والتكذيب وإنما يؤخركم لوقتكم فيجازيكم.
فإن قيل: لم ختمت الآية الأولى بقوله تعالى: ﴿وا شهيد على ما تعملون﴾ وهذه الآية بقوله تعالى: ﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾ ؟ أجيب: بأنه لما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله تعالى: ﴿وا شهيد على ما تعملون﴾ ولما كان في هذه الآية صدهم المؤمنين عن الإسلام كانوا يخفونه ويحتالون فيه قال: ﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾.
ولما مر شاس بن قيس اليهوديّ ـ وكان شيخاً عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم ـ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مسجد لهم يتحدّثون فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال: ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث ـ وهو موضع بالمدينة وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ـ ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح فبلغ ذلك النبيّ ﷺ فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ كرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف به بينكم؟» فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله ﷺ سامعين مطيعين» نزل.
﴿يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب﴾ أي: شاساً وأصحابه ﴿يردوكم بعد إيمانكم كافرين﴾ قال جابر: ما رأيت يوماً قط أقبح أوّلاً وأحسن آخراً مثل ذلك اليوم، ثم قال الله تعالى على وجه التعجب والتوبيخ.
﴿وكيف تكفرون﴾ أي: ولم تكفرون ﴿وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله﴾ محمد ﷺ والمعنى من أين يتطرّق إليكم الكفر والحال إنّ آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان النبيّ ﷺ غضة طرية وبين أظهركم رسول الله ﷺ ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ﴿ومن يعتصم با﴾ أي: ومن يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في مجامع أموره ﴿فقد هدى﴾ أي: فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول: إذا جئت فلاناً فقد أفلحت كان الهدي قد حصل فهو يخبر عنه حاصلاً ومعنى التوقع في قد ظاهر لأنّ المعتصم بالله متوقع للهدي كما أنّ قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده ﴿إلى صراط﴾ أي: طريق ﴿مستقيم﴾ أي: واضح.
﴿يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته﴾ أي: واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم. وقال ابن مسعود: بأن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى.
وروي مرفوعاً لما نزلت هذه الآية «قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم: يا رسول الله من يقوى على هذا؟ فنسخ بقوله تعالى: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾. وقال مقاتل: ليس في آل عمران منسوخ إلا هذه الآية ﴿ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون﴾ أي: موحدون والمعنى: لا تكونن على حال سوى حالة الإسلام إذا أدرككم الموت، فإنّ النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات إلى القيل تارة وإلى المقيد أخرى وإلى المجموع منهما وهو هنا إلى المقيد كما تقول لمن تستعين به على لقاء العدوّ ولا تأتني إلا وأنت على حصان بكسر الحاء فلا تناه عن الإتيان
على أنهم منقادون لخالقهم وأنهم ما خالفوا في أمر من الأمور كما قال تعالى: ﴿لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾ (الأنبياء، ٢٧)
. ولما بيّن تعالى أنّ كل ما سوى الله تعالى سواء أكان من عالم الأرواح أم من عالم الأجساد فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى وكبريائه أتبعه بالنهي عن الشرك وبالأمر بأنّ كل ما سواه فهو ملكه وأنه غني عن الكل بقوله تعالى: ﴿وقال الله﴾ فعبّر لأجل تعظيم المقام بالاسم الأعظم الخاص ﴿لا تتخذوا﴾ أي: لا تكلفوا فطرتكم الأولى السليمة المجبولة على معرفة أنّ الإله واحد أن تأخذ في اعتقادها ﴿إلهين اثنين﴾. فإن قيل: إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا: عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة لأنّ المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص. فأمّا رجل ورجلان وفرس وفرسان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله تعالى: ﴿إلهين اثنين﴾ ؟ أجيب: بأجوبة أوّلها: قال الرازي: وهو الأقرب عندي أنّ الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على ما فيه من القبح والقول بوجود إلهين مستقبح في العقول فإن أحداً من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال فالمقصود من تكرار اثنين تأكيد التنفير عنه وتوقيف العقل على ما فيه من القبح. الثاني: أنّ قوله تعالى: ﴿إلهين﴾ لفظ واحد يدل على أمرين ثبوت الإله وثبوت التعدّد فإذا قيل: لا تتخذوا إلهين لم يعرف من هذا اللفظ أن النهي وقع عن إثبات الإلهين أو عن اثبات التعدّد أو عن مجموعهما فلما قال: لا تتخذوا إلهين اثنين ظهر أنّ قوله لا تتخذوا نهي عن إثبات التعدّد فقط. الثالث: في الآية تقديم وتأخير والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين. الرابع: أنّ الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنيّ به منهما والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد
إليه والعناية به. ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله، ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية، ثم علل تعالى ذلك النهي بما اقتضاه السياق من الوحدانية فقال جل ذكره: ﴿إنما هو﴾ أي: الإله المفهوم من لفظ إلهين الذي لا يستحق غيره أن يطلق عليه هذا الضمير إلا مجازاً لأنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً إلا على من وجوده من ذاته.k
﴿إله﴾ أي: مستحق هذا الوصف على الإطلاق ﴿واحد﴾ لا يمكن أن يثنى بوجه ولا أن يجزأ بغاية وغير غاية لغناه المطلق عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه. ولما دلت الدلائل على أنه لا بدّ للعالم من إله وثبت أنّ القول بوجود إلهين محال، وثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الفرد الصمد، قال تعالى بعده: ﴿فإياي فارهبون﴾ أي: خافون دون غيري والرهبة مخافة مع حزن واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى خطاب الحضور وهو من طريقة الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله فإياه فارهبوه، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم. ولما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أنّ إله العالم لا شريك له في الإلهية وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيده وفي ملكه وتصرفه وتحت قهره وذلك قوله تعالى:
أي: الله وأعاد الضمير في قوله تعالى له
﴿بغيظهم﴾ أي: متغيظين لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا، بل تفرقوا عن غير طائل حال كونهم ﴿لم ينالوا خيراً﴾ لا من الدين ولا من الدنيا بل ذلاً وندامة فهو حال ثانية، أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة ﴿وكفى الله﴾ أي: الذي له العزة والكبرياء ﴿المؤمنين القتال﴾ بما ألقى في قلوبهم من الداعية للانصراف بالريح والجنود من الملائكة وغيرهم، منهم نعيم بن مسعود لما تقدم من الحيلة التي فعلها.
قال سعيد بن المسيب: لما كان يوم الأحزاب حصر النبي ﷺ بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرئ منهم الكرب، وحتى قال النبي ﷺ «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك إن تشا لا تعبد»، فبينما هم على ذلك إذ جاء نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمنه الفريقان جميعاً فخذل بين الناس فانطلق الأحزاب منهزمين من غير قتال فذلك قوله تعالى: ﴿وكفى الله المؤمنين القتال﴾ ﴿وكان الله﴾ أي: الذي له صفات الكمال أزلاً وأبداً ﴿قوياً﴾ على إحداث ما يريد ﴿عزيزاً﴾ غالباً على كل شيء.
ولما أتم الله حال الأحزاب أتبعه حال من عاونوهم بقوله تعالى:
﴿وأنزل الذين ظاهروهم﴾ أي: عاونوا الأحزاب ﴿من أهل الكتاب﴾ وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير ﴿من صياصيهم﴾ أي: حصونهم متعلق بأنزل، ومن لابتداء الغاية والصياصي جمع صيصية وهي الحصون والقلاع والمعاقل، ويقال: لكل ما يمتنع به ويتحصن فيه صيصية، ومنه قيل لقرن الثور والظبي ولشوكة الديك صيصية، عن سعيد بن جبير قال: كان يوم الخندق بالمدينة فجاء أبو سفيان بن حرب ومن تبعه من قريش، ومن تبعه من كنانة وعيينة بن حصن، ومن تبعه من غطفان وطليحة، ومن تبعه من بني أسد وبنو الأعور، ومن تبعهم من بين سليم وقريظة، كان بينهم وبين رسول الله ﷺ عهد فنقضوا ذلك وظاهروا المشركين فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم﴾.
وكانت غزوة بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وعن موسى بن عقبة أنها في سنة أربع قال العلماء بالسير: إن رسول الله ﷺ لما أصبح في الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم انصرف رسول الله ﷺ والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله ﷺ على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس والسرج فقال: ما هذا يا جبريل قال: من متابعة قريش فجعل رسول الله ﷺ يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال: يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله تعالى يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم، فإن الله دقهم دق البيض على الصفا وإنهم لك طعمة فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة وقدم رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس.
فسار عليّ حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله ﷺ فرجع حتى لقي رسول الله ﷺ بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخباث قال: أظنك سمعت فيَّ منهم أذى قال: نعم يا رسول الله قال لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلما دنا رسول الله صلى الله
هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطروحاً بسبب الدين.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجرّاح لما قتل أباه، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه لما قتل خاله العاصي ابن هشام يوم بدر روي أنها نزلت في أبي بكر، وذلك أنّ أبا قحافة سب النبي ﷺ فصكه صكةً سقطت منها أسنانه، ثم أتى النبي ﷺ فذكر له ذلك، فقال: أو فعلت، قال: نعم، قال: لا تعد إليه، فقال: والذي بعثك بالحق نبياً لو كان السيف مني قريباً لقتلته، فهؤلاء لم يوادّوا أقاربهم.
قال القرطبي: استدل مالك بهذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم، قال القرطبي: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم. وعن عبد العزيز بن أبي دواد: أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلا الآية. وقال ﷺ «اللهمّ لا تجعل لفاجر عندي نعمة، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ ﴿لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر﴾ الآية ﴿أولئك﴾ أي: العالو الهمة ﴿كتب﴾ أي: أثبت قاله الربيع بن أنس رضى الله عنه، وقيل: خلق، وقيل: جعل كقوله تعالى: ﴿فاكتبنا مع الشاهدين﴾ (آل عمران: ٥٣)
أي: اجعلنا، وقوله تعالى: ﴿فسأكتبها للذين يتقون﴾ (الأعراف: ١٥٦)
وقيل: ﴿كتب في قلوبهم الإيمان﴾ (طه: ٧١)
بما وفقهم فيه وشرح له صدرهم، أي: على قلوبهم كقوله تعالى: ﴿في جذوع النخل﴾ وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. قال البيضاوي: وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، فإنّ جزاء الثابت في القلب يكون ثابتاً فيه، وأعمال الجوارح لا تثبت فيه. ﴿وأيدهم﴾ أي: وقوّاهم وشدّدهم وشرّفهم ﴿بروح﴾ أي: نور شريف جدّاً يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة نبيه ﷺ من نور العلم والعمل ﴿منه﴾ أي: من الله تعالى أحياهم به فلا إنفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات، فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهراً وباطناً، فعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسراج، فلا تجد شيئاً أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله تعالى، ومعاداة أعدائه لا بل هو عين الإخلاص، ومن جنح إلى منحرف عن دينه، أوداهن مبتدعاً في عقيدته نزع الله تعالى نور التوحيد من قلبه.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به وقال ابن عباس رضى الله عنهما: نصرهم على عدوّهم، وسمى تلك النصرة روحاً، لأنّ بها يحيا أمرهم. وقال الربيع بن أنس رضى الله عنه: بالقرآن وحججه، وقال ابن جريج: بنور وبرهان وهدى، وقيل: برحمة، وقيل: أيدهم بجبريل عليه السلام ﴿ويدخلهم جنات﴾ أي: بساتين تستر داخلها من كثرة أشجارها.
وأخبر عن ريها بقوله تعالى: ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي قصورها ﴿الأنهار﴾ فهي بذلك كثيرة الرياض والأشجار وقال تعالى: ﴿خالدين فيها﴾ لأنّ ذلك لا يلذ إلا بالدوام، وقال تعالى: ﴿رضى الله﴾ أي: الملك الأعظم ﴿عنهم﴾ لأنّ ذلك لا يتم إلا برضا مالكها الذي له الملك كله ﴿ورضوا عنه﴾ أي: لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون ﴿أولئك﴾ أي: الذين هم في الدرجات العلى من العظمة لكونهم قصروا ودّهم على الله تعالى، علماً منهم بأنه ليس الضرّ والنفع إلا بيده ﴿حزب الله﴾ أي: جند الملك الذي أحاط بجميع صفات الكمال ﴿ألا إنّ حزب الله﴾ أي: جند الملك الأعلى، وهم هؤلاء الموصوفون ومن والاهم ﴿هم المفلحون﴾ أي: الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين، وقد علم من الرضا من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الإنفكاك عن السعادة فأغنى