لذوي العقول الذين يفتحون بصائرهم للنظر والإستدلال والإعتبار ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر، وفي النصائح الصغار: املأ عينيك من زينة هذه الكواكب، وأجلها في جملة هذه العجائب متفكراً في قدرة مقدرها متدبراً حكمة مدبرها قبل أن يسافر بك القدر ويحال بينك وبين النظر. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أخبريني بأعجب ما رأيت من أمر رسول الله ﷺ فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب أتاني ليلة فدخل في لحافي حتى التصق جلده بجلدي ثم قال: «يا عائشة هل لك أن تأذني الليلة في عبادة ربي؟» فقلت: يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه، فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فقال: «يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً؟» ثم قال: «وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة ﴿إنّ في خلق السموات والأرض﴾ ـ ثم قال: ـ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».
وروي: «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها»، وعن علي رضي الله تعالى عنه: أنّ النبيّ ﷺ كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إنّ في خلق السموات والأرض، وحكي أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظله، فقالت أمه: لعل فرطة فرطت منك في مدتك فقال: ما أذكر؟ قالت: لعلك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر قال: لعل، قالت: فما أوتيت إلا من ذاك. وقوله تعالى:
﴿الذين﴾ نعت لما قبله أو بدل ﴿يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم﴾ أي: مضطجعين أي: يذكرونه دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين؛ لأنّ الإنسان قلّ أن يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث.
وروى الطبرانيّ وغيره: أنه ﷺ قال: «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله». وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هذا في الصلاة يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب، وعن عمران بن حصين قال: سألت رسول الله ﷺ عن صلاة المريض فقال: «يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب».
تنبيه: قياماً وقعوداً حالان من فاعل يذكرون وعلى جنوبهم حال أيضاً فيتعلق بمحذوف، والمعنى يذكرون قياماً وقعوداً ومضطجعين فعطف الحال المؤوّلة على الصريحة عكس الآية الأخرى وهي قوله: دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً حيث عطف الصريحة على المؤوّلة ﴿ويتفكرون في خلق السموات والأرض﴾ وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله تعالى ويعرفون أنّ لهما مدبراً حكيماً. قال بعض العلماء: الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث في القلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة.
وروي عنه ﷺ «لا تفضلوني على يونس بن متى» ـ أي: تفضيلاً يؤدي إلى تنقيصه وإلا فهو ﷺ سيد ولد آدم ـ فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض. قالوا: وإنما كان ذلك
والباقون بالفتح وقوله تعالى: ﴿ليلاً﴾ نصب على الظرف والإسراء سير الليل.
وفائدة ذكره الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدّته فكان هذا الأمر الجليل في جزء يسير من الليل وإلى أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج في الإسراء والعروج إلى سدرة المنتهى وسماع الكلام من العليّ الأعلى إلى رياضة بصيام ولا غيره بل كان مهيأ لذلك متأهلاً له فأقامه تعالى من الفرش إلى العرش ﴿من المسجد الحرام﴾ أي: بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن. وروي أنه ﷺ قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق» وقيل كان نائماً في الحطيم، وقيل في بيت أمّ هانئ بنت أبي طالب قال البقاعي: وهو قول الجمهور، والمراد بالمسجد حينئذ الحرم لأنه فناء المسجد. ﴿إلى المسجد الأقصى﴾ أي: بيت المقدس الذي هو بعيد المسافة حينئذٍ وأبعد المسجدين الأعظمين مطلقاً من مكة المشرّفة بينهما أربعون ليلة فصلى بالأنبياء كلهم إبراهيم وموسى ومن سواهما على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ورأى من آياتنا الكبرى ما قدرنا له كما سيأتي في حديث المعراج، ورجع بين أظهركم إلى المسجد الأقرب منكم في ذلك الجزء اليسير من الليل، وأنتم تضربون أكباد الإبل في هذه المسافة شهراً ذهاباً وشهراً إياباً.
ثم وصفه تعالى بما يقتضي تعظيمه، وأنه أهل للقصد بقوله تعالى: ﴿الذي باركنا حوله﴾ أي: بما لنا من العظمة بالمياه والأشجار. وقال مجاهد: سماه مباركاً لأنه مقرّ الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي ومنه يحشر الناس يوم القيامة وموطن العبادات ومعدن الفواكه والأرزاق والبركات، وبارك تعالى حوله لأجله فما ظنك به نفسه فهو أبلغ من باركنا فيه، ثم منه إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى إلى ما لم ينله بشر غيره ﷺ قال البقاعي: ولعل حذف ذكر المعراج من القرآن هنا لقصور أفهامهم عن إدراك أدلته، لو أنكروه بخلاف الإسراء فإنه أقام دليله عليهم بما شاهدوه من الأمارات التي وصفها لهم وهم قاطعون بأنه ﷺ لم يرها قبل ذلك فلما بان صدقه بما ذكر من الأمارات أخبر بعد ذلك من أراد الله تعالى بالمعراج.
ثم ذكر سبحانه وتعالى الغرض من الإسراء بقوله تعالى: ﴿لنريه﴾ بعينه وقلبه ﴿من آياتنا﴾ أي: عجائب قدرتنا السماوية والأرضية كما أرينا أباه الخليل عليه السلام ملكوت السموات والأرض. ﴿إنه﴾ أي: الله ﴿هو السميع﴾ لجميع الأقوال ﴿البصير﴾ أي: العالم بأحوال عباده فيكرم ويقرّب من شاء منهم وقيل: إنه أي: هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو أي: خاصة السميع أي: أذناً وقلباً بالإجابة لنا والإذعان لأوامرانا البصير بصراً وبصيرة بدليل ما أخبر به من الآيات وصدقه من الدلالات حتى نعت ما سألوه عنه من بيت المقدس ومن أمر عيرهم وغيرهما مما هو مشهور في قصة الإسراء. واختلف هل أسري بروحه أو بجسده ﷺ فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقول ما فقدت جسد النبيّ ﷺ ولكن أسري بروحه، والأكثرون على أنه أسري بجسده في اليقظة وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك منها قوله ﷺ «أوتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس
فروى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما تستر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا» كما قال تعالى: ﴿فبرأه﴾ أي: فتسبب عن أذاهم أن برأه ﴿الله﴾ الذي له صفات الجلال والكمال ﴿مما قالوا﴾ فخلا يوماً وحده ليغتسل فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ففر الحجر بثوبه فجمح موسى عليه السلام وأخذ عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه واستتر به، وطفق بالحجر يضربه بعصاه فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً»، والأدرة: عظم الخصية لنفخة فيها وقوله: فجمح أي: أسرع وقوله ندباً هو بفتح النون والدال وأصله: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد فشبه به الضرب بالحجر، وقال قوم: إيذاؤهم إياه لما مات هارون في
التيه ادّعوا على موسى أنه قتله فأمر الله الملائكة عليهم السلام حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله فبرأه الله مما قالوا، وقال أبو العالية: هو أن قارون استأجر مومسة أي: زانية لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمها الله تعالى وبرأ موسى من ذلك،
وكان ذلك سبب الخسف بقارون ومن معه وقال عبد الله بن مسعود: لما كان يوم حنين آثر رسول الله ﷺ ناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى فلاناً كذا لناس من العرب، وآثرهم في القسمة فقال رجل: هذه قسمة والله ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله فقلت: والله لأخبرن بها رسول الله ﷺ قال: فأتيته فأخبرته بما قال فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال: «يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» والصرف بكسر الصاد: صبغ أحمر يصبغ به الأديم.
ولما كان قصدهم بهذا الأذى إسقاط وجاهته قال تعالى: ﴿وكان﴾ أي: موسى عليه السلام كوناً راسخاً ﴿عند الله﴾ أي: الذي لا يذل من والاه ﴿وجيهاً﴾ أي: معظماً رفيع القدر ذا وجاهة يقال وجه الرجل يوجه فهو وجيه إذا كان ذا جاه وقدر قال ابن عباس كان عظيماً عند الله تعالى لا يسأله شيئاً إلا أعطاه وقال الحسن كان مجاب الدعوة وقيل كان محبباً مقبولاً.
ولما نهاهم عن الأذى أمرهم بالنفع ليصيروا ذوي وجاهة عنده مكرر للنداء استعطافاً وإظهاراً للاهتمام بقوله تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي: ادعوا ذلك ﴿اتقوا الله﴾ أي: صدقوا دعواكم بمخافة من له جميع العظمة فاجعلوا لكم وقاية من سخطه بأن تبذلوا له جميع ما أودعكم من الأمانة ﴿وقولوا﴾ في حق النبي ﷺ في أمر زينب وغيرها، وفي حق بناته ونسائه وفي حق المؤمنين ونسائهم وغير ذلك ﴿قولاً سديداً﴾ قال ابن عباس: صواباً وقال قتادة: عدلاً وقال الحسن: صدقاً وقال عكرمة: هو قول لا إله إلا الله. وقيل: مستقيماً.
﴿يصلح لكم أعمالكم﴾ قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم وقال مقاتل: يزكي أعمالكم ﴿ويغفر لكم ذنوبكم﴾ أي: يمحها عيناً وأثراً فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ﴿ومن يطع الله﴾ أي: الذي لا أعظم منه ﴿ورسوله﴾
يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به».
تنبيه: قوله تعالى: ﴿لم تقولون ما لا تفعلون﴾ استفهام على وجه الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير مالا يفعله، إما في الماضي فيكون كذباً، وإما في المستقبل فيكون خلقاً وكلاهما مذموم. قال الزمخشري: لم هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم، وفيم، ومم، وعم، وإلام، وعلام، وإنما حذفت الألف لأن ما والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالهما كثيراً في كلام المستفهم، وقد جاء استعمال الأصل قليلاً والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان. ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف كما سمع ثلاثه أربعه بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ا. هـ. ووقف البزي لمه بهاء السكت بخلاف عنه.
﴿كبر﴾ أي: عظم. وقوله تعالى: ﴿مقتاً﴾ تمييز، والمقت أشد البغض، وزاد في تشنيعه زيادة في التنفير منه بقوله تعالى: ﴿عند الله﴾ أي: الملك الأعظم الذي يحقر عنده كل متعاظم، وقيل: إن كبر من أمثلة التعجب. وقد عده ابن عصفور في التعجب المبوب له في النحو فقال: صيغة ما أفعله وأفعل به، وفعل، نحو كرم الرجل، وإليه نحا الزمخشري فقال: هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه قصد في كبر التعجب من غير لفظه، كقوله: غلت ناب كليب بواؤها، ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله. وقوله تعالى: ﴿أن تقولوا﴾ أي: عظم من تلك الجهة أن يقع في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال قولكم ﴿ما لا تفعلون﴾ فاعل كبر. قال الرازي: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن في السورة التي قبلها بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته بقوله تعالى: ﴿إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي﴾ وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن ويحثه على الجهاد بقوله تعالى:
﴿إن الله﴾ أي: الذي له جميع صفات الكمال ﴿يحب﴾ أي: يفعل فعل المحب مع ﴿الذين يقاتلون﴾ أي: يوقعون القتال ﴿في سبيله﴾ أي: بسبب تسهيل طريقه الموصلة إلى رضاه. وقوله تعالى: ﴿صفاً﴾ حال، أي: مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد ﴿كأنهم﴾ من شدة التراص والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في المركز ﴿بنيان﴾ وزاد في التأكيد بقوله تعالى: ﴿مرصوص﴾ أي: ملزوق بعض إلى بعض ثابت كثبوت البناء.
وقال ابن عباس: يوضع الحجر على الحجر، ثم يرص بأحجار صغار، ثم يوضع اللبن عليه فيسميه أهل مكة المرصوص. وقال الرازي: يجوز أن يكون المعنى على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص قال القرطبي: استدل بعضهم بهذه الآية على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. قال المهدوي: وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية لأن معناها الثبات، ولهذا يحرم الخروج من الصف إن قاومناهم إلا متحرفاً لقتال، كمن ينصرف ليكمن في موضع ويهجم، أو ينصرف من مضيق ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال، أو متحيز إلى فئة يستنجد بها ولو بعيدة قليلة أو كثيرة، فيجوز انصرافه لقوله تعالى: {إلا


الصفحة التالية
Icon