بالعرش تقول: ألا من وصلني وصله الله تعالى ومن قطعني قطعه الله تعالى»، وقرأ غير حمزة بالنصب عطفاً على الله تعالى فالعامل فيه اتقوا كما قدرته أو معطوف على محل الجار والمجرور كقولك: مررت بزيد وعمراً، وأما حمزة فقرأه بالجر عطفاً على الضمير المجرور، وقول البيضاوي: وهو ضعيف أي: كما هو مذهب البصريين ممنوع، والحق أنه ليس بضعيف فقد جوّزه الكوفيون، وكيف يكون ضعيفاً والقراءة به متواترة؟ فيجب أن يضعف كلام البصريين ويرجع إلى كلام رب العالمين، وتعليلهم عدم الجواز بكونه كبعض كلمة لا يقتضي إلحاقه به في عدم جواز العطف إذ حذف الشيء مع القرينة جائز ومنه:
*رسم دار وقفت في طلله*
أي: ورب رسم دار وقول الشاعر:
*اذهب فما بك والأيام من عجب
﴿إنّ الله كان عليكم رقيباً﴾ أي: حافظاً لأعمالكم فيجازيكم بها أي: لم يزل متصفاً بذلك ﴿وآتوا اليتامى﴾ أي: بعد البلوغ والرشد ﴿أموالهم﴾ وسموا اليتامى بعد البلوغ مع أنّ اليتيم في عرف الشرع صغير لا أب له على معنى أنهم كانوا يتامى، وإن كان اليُتْيم في اللغة الانفراد، ومنه الدرّة اليتيمة، وقيل: اليتيم في الإناس من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات وفي الطير من قبلهما، والخطاب للأولياء والأوصياء.
روي أنّ رجلاً كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب المال من عمه فمنعه فترافعا إلى النبيّ ﷺ فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله، فقال النبيّ ﷺ «ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحله داره» أي: جنته، وسيأتي تفسير الحوب الكبير، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبيّ ﷺ «ثبت الأجر وبقي الوزر» فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: «ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده» أي: ولعله كان لا يخرج زكاته ﴿ولاتتبدلوا الخبيث﴾ أي: الحرام ﴿بالطيب﴾ أي: الحلال أي: لا تأخذوه بدله كما تفعلون في أخذ الجيد من مال اليتيم وجعل الرديء من مالكم مكانه.
قال الزمخشريّ: وهذا ليس بتبدل، وإنما هو تبديل، قال التفتازانيّ: لأن معنى تبدلت هذا بذاك أنك أخذت هذا وتركت ذاك وكذا استبدلت؛ لأنّ معنى بدلت هذا بذاك أخذت ذاك وأعطيت هذا قال تعالى: ﴿ومن يتبدل الكفر بالإيمان﴾ (البقرة، ١٠٨)
فإذا أعطى الرديء وأخذ الجيد فقد أعطى الخبيث وأخذ الطيب كما لو أخذ الخبيث وترك الطيب؛ ليكون تبدل الخبيث بالطيب، فالحاصل أنّ في التبدل ما دخلته الباء متروك، وما تعدى إليه الفعل بنفسه مأخوذ وفي التبديل بالعكس اه. وقد أوضحت ذلك في «شرح المنهاج» ﴿ولا تأكلوا أموالهم إلى﴾ أي: مع ﴿أموالكم﴾ كقوله تعالى: ﴿من أنصاري إلى الله﴾ (آل عمران، ٥٢)
أي: مع الله، أي: لا تنفقوهما معاً، ولا تسووا بينهما، فأكلكم أموالكم حلال لكم، وأكلكم أموالهم حرام عليكم، فلا يحل لكم من أموالهم ما زاد على قدر الأقل من أجرتكم ونفقتكم.
فإن قيل: قد حرم الله عليهم أكل مال اليتيم وحده ومع أموالهم فلم ورد النهي عن أكله معها؟ أجيب: بأنهم كانوا يفعلون كذلك فأنكر عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم؛ ولأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال، وهم مع ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم
فيحتمل أنه كان بعد رجوعه من المعراج، وأما حكم صلاة الأنبياء وهم في الدار الآخرة فهم في حكم الشهداء بل هم أفضل منهم، وقد قال تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء﴾ (آل عمران، ١٦٩)
فالأنبياء بعد الموت أولى، وأمّا حكم صلاتهم فيحتمل أنها بالذكر والدعاء وذلك من أعمال الآخرة. قال تعالى: ﴿دعواهم فيها سبحانك اللهمّ﴾ (يونس، ١٠)
وورد في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، ويحتمل أن الله تعالى خصهم بخصائص في الآخرة كما خصهم في الدنيا بخصائص لم يخص بها غيرهم. منها أنه ﷺ أخبر أنه رآهم يلبون ويحجون فكذلك الصلاة والله أعلم بحقائق الأمور.
