أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} في الشدائد وقد مرّ معنى يعلم.
تنبيه: قال البيضاوي: والفرق بين لما يعلم ولم أنّ في لما توقع الفعل فيما يستقبل لكن قال أبو حيان: لا أعلم أحداً من النحويين ذكره بل ذكروا أنك إذا قلت لما يخرج زيد دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار، وأمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا انتهى. لكن قال الفرّاء: لما لتعريض الوجود بخلاف لم.
﴿ولقد كنتم تمنون﴾ فيه حذف إحدى التاءين في الأصل أي: تتمنون ﴿الموت﴾ أي: الحرب فإنها من أسباب الموت أو الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدراً وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله ﷺ مشهداً لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة فألحوا يوم أحد على الخروج ﴿من قبل أن تلقوه﴾ أي: تشاهدوه وتعرفوا شدّته ﴿فقد رأيتموه﴾ أي: الحرب أو الموت حتى قتل دونكم من قتل من إخوانكم ﴿وأنتم تنظرون﴾ أي: بصراء تتأملون الحال كيف هم فلم انهزمتم.
﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل﴾ فسيخلو كما خلوا بالموت أو القتل ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد؛ لأنّ الحمد لا يستوجبه إلا الكافل والتحيمد فوق الحمد فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال وأكرم الله تعالى نبيه وصفيه ﷺ باسمين مشتقين من اسمه جل وعلا محمد وأحمد وفيه يقول حسان بن ثابت:
*وشق له من اسمه ليجله | فذو العرش محمود وهذا محمد* |
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿أفإن مات أو قتل﴾ شك وهو على الله محال؟ أجيب: بأن المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجود الإرتداد، قال ابن عباس وأصحاب المغازي: لما رأى خالد بن الوليد الرماة يوم أحد اشتغلوا بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين ثم حمل على أصحاب النبيّ ﷺ من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم ورمى عبد الله ابن قمئة رسول الله ﷺ بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرّق عنه أصحابه، ونهض رسول الله ﷺ إلى صخرة ليعلوها وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها، فقال رسول الله ﷺ «أوجب طلحة» ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله ﷺ يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشياً وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبيّ ﷺ فذب مصعب بن عمير وهو صاحب راية النبيّ ﷺ فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبيّ ﷺ فرجع وقال: إني قتلت محمداً وصاح صارخاً، ألا إن محمداً قد قتل فقيل: إن ذلك الصارخ كان إبليس فانكفأ الناس وجعل رسول الله ﷺ يدعو الناس: «إليّ عباد الله إليّ عباد الله» فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد
تنبيه: جواب هل يستوون هو لا يستوون. وقوله تعالى: ﴿الحمد لله﴾ قال ابن عباس: الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد، وقيل المعنى: أن كل الحمد لله، وليس شيء من الحمد للأصنام لأنه لا نعمة لها على أحد لأنها جماد عاجز، أي: إنما الحمد لله لا لغيره فيجب على جميع العباد حمد الله لأنه تعالى أهل المحامد والثناء الحسن، فكأنهم قالوا: نحن نعلم ذلك فقيل: ﴿بل أكثرهم﴾ أي: الكفار ﴿لا يعلمون﴾ لكونهم يسوّونه غيره ومن نفى عنه أصل العلم الذي هو أعلى صفات الكمال. كان في عداد الأنعام فهم لذلك يشبهون به ما ذكر ويضربون له الأمثال الباطلة ويضيفون نعمه إلى غيره.
ثم إنه تعالى ضرب لعبدة الأوثان مثلاً آخر بقوله تعالى: ﴿وضرب الله مثلاً﴾ ثم أبدل منه ﴿رجلين﴾ ثم استأنف البيان لما أجمل فقال ﴿أحدهما أبكم﴾ وهو الذي ولد أخرس فكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأبكم الذي لا يسمع ولايبصر وصف الله تعالى هذا الرجل بصفة ثانية بقوله تعالى: ﴿لايقدر على شيء﴾ لأنه لايفهم ولاَيُفهم وفي ذلك إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل ثم وصفه الله تعالى بصفة ثالثة بقوله تعالى: ﴿وهو﴾ أي: ذلك الأبكم العاجز ﴿كلّ على مولاه﴾ أي: ثقيل على من ولي أمره ويعوله، قال أهل المعاني: أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة يقال: كلّ السكين إذا غلظت شفرته فلم تقطع وكلَّ اللسان إذا غلظ فلم يقدر على الكلام وكل فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينهض فيه ثم وصفه تعالى بصفة رابعة بقوله: ﴿أينما يوجهه﴾ أي: يرسله ويصرفه ذلك المولى ﴿لا يأت بخير﴾ لأنه عاجز لا يحسن ولا يفهم، قيل: هذا مثل شركائهم الذين هم عيال ووبال على عبدتهم ووبخهم الله تعالى بقوله: ﴿هل يستوي هو﴾ أي: هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع ﴿ومن﴾ أي: ورجل آخر على ضد صفته فهو ناطق قادر عالم فطن قوي خبير مبارك ميمون ﴿يأمر﴾ أي: ورجل آخر بماله من العلم والقدرة ﴿بالعدل﴾ أي: يبذل النصيحة لغيره ﴿وهو﴾ في نفسه ظاهراً وباطناً ﴿على صراط﴾ أي: طريق واضح ﴿مستقيم﴾ أي: عامل فيه بما يأمر به، قيل: هذا مثال المعبود بالحق الذي يكفي عابديه جميع المؤن وهو دال على كمال علمه وتمام قدرته، وقيل: المراد من هذا الأبكم عبد لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان ذلك العبد يكره الإسلام وما كان فيه خير ومولاه وهو عثمان يأمر بالعدل وكان على الدين القويم والصراط المستقيم، وقيل: المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات المذمومة وكل حر موصوف بتلك الصفات الحميدة وهذا القول كما قال الرازي أولى من الأول لأن وصفه تعالى إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على
الوثن وكذلك بالبكم وبالكلّ وبالتوجه في جهات المنافع وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله تعالى وأيضاً المقصود تشبيه صورة بصورة في أمر من الأمور وذلك التشبيه لا يتم إلا عند كون إحدى الصورتين مغايرة للأخرى، وأمّا القول الثاني فضعيف أيضاً لأنّ المقصود إبانة التفرقة بين رجلين موصوفين بالصفات المذكورة وذلك غير مختص بشخص معين بل إذا حصل التفاوت في الصفات المذكورة فإنه يحصل المقصود.
ثم وصف سبحانه وتعالى نفسه بكمال العلم بقوله تعالى: ﴿ولله﴾ أي: لا لغيره {غيب السموات
فدخل عليها بغير إذن قال: ولقد رأيتنا أن رسول الله ﷺ أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله ﷺ واتبعته، فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ قال: فما أدري، أنا أخبرته أن القوم خرجوا أو أخبرني قال: فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب».
وعن أنس رضي الله عنه قال: «ما أولم النبي ﷺ على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة» وفي رواية: «أكثر وأفضل ما أولم على زينب» قال ثابت: فما أولم قال: أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه قال أنس رضي الله عنه: «كانت زينب تفخر على أزواج النبي ﷺ تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات» وقال الشعبي: «كانت زينب تقول للنبي ﷺ إني لأدل عليك بثلاث: ما من نسائك امرأة تدل بهن: جدي وجدك واحد، وأنكحنيك الله في السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام» وأخرج ابن سعد والحاكم عن محمد بن يحيى بن حبان قال: «جاء رسول الله ﷺ بيت زيد بن حارثة يطلبه، وكان زيد يقال له: زيد بن محمد، فربما فقده رسول الله ﷺ الساعة فيقول: أين زيد؟ فجاء منزله يطلبه فلم يجده، وتقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فضلاً، فأعرض رسول الله ﷺ عنها فقالت: ليس هو ههنا يا رسول الله فادخل، فأبى أن يدخل، فأعجبت رسول الله ﷺ فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يفهم منه إلا ربما أعلن بسبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب، فجاء زيد إلى منزله فأخبرته امرأته أن رسول الله ﷺ أتى منزله فقال زيد: ألا قلت له أن يدخل قالت: قد عرضت ذلك عليه فأبى قال: فسمعت شيئاً منه قالت: سمعته حين ولى تكلم بكلام لا أفهمه وسمعته يقول: سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب، فجاء زيد حتى أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله بلغني أنك جئت منزلي فهلا دخلت يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها فقال رسول الله ﷺ ﴿أمسك عليك زوجك﴾ فما استطاع زيد إليها سبيلاً بعد ذلك اليوم فيأتي إلى رسول الله ﷺ فيخبره فيقول: ﴿أمسك عليك زوجك﴾ ففارقها زيد واعتزلها وانقضت عدتها، فبينما رسول الله ﷺ جالس
يتحدث مع عائشة إذ أخذته غشية، فسري عنه وهو يبتسم ويقول: من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله زوجنيها من السماء، وقرأ ﴿وإذ تقول للذي﴾ الآية قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها زوجها الله من السماء وقلت: هي تفخر علينا بهذا».
