
وما قاله ابن عمر: مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة.
وما قاله الشافعي من أن: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة وقال: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وقال: من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم فإنه يحتاج إليه في كل منهما.
وقد ذكرت في أوّل شرح المنهاج من الأحاديث ومن أقوال السلف ما يسرّ الناظر الراغب في الخير وفيما ذكرته هنا كفاية لأولي الأبصار ﴿والله﴾ أي: والحال أنّ المحيط بكل شيء علماً وقدرة ﴿بما تعملون﴾ أي: حال الأمر وغيره ﴿خبير﴾ أي: عالم بظاهره وباطنه فإن كان العلم مزيناً بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن كانت الرفعة على حسبه، وإن كان على غير ذلك فكذلك.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي: ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء ﴿إذا ناجيتم الرسول﴾ أي: أردتم مناجاة الذي لا أكمل منه في الرسالة الآية، فقال ابن عباس: «إنّ المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله ﷺ حتى شقوا عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكف كثير من الناس». وقال الحسن: «أنّ قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبيّ ﷺ يناجونه، فظنّ بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه».
وقال زيد بن أسلم «إنّ المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ ﷺ ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته فكان ذلك يشق على المسلمين لأنّ الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم يناجون أنّ جموعاً اجتمعت للقتال فنزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول﴾ » أي: أردتم مناجاته ﴿فقدّموا﴾ أي: بسبب هذه الإرادة وقوله تعالى: ﴿بين يدي نجواكم﴾ استعارة ممن له يدان والمعنى: قبل نجواكم التي هي سرّكم الذي تريدون أن ترفعوه ﴿صدقة﴾ لقول عمر من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته، والصدقة تكون لكم برهاناً على إخلاصكم كما ورد أنّ الصدقة برهان فهي مصدّقة لكم في دعوى الإيمان بالله تعالى ورسوله ﷺ وبكل ما جاء به عن الله تعالى.
تنبيه: ظاهر الآية يدل على أنّ تقديم الصدقة كان واجباً لأنّ الأمر للوجوب ويؤكد ذلك قوله تعالى بعده: ﴿فإنّ لم تجدوا فإنّ الله غفور رحيم﴾ وقيل: كان مندوباً لقوله تعالى: ﴿ذلك﴾ أي: التصدّق ﴿خير لكم وأطهر﴾ أي: لأنفسكم من الريبة وحب المال هذا


الصفحة التالية
Icon