بخصوص السبب.
تنبيه: الفرق بين المصير والمرجع أنّ المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع فإنه قد يوافق المبدأ، وقرأ شعبة ﴿رضوان﴾ بضم الراء والباقون بالكسر وقوله تعالى:
﴿هم درجات﴾ مبتدأ وخبر أي: الفريقان درجات ولا بد من تأويل في الأخبار بالدرجات عن هم؛ لأنها ليست إياهم فيجوز أن يكون جعلوا نفس الدرجات مبالغة، والمعنى: إنهم متفاوتون في الجزاء على كسبهم كما أنّ الدرجات متفاوتة فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة أي: هم مثل الدرجات في التفاوت ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي: ذوو درجات أي: أصحاب منازل ورتب في الثواب والعقاب ﴿عند الله﴾ فلمن اتبع رضوانه الثواب ولمن باء بسخطه العقاب ﴿وا بصير بما يعملون﴾ أي: عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسبها.
﴿لقد منّ الله على المؤمنين﴾ أي: أنعم على من آمن مع النبيّ ﷺ ووجه هذه المنة أن الرسول ﷺ يدعوهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه كقوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ (الأنبياء، ١٠٧)
فإن قيل: لم خصهم بالنعمة مع أن البعثة عامّة؟ أجيب: بأنهم هم المنتفعون بها كقوله تعالى: ﴿هدى للمتقين﴾ ﴿إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم﴾ أي: من جنسهم عربياً مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة، فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به ويشرفوا به لا ملكاً ولا عجمياً وقرىء شاذاً من أنفسهم بفتح الفاء أي: من أشرفهم؛ لأنه كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم وقد خطب أبو طالب لما تزوّج ﷺ خديجة رضي الله تعالى عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر، فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم وزرع إسمعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إنّ ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش الإرجح به، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. ولم أذكر في التفسير قراءة شاذة إلا هذه لكونها في شرف الرسول ﷺ وقراءة السيدة فاطمة رضي الله تعالى عنها ﴿يتلو عليهم آياته﴾ أي: القرآن بعدما كانوا جهالاً لم يسمعوا الوحي ﴿ويزكيهم﴾ أي: ويطهرهم من دنس الطباع وسوء العقائد والأعمال ﴿ويعلمهم الكتاب﴾ أي: القرآن ﴿والحكمة﴾ أي: السنة من بعدما كانوا من أجهل الناس وأبعدهم من دراسة العلوم كما قال تعالى: ﴿وإن كانوا من قبل﴾ أي: قبل بعثته ﷺ ﴿لفي ضلال مبين﴾ أي: بين ظاهر.
﴿أو لما﴾ أي: حين ﴿أصابتكم مصيبة﴾ بأحد بقتل سبعين منكم ﴿قد أصبتم مثليها﴾ ببدر بقتل سبعين وأسر سبعين ﴿قلتم﴾ متعجبين ﴿أنى﴾ أي: من أين لنا ﴿هذا﴾ القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله ﷺ فينا، والجملة الأخيرة محل الإستفهام الإنكاري ﴿قل﴾ لهم ﴿هو من عند أنفسكم﴾ أي: هو مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز، فإن الوعد كان مشروطاً بالثبات في المركز والمطاوعة في الأمر، وعن علي رضي الله تعالى عنه لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم.
روى عبيدة السلماني عن علي رضي الله تعالى عنه قال: جاء جبريل إلى النبيّ ﷺ فقال: إنّ الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم
نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ناسخة لها يقولون إن محمداً يستهزئ بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه نزل.
﴿وإذا بدّلنا﴾ أي: بقدرتنا بالنسخ ﴿آية﴾ سهلة كالعدّة بأربعة شهور وعشر وقتال الواحد من المسلمين لاثنين من الكفار، أو شاقة كتحريم الخمر وإيجاب الصلوات الخمس فجعلناها ﴿مكان آية﴾ شاقة كالعدّة بحول ومصابرة عشرة من الكفار أو سهلة كالآيات المتضمنة لإباحة الخمر والتبديل رفع الشيء ووضع غيره مكانه ﴿والله﴾ أي: الذي له الإحاطة الشاملة ﴿أعلم بما ينزل﴾ من المصالح بحسب الأوقات والأحوال بنسخ أو غيره ﴿قالوا﴾ أي: الكفار ﴿إنما أنت﴾ يا محمد ﴿مفتر﴾ أي: متقوّل على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وهو جواب إذا. ﴿والله أعلم بما ينزل﴾ اعتراض، والمعنى: والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف، أي: هو أعلم بجميع ذلك ومصالح العباد، وهذا توبيخ للكفار على قولهم إنما أنت مفتر، أي: إذا كان هو أعلم بما ينزل فما لهم ينسبون محمداً إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ ﴿بل أكثرهم﴾ وهم الذين يستمرّون على الكفر ﴿لا يعلمون﴾ حكمة فائدة النسخ والتبديل ولا يميزون الخطأ من الصواب، فإن الله تعالى أعلم بمصالح العباد كما أنّ الطبيب يأمر المريض بشربة ثم بعد مدّة ينهاه عنها، ويأمره بغيرها بضدّ تلك الشربة، ثم أمر الله تعالى نبيه ﷺ بالردّ عليهم بقوله تعالى:
﴿قل﴾ لمن واجهك بذلك منهم ﴿نزّله﴾ أي: القرآن بحسب التدريج لأجل أتباع المصالح بإحاطة علم المتكلم به ﴿روح القدس﴾ أي: جبريل عليه السلام وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كما يقال: حاتم الجود، وزيد الخير، والمراد الروح المقدّس، وحاتم الجواد، وزيد الخير. والمقدّس المطهر من المآثم ﴿من ربك بالحق﴾ أي: متلبساً بالحكمة ﴿ليثبت الذين آمنوا﴾ أي: ليثبت بالقرآن قلوب الذين آمنوا فيزدادوا إيماناً ويقيناً ﴿وهدى﴾ أي: بياناً واضحاً ﴿وبشرى للمسلمين﴾ أي: المنقادين لحكمك. فإن قيل: ظاهر الآية أن القرآن لا ينسخ بالسنة لقوله تعالى: ﴿وإذا بدّلنا آية مكان آية﴾ إذ متقضاه أنّ الآية لا تنسخ إلا بأخرى؟ أجيب: بأنّ هذه الآية دلت على أنه تعالى يبدّل آية بآية ولا دلالة فيها على أنه لا يبدّل آية إلا بآية، وأيضاً فجبريل عليه السلام ينزل بالسنة كما ينزل بالآية. ولما كان المشركون يقولون: إن محمداً إنما يتعلم هذه القصص وهذه الأخبار من إنسان آخر وهو آدمي مثله وليس هو من عند الله كما يزعم نزل قوله تعالى:
﴿ولقد نعلم﴾ أي: علماً مستمرّاً ﴿أنهم يقولون إنما يعلّمه بشر﴾ واختلف في البشر الذي قال المشركون إنّ النبيّ ﷺ يتعلم منه فقيل: هو عبد لبني عامر بن لؤيّ يقال له: يعيش كان يقرأ الكتب، وقيل: عداس غلام عتبة بن ربيعة، وقيل: عبد لبني الحضرمي صاحب كتب، وكان اسمه خيراً فكانت قريش تقول: عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة وخديجة تعلّم محمداً، وقيل: كان بمكة نصراني أعجميّ اللسان اسمه بلعام، ويقال: ابن ميسرة يتكلم بالرومية، وقيل: سلمان الفارسي، وبالجملة فلا فائدة في تعداد هذه الأسماء والحاصل أنّ القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه، ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه فأجاب
المراد أن أحداً غيرك لا يملك رقبة بهبتها لنفسها منه فيكون أحق من سيدها.
ولما فرغ من تعليل الدونية علل التخصيص لفاً ونشراً مشوشاً بقوله تعالى: ﴿لكي لا يكون عليك حرج﴾ أي: ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة، فلكيلا متعلق بخالصة وما بينهما اعتراض، ومن دون متعلق بخالصة كما تقول خلص من كذا ﴿وكان الله﴾ أي: المتصف بصفات الكمال أزلاً وأبداً ﴿غفوراً رحيماً﴾ أي: بليغ الستر على عباده.
ولما ذكر تعالى ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن وكان ﷺ أعدل الناس فيهما وأشدهم لله خشية، وكان يعدل بينهن ويعتذر مع ذلك عن ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» خفف عنه سبحانه وتعالى بقوله:
﴿ترجي﴾ أي: تؤخر وتترك مصاحبتها ﴿من تشاء منهن وتؤوي﴾ أي: تضم ﴿إليك من تشاء﴾ وتضاجعها، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بياء ساكنة بعد الجيم من الإرجاء أي: تؤخرها مع أفعال تكون بها راجية لعطفك، والباقون بهمزة مضمومة وهو مطلق التأخير ﴿ومن ابتغيت﴾ أي: طلبت ﴿ممن عزلت﴾ أي: من القسمة ﴿فلا جناج عليك﴾ أي: في وطئها وضمها إليك.
تنبيه: اختلف المفسرون في معنى هذه الآية: فأشهر الأقوال أنها في القسم بينهن، وذلك أن التسوية بينهن في القسم كانت واجبة عليه، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن. وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي ﷺ وطلب بعضهن زيادة في النفقة فهجرهن النبي ﷺ شهراً حتى نزلت آية التخيير، فأمره الله عز وجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين، وأن لا ينكحن أبداً، وعلى أن يؤوي إليه من يشاء ويرجي من يشاء فيرضين، قسم لهن أو لم يقسم قسم، لبعضهن دون بعض، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط، وذلك؛ لأن النبي ﷺ بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع. والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه، والنكاح عليها رق، فكيف زوجات النبي ﷺ بالنسبة إليه، فإذا هن كالمملوكات له ولا يجب لقسم بين المملوكات.
واختلفوا هل أخرج أحداً منهن عن القسم؟ فقال بعضهم: لم يخرج أحداً منهن عن القسم بل: «كان رسول الله ﷺ مع ما جعل الله له من ذلك يسوى بينهن في القسم، إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم، وجعلت يومها لعائشة» وقيل: أخرج بعضهن.
روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال: لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن فقلن يا رسول الله: اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا فنزلت هذه الآية فأرجأ رسول الله ﷺ بعضهن، وآوى إليه بعضهن، فكان ممن أوى: عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة، وكان يقسم بينهن سواء، وأرجأ منهن خمساً: أم حبيبة وميمونة وسودة وصفية وجويرية، فكان لا يقسم لهن ما شاء، وقال مجاهد: ﴿ترجي من تشاء منهن﴾ أي: تعزل من تشاء منهن بغير طلاق، وترد
﴿لن تنفعكم﴾ بوجه من الوجوه ﴿أرحامكم﴾ أي: قراباتكم الحاملة لكم على رحمتكم والعطف عليهم ﴿ولا أولادكم﴾ أي: الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله تعالى لأجلهم، فينبغي أن لا تعدّوا قربهم منكم بوجه أصلاً، ثم علل ذلك وبينه بقوله تعالى: ﴿يوم القيامة﴾ أي: القيام الأعظم ﴿يفصل﴾ أي: يوقع الفصل، وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب. وقرأ عاصم بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة، وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح الفاء وفتح الصاد مشددة، وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما يكسران الصاد، والباقون بضم الياء وسكون الفاء ﴿بينكم﴾ أي: أيها الناس فيدخل من يشاء من أهل طاعته الجنة، ومن يشاء من أهل معصيته النار فلا ينفع أحد أحداً منكم بشيء من الأشياء، إلا إن كان قد أتى الله تعالى بقلب سليم فيأذّن الله تعالى في إكرامه بذلك ﴿والله﴾ أي: الذي له الإحاطة التامّة ﴿بما تعملون﴾ أي: من كل عمل في كل وقت ﴿بصير﴾ فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة.
ولما نهى تعالى عن موالاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنّ من سيرته التبري من الكفار بقوله تعالى:
﴿قد كانت﴾ أي: وجدت وجوداً تامّاً، وكأنّ تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها، ولو كانت على أدنى الوجوه ﴿لكم﴾ أي: أيها المؤمنون ﴿أسوة﴾ أي موضع اقتداء وتأسية في إبراهيم وطريقة مرضية. وقرأ أسوة في الموضعين عاصم بضم الهمزة، والباقون بكسرها ﴿حسنة﴾ أي: يرغب فيها ﴿في إبراهيم﴾ أي: في قول أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ﴿والذين معه﴾ أي: ممن كان قبله من الأنبياء. قاله القشيري: وممن آمن به في زمانه كابن أخته لوط عليه الصلاة والسلام، وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة، وقيل: المراد بمن معه أصحابه من المؤمنين. وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها، والباقون بكسر الهاء وبعدها ياء أي: فاقتدوا به إلا في استغفاره لأبيه.
قال القرطبي: الآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في فعله، وذلك يدل على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله، وقيل: إنه شرع لنا إذا ورد في شرعنا ما يقرره، وقيل: ليس بشرع لنا مطلقاً وهو الأصح عندنا ﴿إذ﴾ أي: حين ﴿قالوا﴾ وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف ﴿لقومهم﴾ أي: الكفرة وقد كانوا أكثر من عدوّكم وأقوى، وكان لهم فيهم أرحام وقرابات، ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات ﴿أنا براء﴾ أي: متبرؤن تبرئة عظيمة ﴿منكم﴾ وإن كنتم أقرب الناس إلينا، ولا ناصر لنا منهم غيركم ﴿ومما تعبدون﴾ أي: توجدون عبادته في وقت من الأوقات ﴿من دون الله﴾ أي: الملك الأعظم ﴿كفرنا بكم﴾ أي: جحدناكم وأنكرنا دينكم ﴿وبدا﴾ أي: ظهر ظهوراً عظيماً ﴿بيننا وبينكم العداوة﴾ وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل أحد على الآخر ﴿والبغضاء﴾ وهي المباينة بالقلوب للبغض العظيم.
ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا: ﴿أبداً﴾ أي: على الدوام. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد المضمومة واواً خالصة، والباقون بتحقيقها وهم على مراتبهم في المدّ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر، ولهما أيضاً التسهيل مع المدّ والقصر والروم معهما. ولما كان ذلك مؤيساً من صلاح


الصفحة التالية
Icon