وأوصانا في كتبه ﴿أن لا نؤمن لرسول﴾ أي: لا نصدّق رسولاً أنه قد جاء من عند الله ﴿حتى يأتينا بقربان تأكله النار﴾ أي: حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل، فيكون دليلاً على صدقه والقربان كل ما يتقرّب به العبد إلى الله من نسيكة وعمل صالح وكانوا إذا قرّبوا قرباناً أو غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وهفيف فتأكل ذلك القربان وتأكل الغنيمة. ومعنى أكلها أن تحيل ذلك إلى طبعها بالإحراق فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يتقبل بقي على حاله وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم؛ لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات في ذلك سواء، وقال السديّ: هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط آخر وهو أنّ الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدّقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات﴾ أي: بالمعجزات ﴿وبالذي قلتم﴾ من القربان كزكريا ويحيى فقتلتموهم ﴿فلم قتلتموهم﴾ والخطاب لمن في زمن نبينا وإن كان الفعل لأجدادهم لرضاهم به ﴿إن كنتم صادقين﴾ في أنكم تؤمنون بالرسل عند الإتيان بذلك.
ثم قال الله تعالى تسلية لنبيه ﷺ من تكذيب قومه واليهود:
﴿فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤا بالبينات﴾ أي: المعجزات ﴿والزبر﴾ أي: الصحف كصحف إبراهيم ﴿والكتاب﴾ أي: التوراة والإنجيل ﴿المنير﴾ أي: الواضح فاصبر كما صبروا، وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالإدغام، وقرأ ابن عامر وبالزبر بالباء الموحدة والباقون بغير باء بعد الواو، وقرأ هشام وبالكتاب بالباء الموحدة بعد الواو والباقون بغير باء وقوله تعالى:
﴿كلّ نفس ذائقة الموت﴾ زيادة تأكيد في تسليته ﷺ ومبالغة في إزالة الحزن عن قلبه، فإنّ من علم أن عاقبته إلى الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان.
روي أنّ الله تعالى لما خلق آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدها أن يردّ فيها ما أخذ منها فما من أحد إلا يدفن في التربة التي أخذ منها، ولأنّ بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المحسن من المسيء والمحق من المبطل ويجازى كلّ بما يستحقه كما قال تعالى: ﴿وإنما توفون أجوركم﴾ أي: جزاء أعمالكم ﴿يوم القيامة﴾ إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ ﴿فمن زحزح﴾ أي: بعد ﴿عن النار وأدخل الجنة فقد فاز﴾ بالنجاة ونيل المراد والفوز بالظفر بالبغية بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم ﴿وما الحياة الدنيا﴾ أي: العيش فيها ﴿إلا متاع الغرور﴾ أي: الباطل يتمتع به قليلاً ثم يفنى.
روي أنّ الله تعالى يقول: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» اقرؤوا إن شئتم ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون﴾ (السجدة، ١٧)
وإنّ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم ﴿وظل ممدود﴾ (الواقعة، ٣٠)
ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها واقرؤوا إن شئتم ﴿فمن زحزح عن النار﴾ الآية».
وروي: «من أحبّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويؤتي الناس ما يحبّ أن يؤتى
هم المشار إليهم بقوله تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة﴾ أي: ادعهم بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم. القسم الثاني: أصحاب الفطرة السليمة والخلقة الأصلية وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حد الكمال ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوسط الأقسام وهم المشار إليهم بقوله تعالى: ﴿والموعظة الحسنة﴾ أي: ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة. القسم الثالث: أصحاب جدال وخصام ومعاندة وهؤلاء هم المشار إليهم بقوله تعالى: ﴿وجادلهم بالتي أحسن﴾ أي: حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه.
﴿إن ربك﴾ المحسن إليك بالتخفيف عنك ﴿هو أعلم﴾ أي: من كل من يتوهم فيه علم ﴿بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾ أي: فهو سبحانه وتعالى أعلم بالفريقين فمن كان فيه خير كفاه الوعظ والنصيحة اليسيرة ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل وكأنك تضرب في حديد بارد فما عليك إلا البلاغ والدعوة، وأمّا حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس ذلك إليك، وهذا قبل الأمر بالقتال. وذكر في قوله تعالى:
﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به﴾ أقوال: أحدها: وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي: أنّ النبيّ ﷺ لما رأى عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها، فبلغ ذلك النبيّ ﷺ فقال: «أما أنها لو أكلته لم تدخل النار أبداً، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار، فلما نظر رسول الله ﷺ إليه نظر إلى شيء لم ينظر إلى شي قط أوجع لقلبه منه فقال النبيّ ﷺ رحمة الله عليك فإني ما علمتك إلا فعالاً للخيرات، وصولاً للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى، أما والله لئن ظفرني الله بهم لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك فنزلت، فأمسك رسول الله ﷺ عما أراد وكفر عن يمينه». وقال المسلمون أيضاً: لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به إلا حنظلة بن الراهب فإنّ أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن ظفرنا عليهم لنزيدّن عليهم يعني على صنيعهم ولنمثلنّ بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد.
القول الثاني: أنّ هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حتى كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبتدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى: ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا﴾ (البقرة، ١٩)
وفي هذه الآية أمر الله تعالى أن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا. القول الثالث: أنّ المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين. قال الرازي: وحمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله، وهو غاية البعد بل الأصوب عندي أن يقال: إنه تعالى أمر محمداً ﷺ بدعوة الخلق إلى الدين الحق بإحدى الطرق الثلاثة وهي: الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالطريق الأحسن، ثم إنّ تلك
أحد قال بعضهم: أتي بالجلالة تعظيماً والمراد: يؤذون رسول الله ﷺ كقوله تعالى: ﴿إنما يبايعون الله﴾ (الفتح: ١٠)
وأما إيذاء الرسول ﷺ فقال ابن عباس: إنه شج في وجهه، وكسرت رباعيته وقيل: ساحر شاعر مجنون.
ولما كان من أعظم أذاه أذى من تابعه، وكان الأتباع لكونهم غير معصومين يتصور أن يؤذوا على الحق قال تعالى مقيداً للكلام:
﴿والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات﴾ أي: الراسخين في صفة الإيمان ﴿بغير ما اكتسبوا﴾ أي: بغير شيء واقعوه متعمدين له حتى أباح أذاهم ﴿فقد احتملوا﴾ أي: كلفوا أنفسهم أن حملوا ﴿بهتاناً﴾ أي: كذباً وفجوراً زائداً على الحد موجباً للجزاء في الدنيا والآخرة ﴿وإثماً مبيناً﴾ أي: ذنباً ظاهراً جداً موجباً للعقاب في الآخرة.
تنبيه: اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب كانوا يؤذونه ويسمعونه، وقيل: نزلت في شأن عائشة وقال الضحاك والكلبي: نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طريق المدينة يبتغون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة، فإن سكتت اتبعوها وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحداً، يخرجن في درع وخمار الحرة والأمة، فشكوا ذلك إلى أزواجهن فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت هذه الآية ﴿والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات﴾ الآية.
ثم نهى الحرائر أن يشتبهن بالإماء بقوله تعالى:
﴿يا أيها النبي﴾ ذكره بالوصف الذي هو منبع المعرفة والحكمة ﴿قل لأزواجك﴾ بدأ بهن لما لهن به من الوصلة بالنكاح ﴿وبناتك﴾ ثنى بهن لما لهن من الوصلة، ولهن من القسمين من الشرف وآخرهن عن الأزواج لأن أزواجه يكفونه أمرهن ﴿ونساء المؤمنين يدنين﴾ أي: يقربن ﴿عليهن﴾ أي: على وجوههن وجميع أبدانهن فلا يدعن شيئاً منها مكشوفاً ﴿من جلابيبهن﴾ ولا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا خرجن لحاجتهن بكشف الشعور ونحوها ظناً أن ذلك أخفى لهن وأستر، والجلباب والقميص وثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة، والملحفة: ما ستر اللباس، والخمار: وهو كل ما غطى الرأس وقال البغوي: الجلباب الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقال حمزة الكرماني، قال الخليل: كل ما يستر به من دثار وشعار وكساء فهو جلباب والكل تصح إرادته هنا، فإن كان المراد القميص فإدناؤه إسباغه حتى يغطي بدنها ورجليها، وإن كان يغطي الرأس فإدناؤه ستر وجهها وعنقها، وإن كان المراد ما يغطي الثياب فإدناؤه تطويله وتوسيعه بحيث يستر جميع بدنها وثيابها، وإن كان المراد ما دون الملحفة فالمراد ستر الوجه واليدين وقال ابن عباس وعبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عيناً واحدة ليعلم أنهن حرائر.
ولما أمر تعالى بذلك علله بقوله تعالى: ﴿ذلك﴾ أي: الستر ﴿أدنى﴾ أي: أقرب من تركه في ﴿أن يعرفن﴾ أنهن حرائر بما يميزهن عن الإماء ﴿فلا﴾ أي: فتسبب عن معرفتهن أن لا ﴿يؤذين﴾ ممن يتعرضن للإماء فلا يشتغل قلبك عن تلقي ما يرد عليك من الأنباء الإلهية قال ابن عادل: ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يزنين لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة أي: في الصلاة لا يطمع فيها أنها
عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام فقال: أنا رسول رسول الله ﷺ إليكن أن لا تشركن بالله شيئاً الآية، فقلن نعم، فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد» وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ «كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه فغمسن أيديهن
فيه» وروي أنه ﷺ لما فرغ من بيعة الرجال يوم الفتح لمكة، وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله ﷺ ويبلغهن عنه أن لا يشركن بالله شيئاً، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله ﷺ أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد، فقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال، وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال النبي ﷺ ولا يسرقن، فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قوتنا فلا أدري أيحل لي أم لا، فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وما غير فهو حلال، فضحك رسول الله ﷺ وعرفها، فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة»، قالت: نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك.
وروي أنها قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك، فهل عليّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي، قال: «لا إلا بالمعروف» فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع وتأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة، فقال لها النبي ﷺ ذلك أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة، ثم قال: ولا يزنين، فقالت هند: أوتزني الحرة، فقال: ولا يقتلن أولادهن أي: بالوأد، ولا يسقطن الأجنة، فقالت هند: ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً، وأنت وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: ﴿ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن﴾ فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: ﴿ولا يعصينك في معروف﴾ فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء قال أكثر المفسرين: معناه لا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهن، وكانت المرأة تلتقط ولداً تلحقه بزوجها وتقول: هذا ولدي منك فكان من البهتان والافتراء.
وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج، وإن سبق النهي عن الزنا.
تنبيه: ذكر تعالى في هذه الآية لرسوله ﷺ في صفة البيعة خصالاً ستاً صرح فيهن بأركان النهي، ولم يذكر أركان الأمر وهي ست أيضاً: الشهادة، والزكاة، والصلاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجناب، وذلك لأن النهي دائم في كل زمان ومكان، وكل الأحوال فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد.
وقيل: إن هذه المناهي كانت في النساء كثيراً ممن يرتكبها، ولا يحجزهن عنها شرف النسب فخصت بالذكر لهذا، ونحو هذا قوله ﷺ لوفد عبد القيس «وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت» فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة فيها.
ولما كان