أمرين: إمّا للإعتماد على واو الحال وقد عدّه بعضهم مسوّغاً وإن كان الأكثر لم يذكروه وأنشد:

*سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا محياك أخفى ضوءه كل شارق*
وإمّا لأنّ الموضع موضع تفصيل، فإنّ المعنى يغشى طائفة وطائفة لم يغشاهم فهو كقوله:
*إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وشق عندنا لم يحوّل*
وقوله تعالى: ﴿يظنون با غير الحق﴾ أي: أن لا ينصر الله محمداً صفة أخرى لطائفة وغير الحق نصب على المصدر أي: يظنون بالله غير الظنّ الحق الذي يحق أن يظنّ به ﴿ظنّ﴾ أي: كظنّ ﴿الجاهلية﴾ حيث اعتقدوا أنّ النبيّ ﷺ قتل أو لا ينصر وقوله تعالى: ﴿يقولون﴾ أي: لرسول الله ﷺ بدل من يظنون ﴿هل لنا﴾ أي: ما لنا لفظه استفهام ومعناه جحد ﴿من الأمر﴾ أي: النصر الذي وعدناه ﴿من شيء﴾ أي: شيء ومن صلة زيدت للتأكيد وهو إمّا مبتدأ خبره لنا وإمّا فاعل للنا لاعتماده على الإستفهام ومن الأمر حال من المبتدأ أو الفاعل وهو شيء لكونه مرفوعاً حقيقة لا مجروراً، وقيل: إنّ عبد الله بن أبيا بنُ سلول لما شاوره النبيّ ﷺ في هذه الوقعة أشار إليه بأن لا يخرج من المدينة ثم إنّ بعض الصحابة ألحوا على النبيّ ﷺ في أن يخرج إليهم فغضب ابن أبيّ من ذلك، فقال: عصاني وأطاع الولدان ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع ابن أبي فقيل له: قتل بنو الخزرج فقال: هل لنا من الأمر من شيء يعني أنّ محمداً لم يقبل قولي حين أمرته بأن لا يخرج من المدينة والمعنى: هل لنا أمر يطاع فهو استفهام على سبيل الإنكار ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿إنّ الأمر كله﴾ أي: الغلبة الحقيقية لله ولأوليائه، فإنّ حزب الله هم الغالبون أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقرأ أبو عمرو برفع اللام بعد الكاف على أنه مبتدأ والخبر لله والباقون بالنصب على أنه توكيد.l
تنبيه: هذه الآية تدل على أنّ جميع المحدثات خلق الله تعالى بقضائه وقدره؛ لأنّ المنافقين قالوا: لو أنّ محمداً قبل منا رأينا ونصحنا لما وقع في هذه المحنة، فأجابهم الله تعالى بأنّ الأمر كله لله. وهذا إنما ينتظم إذا كانت أفعال العباد بقضائه وقدره، إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب رافعاً لشبهة المنافقين وقوله تعالى: ﴿يخفون في أنفسهم ما لا يبدون﴾ أي: يظهرون ﴿لك﴾ حال من ضمير يقولون، وقل إنّ الأمر كله لله اعتراض بين الحال وذي الحال أي: يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وقوله تعالى: ﴿يقولون﴾ بيان لما قبله ﴿لو كان لنا من الأمر شيء﴾ أي: كما وعد محمد وزعم أنّ الأمر كله لله ولأوليائه أو لو كان الإختيار إلينا لم نخرج كما كان رأي ابن أبيّ وغيره ﴿ما قتلنا ههنا﴾ أي: لما غلبنا ولما قتل من قتل منا في هذه المعركة.
﴿قل﴾ لهم ﴿لو كنتم في بيوتكم﴾ وفيكم من كتب الله تعالى عليه القتل ﴿لبرز﴾ أي: خرج ﴿الذين كتب﴾ أي: قضى ﴿عليهم القتل﴾ منكم ﴿إلى مضاجعهم﴾ أي: مصارعهم فيقتلوا ولم ينجهم قعودهم؛ لأنّ قضاء الله تعالى كائن لا محالة فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه وقرأ أبو عمرو وحفص وورش بضم الباء في بيوتكم والباقون بالكسر قوله تعالى: ﴿وليبتلي﴾ أي: ليختبر ﴿الله ما في صدوركم﴾ أي: قلوبكم من الإخلاص والنفاق
إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك. وقيل: العدل الإنصاف، والإنصاف أعدل من الاعتراف للمنعم بإنعامه، والإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وعن محمد بن كعب القرظي قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: صف لي العدل؟ فقلت: بخ سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابناً وللمثل منهم أخاً وللنساء كذلك. ﴿وإيتاء﴾ أي: ومن الإحسان إيتاء ﴿ذي القربى﴾ أي: القرابة القربى والبعدى فيندب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله فإن لم يكن لك فضل فدعاء حسن وتودّد. وروى أبو سلمة عن أبيه أنّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، إنّ أهل هذا البيت ليكونون تجاراً فتنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم».
ولما أمر تعالى بالمكارم نهى عن المساوئ بقوله تعالى: ﴿وينهى عن الفحشاء﴾ قال ابن عباس: ، أي: الزنا، فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها. وقال غيره: الفحشاء ما قبح من القول والفعل فيدخل فيه الزنا وغيره من جميع الأقوال والأفعال المذمومة جميعها. ﴿والمنكر﴾ قال ابن عباس: يعني الشرك والكفر. وقال غيره: المنكر ما لا يعرف في شريعة أو سنة. ﴿والبغي﴾ هو الاستيلاء على الناس والتجبر عليهم قيل: إنّ أعجل المعاصي عقاباً البغي، ولو أنّ جبلين بغى أحدهما على الآخر لدك الباغي. ونص تعالى على البغي مع دخوله في المنكر اهتماماً به، كما بدأ بالفحشاء لذلك. وقال ابن قتيبة في هذه الآية: العدل استواء السرّ والعلانية والإحسان أن تكون سريرته خيراً من علانيته والفحشاء والمنكر والبغي أن تكون علانيته أحسن من سريرته. وقال بعض العلماء: إنّ الله تعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء، فذكر العدل وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وذكر في مقابلته الفحشاء وهو ما قبح من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان وهو أن يعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه، وذكر في مقابلته المنكر وهو أن ينكر إحسان من أحسن إليه، وذكر إيتاء ذي القربى، والمراد به صلة القرابة والتودّد إليهم والشفقة عليهم وذكر في مقابلته البغي وهو أن يتكبر عليهم أو يظلمهم حقوقهم. ولما كان هذا المذكور من أبلغ المواعظ نبه عليه بقوله تعالى: ﴿يعظكم﴾ أي: يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة الثلاثة الأول وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ومجانبة الثلاثة الأخيرة وهي الفحشاء والمنكر والبغي. ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي: لكي تتعظوا فتعملوا بما فيه رضا الله تعالى. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون
بالتشديد وفيه ادغام التاء في الأصل في الذال. وروى البيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن مسعود أنه قال: أعظم آية في كتاب الله تعالى: ﴿الله لا إله إلا هو الحيّ
القيوم﴾
(البقرة، ٢٥٥)
وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل: ﴿إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب﴾ (الطلاق: ٢، ٣)
وأشدّ آية في كتاب الله تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم﴾ (الزمر، ٥٣)
الآية. وقال أهل المعاني: لما قال الله تعالى في الآية الأولى: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء﴾ بيّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال فما من شيء يحتاج
التاء ولا ألف بعد الميم.
ولما كانت العدة حقاً للرجال وإن كانت لا تسقط بإسقاطهم لما فيها من حق الله تعالى قال تعالى: ﴿فما لكم عليهن من عدة﴾ أي: أياماً يتربصن فيها بأنفسهن ﴿تعتدونها﴾ أي: تحصونها وتستوفونها بالإقراء وغيرها، فتعتدونها صفة لعدة، وتعتدونها إما من العدد، وإما من الاعتداد، أو تحسبونها أو تستوفون عددها من قولك: عد الدراهم فاعتدها أي: استوفى عددها نحو: كلته فاكتال ووزنته فاتزن، فإن قيل: ما الفائدة في الاتيان بثم وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك؟ أجيب: بأن ذلك إزاحة لما قد يتوهم أن تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابة كما يؤثر في النسب فيؤثر في العدة، وظاهره يقتضي عدم وجود العدة بمجرد الخلوة، وتخصيص المؤمنات والحكم عام للتنبيه على أن شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيراً لنطفة المؤمن، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح؛ لأن الله تعالى رتب الطلاق بكلمة ثم وهي للتراخي حتى لو قال لأجنبية: إذا نكحتك فأنت طالق، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح لا يقع الطلاق. وهو قول علي وابن مسعود وجابر ومعاذ وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وبه قال أهل العلم: منهم الشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهما. وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: يقع الطلاق، وهو قول إبراهيم النخعي وأصحاب الرأي: وقال ربيعة ومالك والأوزاعي: إن عيّن امرأة يقع وإن عمم فلا يقع.
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: كذبوا على ابن مسعود رضي الله عنه، إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، يقول الله تعالى: ﴿إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن﴾ ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن. وروى عطاء عن جابر: لا طلاق قبل النكاح وقوله تعالى: ﴿فمتعوهن﴾ أي: أعطوهن ما يستمتعن به محله كما قال ابن عباس رضي الله عنه: إذا لم يكن سمى لها صداقاً وإلا فلها نصف الصداق ولا متعة لها، وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فنصف ما فرضتم﴾ (البقرة: ٢٣٧)
أي: فلا متعة لها مع وجوب نصف الفرض.
واختلف في المتعة هل هي واجبة، أو مندوبة؟ وهي عندنا: واجبة بشروط وقد تقدم، والكلام عليها عند قوله تعالى: ﴿فتعالين أمتعكن﴾ وعند بعض الأئمة أنها مندوبة، وقال بعضهم: هي مندوبة عند استحقاقها نصف المهر، واجبة عند عدمه، وذهب بعضهم إلى أنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية ﴿وسرحوهن سراحاً جميلاً﴾ أي: خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار، وليس لكم عليهن عدة، وقيل: السراح الجميل أن لا يطالب بما دفعه إليها بأن يخلي لها جميع المهر وقوله تعالى:
﴿يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن﴾ أي: مهورهن؛ لأن المهر أجر على البضع بيان لإيثار الأفضل له لا لتوقف الحل عليه، وليفيد إحلال المملوكة بكونها مسببة بقوله تعالى: ﴿وما ملكت يمينك مما أفاء الله﴾ أي: الذي له الأمر كله ﴿عليك﴾ مثل صفية بنت حيي النضيرية، وريحانة القرظية، وجويرية بنت الحارث الخزاعية، مما كن في أيدي الكفار، وتقييد الأقارب بكونهن مهاجرات معه في قوله تعالى ﴿وبنات عمك﴾ أي: الشقيق وغيره ﴿وبنات عماتك﴾ أي: نساء قريش، ولما بدأ بالعمومة لشرفها أتبعها قوله تعالى: ﴿وبنات خالك﴾ جارياً
الآية لأنهم لم يدعوا باباً من أبواب الفسق، فإنّ رأس الفسق الجهل بالله، ورأس العلم ومفتاح الحكمة معرفة النفس فأعرف الناس بنفسه أعرفهم بربه ﴿أولئك﴾ أي: البعداء من كل خير ﴿هم الفاسقون﴾ أي: العريقون في المروق من دائرة الدين.
﴿لا يستوي﴾ أي: بوجه من الوجوه ﴿أصحاب النار﴾ أي: التي هي محل الشقاء الأعظم ﴿وأصحاب الجنة﴾ أي: التي هي دار النعيم الأكبر لا في الدنيا ولا في الآخرة، واستدل بهذه الآية على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر ﴿أصحاب الجنة هم الفائزون﴾ أي: الناجون من كل مكروه المدركون لكل محبوب، وأصحاب النار هم الهالكون في الدارين كما وقع في هذه الغزوة لفريقي المؤمنين وبني النضير ومن والاهم من المنافقين فشتان ما بينهما.
﴿لو أنزلنا﴾ أي: بعظمتنا التي أبانها هذا الإنزال ﴿هذا القرآن﴾ أي: الجامع لجميع العلوم الفارق بين كل ملتبس المبين لجميع الحكم ﴿على جبل﴾ أي جبل كان، أو جبل فيه تمييز كالإنسان ﴿لرأيته﴾ يا أشرف الخلق وإن لم يتأهل غيرك لتلك الرؤية ﴿خاشعاً﴾ أي: متذللاً باكياً ﴿متصدّعاً﴾ أي: متشققاً غاية التشقق ﴿من خشية الله﴾ أي: من الخوف العظيم ممن له الكمال كله، وفي هذا حث على تأمّل مواعظ القرآن وتدبر آياته ﴿وتلك الأمثال﴾ أي: التي لا يضاهيها شيء ﴿نضربها للناس لعلهم يتفكرون﴾ فيؤمنون.
والمعنى: أنا لو أنزلنا هذا القرآن على الجبل لخشع لوعده، وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المشهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده، والغرض من هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم، ونظيره ﴿ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة﴾ (البقرة: ٧٤)
وقيل الخطاب للنبيّ ﷺ أي: لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدّع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لم تثبت له الجبال.
وقيل: إنه خطاب للأمة، والمعنى: لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله تعالى، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على ردّه إن عصى لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب.
ولما وصف تعالى القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف أتبع ذلك بوصف عظمته تعالى، فقال عز من قائل: ﴿هو﴾ أي: الذي وجوده من ذاته فلا عدم له بوجه من الوجوه، فلا شيء يستحق الوصف بهو غيره لأنه الموجود دائماً أزلاً وأبداً فهو حاضر في كل ضمير غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك تصدّع الجبل من خشيته ولما عبر عنه بأخص أسمائه أخبر عنه لطفاً بنا وتنزلاً لنا بأشهرها الذي هو مسمى الأسماء كلها بقوله تعالى: ﴿الله﴾ أي: المعبود الذي لا ينبغي العبادة والألوهية الإله ﴿الذي لا إله إلا هو﴾ فإنه لا مجالس له، ولا يليق ولا يصح ولا يتصوّر أن يكافئه، أو يدانيه شيء والإله أول اسم لله تعالى فلذلك لا يكون أحد مسلماً إلا بتوحيده، فتوحيده فرض وهو أساس كل فريضة ﴿عالم الغيب﴾ أي: الذي غاب عن جميع خلقه ﴿والشهادة﴾ أي: الذي وجد فكان يحسه ويطلع عليه بعض خلقه. وقال ابن عباس: معناه عالم السرّ والعلانية، وقيل: ما كان وما يكون. وقال سهل: عالم بالآخرة والدنيا، وقيل: استوى في علمه السرّ والعلانية والموجود والمعدوم. وقوله تعالى: {هو الرحمن


الصفحة التالية
Icon