وروي عن شريك بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول: «ليلة أسري برسول الله ﷺ من مسجد الكعبة أنه جاء ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم: أيهم هو. قال أوسطهم: هو خيرهم فقال آخرهم: خذوا خيرهم» وساق حديث المعراج بقصته. قال: «فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان قال: ما هذان يا جبريل؟ قال: هذان النيل والفرات عنصرهما ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه نهر من لؤلؤ وزبرجد فضرب يده فإذا هو مسك أذفر. قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هو الكوثر الذي خبأ لك ربك» وذكر في آخر حديثه أنه ﷺ قال في آخر الحديث: «ثم علا بي حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار ورب العزة فتدلى فكان منه كقاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه» وذكرت عائشة أنّ الذي دنا فتدلى جبريل عليه السلام وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة النجم.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿لنريه من آياتنا﴾ (الإسراء، ١)
يدلّ على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات لأنّ كلمة من تفيد التبعيض وقال في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض﴾ (الأنعام، ٧٥)
أي: ملكهما فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل من معراج محمد عليهما الصلاة والسلام؟ أجيب: بأنه لما أضيفت تلك الآيات إلى الله تعالى دلّ على أنها أفضل مما رآه إبراهيم. تنبيه: قال النووي في شرح مسلم قد جاء في رواية شريك في حديثه أوهام أنكر عليه العلماء فيها منها قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه وإنّ الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً. وقال الطبراني: كان ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، وقال الزهري: كان بعد مبعثه ﷺ بخمس سنين قال ابن إسحق أسرى به ﷺ وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل وقيل كان الإسراء في رجب ويقال في رمضان قال النووي وأشبه الأقوال قول الزهري وابن إسحق ومما يدل على أنه أسري بجسده ﷺ قوله تعالى ﴿أسرى بعبده﴾ ولفظ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أتيت بالبراق» وهو اسم للدابة وهي التي ركبها رسول الله ﷺ ليلة أسري به واشتقاقه من البرق لسرعته أو لشدة صفائه وبياضه ولمعانه وتلألؤ نوره والحلقة بإسكان اللام ويجوز فتحها والمراد بربط البراق بالحلقة الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب وأنّ ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى وقوله جاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فيه اختصار
لا يحصيها إلا هو ﴿لتأتينكم﴾ أي: الساعة لتظهر فيها ظهوراً تاماً الحكمة بالعدل والفصل وغير ذلك من عجائب الحكم والفضل وقوله تعالى ﴿عالم الغيب﴾ قرأه نافع وابن عامر برفع الميم على هو عالم الغيب، أو مبتدأ وخبره ما بعده، وابن كثير وأبو عمرو وعاصم بجره نعتاً لربي وقرأ حمزة والكسائي بعد العين بلام ألف مشددة وخفض الميم ﴿لا يعزب﴾ أي: لا يغيب ﴿عنه مثقال﴾ أي: وزن ﴿ذرة﴾ أي: من ذات ولا معنى، والذرة: النملة الحمراء الصغيرة جداً صارت مثلاً في أقل القليل فهي كناية عنه، وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بضمها.
وقوله تعالى ﴿في السموات ولا في الأرض﴾ فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح فالأجسام أجزاؤها في الأرض والأرواح في السماء فقوله تعالى ﴿في السموات﴾ إشارة إلى علمه بالأرواح وما فيها من الملائكة وغيرهم. وقوله تعالى ﴿ولا في الأرض﴾ إشارة إلى علمه بالأجسام وما في الأرض من غيرها، فإذا علم الأرواح والأجسام قدر على جمعهما فلا استبعاد في الإعادة. وقوله تعالى: ﴿ولا أصغر﴾ أي: ولا يكون شيء أصغر ﴿من ذلك﴾ أي: المثقال ﴿ولا أكبر﴾ أي: منه ﴿إلا في كتاب مبين﴾ أي: بين هو اللوح المحفوظ جملة مؤكدة لنفي العزوب.
فإن قيل: فأي حاجة إلى ذكر الأكبر فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر؟ أجيب: بأنه تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغار لكونها محل النسيان، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال: الإثبات في الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر أيضاً مكتوب.
ثم بين علة ذلك كله بقوله:
﴿ليجزي الذين آمنوا وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ أي: وإنه ما خلق الأكوان إلا لأجل الإنسان فلا يدعه بغير جزاء، ثم بين جزاءهم بقوله تعالى: ﴿أولئك﴾ أي: العالو الرتبة ﴿لهم مغفرة﴾ أي: لزلاتهم وهفواتهم لأن الإنسان المبني على النقصان لا يقدر أن يقدر العظيم السلطان حق قدره ﴿ورزق كريم﴾ أي: جليل عزيز دائم لذيذ نافع شهي لا كدر فيه وهو رزق الجنة.
تنبيه: ذكر تعالى في الذين آمنوا وعملوا الصالحات أمرين: الإيمان، والعمل الصالح، وذكر لهم أمرين: المغفرة والرزق الكريم، فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له لقوله تعالى ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ (النساء: ٤٨) وقوله ﷺ «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله ومن في قلبه وزن ذرة من إيمان»، والرزق الكريم على العمل الصالح وهذا مناسب، فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه لا بد وأن ينعم عليه وقوله تعالى ﴿كريم﴾ بمعنى: ذي كرم أو مكرم أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يطلب ويتسبب فيه لا يأتي غالباً.
فإن قيل: ما الحكمة في تمييزه الرزق بأنه كريم ولم يصف المغفرة؟ أجيب: بأن المغفرة واحدة وهي للمؤمنين، وأما الرزق فمنه شجرة الزقوم والحميم، ومنه الفواكه والشراب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها.
ولما بين تعالى حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين في ذلك اليوم بقوله سبحانه:
﴿والذين سعوا﴾ أي: فعلوا فعل الساعي ﴿في آياتنا﴾ أي: القرآن بالإبطال وتزهيد الناس فيها وقوله تعالى: ﴿معجزين﴾ قرأه ابن كثير وأبو عمرو
وأنفسكم ﴿إن كنتم تعلمون﴾ أي: إن كان يمكن أن يتجدد لكم علم في وقت فأنتم تعلمون أن ذلك خير لكم، فإذا علمتم أنه خير أقبلتم عليه فكان لكم به أمر عظيم، وإن كانت قلوبكم قد طمست طمساً لا رجاء لصلاحه فصلوا على أنفسكم صلاة الموت.
وقوله تعالى: ﴿يغفر لكم﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر، أي: آمنوا وجاهدوا.
والثاني: أنه مجزوم في جواب الاستفهام، كما قاله الفراء.
والثالث: أنه مجزوم بشرط مقدر، أي: إن تؤمنوا يغفر لكم. قال القرطبي: وأدغم بعضهم فقرأ يغفر لكم، والأحسن ترك الإدغام فإن الراء متكرر قوي فلا يحسن الإدغام في اللام، لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف ا. هـ. وتقدم في آخر سورة البقرة مثل ذلك للزمخشري والبيضاوي ورد عليهما ﴿ذنوبكم﴾ أي: يمحو أعيانها وآثارها كلها ﴿ويدخلكم﴾ أي: بعد التزكية بالمغفرة رحمة لكم ﴿جنات﴾ أي: بساتين ﴿تجري من تحتها﴾ أي: من تحت أشجارها وغرفها وكل منتزه فيها ﴿الأنهار﴾ فهي لا تزال غضة زهراء لم يحتج هذا الأسلوب إلى ذكر الخلود لإغناء ما بعده عنه، ودل على الكثرة المفرطة في الدور بقوله في صيغة منتهى الجموع ﴿ومساكن طيبة﴾ روى الحسن قال: «سألت عمران بن حصين، وأبا هريرة عن قوله تعالى: ﴿ومساكن طيبة﴾ فقالا: على الخبير سقطت سألنا رسول الله ﷺ عنها فقال: «قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً، في كل سرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفاً ووصيفة فيعطي الله تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله» ﴿في جنات عدن﴾ أي: بساتين هي أهل للإقامة بها لا يحتاج في إصلاحها إلى شيء خارج يحتاج في تحصيله إلى الخروج عنها له، قال حمزة الكرماني في كتابه «جوامع التفسير» : هي أي جنات عدن قصبة الجنان ومدينة الجنة أقربها إلى العرش ﴿ذلك﴾ أي: الأمر العظيم جداً ﴿الفوز العظيم﴾ أي: السعادة الدائمة الكبيرة، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم في الآخرة بشرهم بنعمته في الدنيا.
بقوله تعالى: ﴿وأخرى تحبونها﴾ أي: ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة، وفي تحبونها تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل. وقوله تعالى: ﴿نصر من الله﴾ أي: الذي أحاطت عظمته بكل شيء خبر مبتدأ مضمر، أي: تلك النعمة أو الخصلة الأخرى نصر من الله ﴿وفتح قريب﴾ أي: غنيمة في عاجل الدنيا قيل: فتح مكة قال الكلبي: هو النصر على قريش، وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم. وقوله تعالى: ﴿وبشر المؤمنين﴾ عطف على محذوف مثل ﴿قل يا أيها الذين آمنوا وبشر﴾، أو على يؤمنون فإنه في معنى الأمر كأنه قال آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون، وبشرهم يا أشرف الرسل بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي: أقروا بذلك ﴿كونوا﴾ أي: بغاية جهدكم ﴿أنصاراً لله﴾ أي: لدينه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أنصاراً بالتنوين وجر اللام من الاسم الجليل وترقيقها، والباقون بغير تنوين وتفخيم اللام. ﴿كما﴾ أي: كونوا لأجل أني ندبتكم أنا بقولي من غير واسطة ولذذتكم بخطابي مثل ما كان الحواريون أنصار الله حين {قال