ولما ذكر تعالى التزويج على ماله من العظمة ذكر علته بقوله تعالى: ﴿لكي لا يكون على المؤمنين حرج﴾ أي: ضيق وإثم ﴿في أزواج أدعيائهم﴾ أي: الذين تبنوهم وأجروهم في تحريم أزواجهم مجرى أزواج البنين على الحقيقة ﴿إذا قضوا منهن وطرا﴾ أي: حاجة بالدخول بهن، ثم الطلاق وانقضاء العدة.
فائدة: لا مقطوعة في الرسم من ﴿لكي﴾.
تنبيه: الأدعياء: جمع دعي وهو المتبنى أي: زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته
آخرها أوّلها» أعاذنا الله تعالى ومحبينا من الأهواء المضلة ﴿ولا تجعل في قلوبنا غلاً﴾ أي: ضغناً وحسداً وحقداً، وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام ﴿للذين آمنوا﴾ أي: أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته وقيدوا بالقلب لأنّ رذائل النفس قل أن تنفك، وأنها إن كانت مع صحة القلب أو شك أن لا تؤثر ﴿ربنا﴾ أي: أيها المحسن إلينا بتعليم ما لم نكن نعلم، وأكدوا إعلاماً بأنهم يعتقدون ما يقولون بقولهم: ﴿إنك رؤوف﴾ أي: راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير ﴿رحيم﴾ مكرم غاية الإكرام لمن أردت، ولو لم يكن
له وصلة فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن تكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة، أو لا فنكون من أهل الرحمة.
فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غلّ على أحد من الصحابة فليس ممن عنى الله تعالى بهذه الآية. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بكسر الهمزة، والباقون بمدها
ولما ذكر حال المؤمنين اتبعهم بذكر حال المنافقين فقال تعالى: ﴿ألم تر﴾ أي: تعلم علماً هو في غاية الجزم كالمشاهدة يا أعلى الخلق، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف العالي بأداة الانتهاء فقال تعالى: ﴿إلى الذين نافقوا﴾ أي: أظهروا غيرما أضمروا وبالغوا في إخفاء عقائدهم، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه، قالوا: والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله، وهو استعارة من الضب في نافقائه وقاصعائه وصور حالهم بقوله تعالى: ﴿يقولون لأخوانهم الذين كفروا﴾ أي: غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق ﴿من أهل الكتاب﴾ وهم اليهود من بني قريظة والنضير. والأخوان هم الأخوة، وهي هنا تحتمل وجوهاً:
أحدها: الأخوة في الآخرة لأنّ اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم
وثانيها: الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.
وثالثها: الأخوة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد ﷺ فقالوا لليهود: ﴿لئن أخرجتم﴾ أي: من مخرجّ ما من المدينة ﴿لنخرجن معكم﴾ أي: منها ﴿ولا نطيع فيكم﴾ أي في خذلانكم ﴿أحداً﴾ أي يريد خذلانكم من الرسول والمؤمنين. وأكدوا بقولهم: ﴿أبداً﴾ أي: ما دمنا نعيش، وبمثل هذا العزم يستحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب ﴿وإن قوتلتم﴾ أي: من أي مقاتل كان يقاتلكم ولم تخرجوا ﴿لننصرنكم﴾ أي: لنعيننكم ولنقاتلنّ معكم.
ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه بين حاله سبحانه بقوله تعالى: ﴿والله﴾ أي: يقولون ذلك والحال أنّ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿يشهد إنهم﴾ أي: المنافقين ﴿لكاذبون﴾ أي: فيما قالوا ووعدوا، وهذا من أعظم دلائل النبوّة لأنه إخبار بغيب بعيد عن العادة.
ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين بقوله تعالى: ﴿لئن أخرجوا﴾ أي: بنو النضير من أي مخرج كان ﴿لا يخرجون﴾ أي: المنافقون ﴿معهم﴾ أي: حمية لهم لأسباب يعلمها الله تعالى: ﴿ولئن قوتلوا﴾ أي: اليهود من أيّ مقاتل كان، فيكف بأشجع الخلق وأعلمهم ﷺ ﴿لا ينصرونهم﴾ أي: المنافقون.
ولقد صدق الله تعالى وكذبوا في الأمرين معاً القتال والإخراج لا نصروهم ولا خرجوا معهم فكان ذلك من أعلام النبوة، وعلم به من كان شاكاً فضلاً عن الموفقين ﴿ولئن نصروهم﴾ أي: المنافقون في وقت من الأوقات ﴿ليولنّ﴾ أي: