أدماً وزبيباً وأصابوا الدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى:
أي: انصرفوا ﴿بنعمة من الله﴾ أي: بعافية لم يلقوا عدوّاً ﴿وفضل﴾ أي: تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق ﴿لم يمسسهم سوء﴾ أي: لم يصبهم أذى ولا مكروه، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق قالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق.
تنبيه: الناس الأول المثبطون والآخرون أبو سفيان وأصحابه.
فإن قيل: المثبط هو أبو نعيم فكيف قيل: الناس؟ أجيب: بأنه من جنس الناس كما يقال: فلان يركب الخيل ويلبس البرد وماله إلا فرس واحد، وبرد واحد ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يثبطون مثل تثبيطه بل قيل: إنهم كانوا جماعة فقد مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم.
فإن قيل: كيف زادهم القول إيماناً؟ أجيب: بأنهم لما سمعوا ذلك وأخلصلوا عنده النية والعزم على الجهاد وأظهروا حمية الإسلام كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم كما يزداد الإيمان والإيقان بتناصر الحجج، ولأن خروجهم على أثر التثبيط إلى وجه العدو طاعة عظيمة والطاعات تزيد الإيمان فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا: يا رسول الله إنّ الإيمان يزيد وينقص قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار». وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول: قم بنا نزدد إيماناً، وعنه رضي الله تعالى عنه: «لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه بإيمان هذه الأمّة لرجح به» ﴿واتبعوا رضوان الله﴾ الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم وخروجهم ﴿وا ذو فضل عظيم﴾ قد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدوّ بالحفظ على كل من يسوءهم وإصابة النفع من ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من الله وفضل وفيه تحسر المتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به.
﴿إنما ذلكم﴾ أي: المثبط أو أبو سفيان ﴿الشيطان يخوّف أولياءه﴾ أي: القاعدين عن الخروج مع النبيّ ﷺ أو يخوّفكم أولياءه وهم أبو سفيان وأصحابه، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿فلا تخافوهم وخافون﴾ في مخالفة أمري فجاهدوا مع رسولي ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ حقاً فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله على خوف الناس، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً.
﴿ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر﴾ أي: يقعون فيه وقوعاً سريعاً حرصاً عليه، وهم المنافقون من المتخلفين أو قوم ارتدوا عن الإسلام أي: لا تهتم لكفرهم ﴿إنهم لن يضرّوا الله شيئاً﴾ بفعلهم وإنما يضرّون به أنفسهم، وقرأ نافع يحزنك بضمّ الياء وكسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله تعالى في الأنبياء ﴿لا يحزنهم الفزع الأكبر﴾ (الأنبياء، ١٠٣)
فإنه على فتح الياء وضمّ الزاي فيه والباقون كذلك في الكل من حزنه لغة في أحزنه ﴿يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً﴾ أي: نصيباً ﴿في الآخرة﴾ أي: الجنة فلذلك خذلهم وهو يدل على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر ﴿ولهم﴾ مع حرمان الثواب ﴿عذاب عظيم﴾ في النار.
﴿إنّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان﴾ أي: أخذوه بدله ﴿لن يضروا الله﴾ بكفرهم ﴿شيئاً ولهم عذاب أليم﴾ أي: مؤلم وكرّر ذلك للتأكيد أو هو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق
لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم} (المائدة، ٤١)
وأجمعوا على أنّ المراد بقوله تعالى: ﴿إلا ما يتلى عليكم﴾ هو قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله﴾ (البقرة، ١٧٣)
وقوله تعالى في المائدة: ﴿والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم﴾ (المائدة، ٣)
فهذه الأشياء داخلة في الميتة. ثم قال تعالى: ﴿وما ذبح على النصب﴾ (المائدة، ٣)
وهو أحد الأشياء الداخلة تحت قوله تعالى: ﴿وما أهل به لغير الله﴾ (البقرة، ١٧٣)
فثبت أنّ هذه السور الأربعة دالة على حصر المحرمات في هذه الأربعة سورتان مكيتان وسورتان مدنيتان، فإنّ سورة البقرة مدنية وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله بالمدينة، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربعة إلا ما خصه الإجماع والدلائل العقلية القاطعة كان في محل أن يخشى عليه، لأنّ هذه السورة دلت على أنّ حصر المحرمات في هذه الأربعة كان مشروعاً ثابتاً في أوّل زمان مكة وآخره، وأوّل زمان المدينة وأنه تعالى أعاد هذا البيان في هذه السور الأربعة قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة. ولما حصر تعالى المحرمات في هذه الأربع بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفار وفي الزيادة على هذه الأربعة تارة وفي النقصان عنها أخرى بقوله تعالى:
﴿ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام﴾ لما لم يحله الله ولم يحرمه فإنهم كانوا يحرّمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكانوا يقولون: ﴿ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا﴾ (الأنعام، ١٩٣)
فقد زادوا في المحرمات وزادوا أيضاً في المحللات لأنهم حللوا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فبيّن تعالى أنّ المحرمات هي هذه الأربعة وبين أن الأشياء التي يقولون هذا حلال وهذا حرام كذب وافتراء على الله تعالى. تنبيه: في انتصاب الكذب وجهان؛ أحدهما: قال الكسائي: ما مصدرية والتقدير ولا تقولوا لأجل وصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام نظيره أن يقال: لا تقولوا لكذا وكذا كذا وكذا. فإن قيل: حمل الآية على هذا يؤدّي إلى التكرار لأنّ قوله تعالى: ﴿لتفتروا على الله الكذب﴾ عين ذلك؟ أجيب: بأنّ قوله تعالى: ﴿لما تصف ألسنتكم الكذب﴾ ليس فيه بيان أنه كذب على الله فأعاده ليحصل فيه هذا البيان الزائد. ونظيره في القرآن كثير، وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ويعيده بعينه مع فائدة زائدة. الثاني: أن تكون ما موصولة والتقدير: ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام، وحذف لفظ فيه لكونه معلوماً، وقيل: اللام في لتفتروا لام العاقبة كما في قوله تعالى: ﴿ليكون لهم عدوًّا وحزناً﴾ (القصص، ٨)
. فإن قيل: ما معنى وصف ألسنتكم الكذب؟ أجيب: بأنّ ذلك من فصيح الكلام وبليغه جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه وإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصورته بصورته، كقولهم: وجهها يصف الجمال، أي: هي جميلة، وعينها تصف السحر، أي: هي ساحرة فلما أرادوا المبالغة في وصف الوجه بالجمال ووصف العين بالسحر عبروا بذلك.
ثم إنه تعالى أوعد المفترين بقوله تعالى: ﴿إنّ الذين يفترون على الله﴾ أي: الذي له الملك كله ﴿الكذب﴾ منكم ومن غيركم ﴿لا يفلحون﴾ أي: لا يفوزون بخير لأن المفتري يفتري لتحصيل مطلوب فنفى الله تعالى عنه الفلاح، لأنه الفوز بالخير والنجاح. ثم بين
رسول الله ﷺ نساؤه قال: فدخلت عليهن فجعلت أستقررهن واحدة واحدة فقلت والله لتنتهن أو ليبدله الله تعالى أزواجاً خيراً منكن، حتى أتيت على زينب فقالت: يا عمر أما كان في رسول الله ﷺ ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت قال: فخرجت فأنزل الله تعالى ﴿عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن﴾ (التحريم: ٥)
الآية.
ولما بين تعالى للمؤمنين الأدب أكده بما يحملهم على ملاطفة نبيه ﷺ بقوله تعالى: ﴿وما كان﴾ أي: وما صح وما استقام ﴿لكم﴾ في حال من الأحوال ﴿أن تؤذوا رسول الله﴾ فله إليكم من الإحسان ما يستوجب به منكم غاية الإكرام والإجلال فضلاً عن الكف عن الأذى فلا تؤذوه بالدخول إلى شيء من بيوته بغير إذنه أو المكث بعد فراغ الحاجة ولا بغير ذلك.
ولما كان قد قصر ﷺ عليهن أحل له غيرهن وقصرهن الله عليه بقوله تعالى: ﴿ولا أن تنكحوا﴾ أي: فيما يستقبل من الزمان ﴿أزواجه من بعده﴾ أي: فراقه بموت أو طلاق سواء أدخل بها أم لا ﴿أبداً﴾ زيادة لشرفه وإظهاراً لمزيته، ولأنهن أمهات المؤمنين ولأنهن أزواجه في الجنة، ولأن المرأة في الجنة مع آخر أزواجها كما قاله ابن القشيري، روي أن هذه الآية نزلت في رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: لئن قبض رسول الله ﷺ لأنكحن عائشة قال مقاتل بن سليمان: هو طلحة بن عبيد الله فأخبر الله تعالى أن ذلك محرم، وقال: ﴿إن ذلكم﴾ أي: الإيذاء بالنكاح وغيره ﴿كان عند الله﴾ أي: القادر على كل شيء ﴿عظيماً﴾ أي: ذنباً عظيماً.
فإن قيل: روى معمر عن الزهري أن العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي ﷺ تزوجت رجلاً وولدت له. أجيب: بأن ذلك كان قبل تحريم أزواج النبي ﷺ على الناس وقيل: لا تحرم غير الموطوءة لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر فهم برجمهما، فأخبر بأنه ﷺ فارقها قبل أن يمسها فترك من غير نكير، فأما إماؤه ﷺ فيحرم منهن الموطوءات على غيره إكراماً له بخلاف غير الموطوءات وقيل: لا تحرم الموطوءات أيضاً.
ونزل فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
﴿إن تبدوا﴾ أي: بألسنتكم وغيرها ﴿شيئاً﴾ أي: من ذلك أو غيره ﴿أو تخفوه﴾ في صدوركم ﴿فإن الله﴾ أي: الذي له جميع صفات الكمال ﴿كان﴾ أي: أزلاً وأبداً به هكذا كان الأصل، ولكنه أتى بما يعمه وغيره فقال ﴿بكل شيء﴾ أي: من ذلك وغيره ﴿عليماً﴾ فهو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم وإن بالغتم في كتمه فيجازي عليه من ثواب وعقاب، وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل ومبالغة في الوعيد.
ولما نزلت آية الحجاب قال: الآباء والأبناء والأقارب ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فنزل قوله تعالى:
﴿لا جناح﴾ أي: لا إثم ﴿عليهن في آبائهن﴾ دخولاً وخلوة من غير حجاب سواء كان الأب من النسب أو من الرضاع ﴿ولا أبنائهن﴾ أي: من البطن أو الرضاعة ﴿ولا إخوانهن﴾ لأن عارهنّ عارهم فلا فرق أن يكونوا من النسب أو الرضاع ﴿ولا أبناء إخوانهن﴾ فإنهن بمنزلة آبائهم ﴿ولا أبناء أخواتهن﴾ فإنهن بمنزلة أمهاتهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياء خالصة في الوصل وحققها
الله تعالى: ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً﴾ (النساء: ١٤١)
ولما كان قد أمر برد مهور الكفار فكان ربما ظنّ أنه مغن عن تجديد مهر لهنّ إذا نكحهنّ المسلم نفى ذلك بقوله: ﴿إذا آتيتموهنّ﴾ أي: لأجل النكاح ﴿أجورهنّ﴾ أي: مهورهنّ، وفي شرط أثناء المهر في نكاحهنّ إيذان بأن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر ﴿ولا تمسكوا بعصم الكوافر﴾ جمع عصمة، وهي هنا عقد النكاح، أي: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّ بها فقد انقطعت عصمتها فلا يكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية، والكوافر جمع كافرة كضوارب في ضاربة. قال النخعي: المراد بالآية هي المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يتزوّجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة وأمّ كلثوم بنت عمر والخزاعية أم عبد الله بن المغيرة فتزوجها أبو جهم بن حذافة، وهما على شركهما بمكة فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية: طلق قريبة فلا يرى عمر سلبه في بيتك فأبى معاوية، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق الإسلام بينهما، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فرت إلى النبيّ ﷺ من نساء الكفار فحبسها وزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية. وقال الشعبي: كانت زينب بنت رسول الله ﷺ امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبيّ ﷺ وأقام أبو العاص بمكة مشركاً، ثم أتى المدينة وأسلم فردّها عليه رسول الله ﷺ روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس بالنكاح الأوّل، ولم يحدث شيئاً. قال محمد بن عمرو في حديث بعد ست سنين، وقال الحسن بن علي: بعد سنتين، قال أبو عمر: فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين: إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها، وإما أنّ الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى: ﴿وبعولتهن أحق
بردّهن في ذلك﴾ يعني: في عدّتهن، وهذا مما لا خلاف فيه أنه عنى به العدّة قال الزهري في قصة زينب: هذه كانت قبل أن تنزل الفرائض، وقال قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بينهم وبين المشركين.
تنبيه: المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها. وقيل: هي عامّة نسخ منها نساء أهل الكتاب، فعلى الأول: إذا أسلم وثني، أو مجوسي ولم تسلم أمرأته فرق بينهما، وهو قول بعض أهل العلم منهم مالك والحسن وطاوس وعطاء وعكرمة وقتادة لقوله تعالى: ﴿ولا تمسكوا بعصم الكوافر﴾ وقال بعضهم: ينتظر بها تمام العدّة، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد، واحتجوا بأن أبا سفيان بن الحارث أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمرّ الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، ثم أسلمت بعده بأيام فاستقرّا على نكاحهما لأنّ عدتها لم تكن انقضت، قالوا: ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما. قال الشافعي: ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى: ﴿بعصم الكوافر﴾ لأنّ نساء المؤمنين محرمات على الكفار كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر الوثنيات ولا المجوسيات لقوله تعالى: