تنبيه: إيراد هذا التقسيم بعد قوله: ﴿ولا تأكلوها﴾ يدل على أنه نهي للأغنياء منهم أن لا يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى شيئاً، وللفقراء منهم أن لا يأخذوا منها شيئاً بغير المعروف، كما أنّ قوله: ﴿ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا﴾ يدل على أنه نهي للفريقين عن أكلها إسرافاً ومبادرة لكبرهم ﴿فإذا دفعتم إليهم﴾ أي: اليتامى ﴿أموالهم فأشهدوا﴾ ندباً ﴿عليهم﴾ بأنهم قبضوها، فإنّ الإشهاد أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة فتحتاجون إلى البينة وهذا يدلّ على أنّ القيم لا يصدّق في دعواه الدفع ولو أبى إلا ببينة وهو مذهب الشافعيّ ومالك خلافاً لأبي حنيفة ﴿وكفى با حسيباً﴾ أي: حافظاً الأعمال خلقه ومحاسبتهم.
﴿للرجال﴾ أي: الذكور ﴿نصيب﴾ أي: حظ ﴿مما ترك الوالدان والأقربون﴾ أي: المتوفون ﴿وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه﴾ أي: المال ﴿أو كثر﴾ جعله الله ﴿نصيباً مفروضاً﴾ أي: مقطوعاً بتسليمه إليهم.
روي أن أوس بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه توفي وترك امرأته أم كحة ـ بضمّ الكاف والحاء المشدّدة ـ وثلاث بنات له منها فقام رجلان هما ابنا عمّ الميت ووصياه سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصغار وإن كان الصغير ذكراً إنما كانوا يورثون الرجال ويقولون: لا نعطي إلا من قاتل وحاز الغنيمة، فجاءت أمّ كحة إلى رسول الله ﷺ في مسجد الفضيخ ـ وهو بالضاد والخاء المعجمتين، موضع بالمدينة، قيل: لعله المسجد الذي كان يسكنه أصحاب الصفة؛ لأنهم كانوا يرضخون فيه النوى ـ فشكت إليه فقالت: يا رسول الله إنّ أوس بن ثابت مات وترك علي ثلاث بنات، وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهنّ وقد ترك أبوهن مالاً حسناً وهو عند سويد وعرفجة لم يعطياني ولا بناته شيئاً، وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين، فدعاهما رسول الله ﷺ فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلأ ولا ينكي عدوّاً، فنزلت هذه الآية، فأثبتت لهنّ الميراث فقال رسول الله ﷺ «لا تقربا من مال أوس شيئاً فإنّ الله جعل لبناته نصيباً مما ترك ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل فيهنّ» فأنزل الله تعالى ﴿يوصيكم الله في أولادكم﴾ فأعطى ﷺ أمّ كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العمّ» وهذا دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب ﴿وإذا حضر القسمة﴾ للميراث ﴿أولو القربى﴾ أي: ذوو القرابة ممن لا يرث ﴿واليتامى والمساكين فارزقوهم﴾ أي: أعطوهم ﴿منه﴾ أي: المقسوم شيئاً قبل القسمة تطييباً لقلوبهم وتصدّقاً عليهم، وهو أمر ندب للبلغ من
الورثة، وقيل: أمر وجوب.
واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم: هي منسوخة بآية المواريث كالوصية، وعن سعيد بن جبير: إنّ ناساً يقولون: نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها الناس ﴿وقولوا لهم قولاً معروفاً﴾ وهو أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم. وعن الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات والمساكين واليتامى من العين يعنيان الذهب والورق فإذا قسم الذهب والورق وصارت القسمة إلى الأقربين والرقيق وما أشبه ذلك قالوا لهم قولاً معروفاً كأن يقولون: بورك فيكم.
﴿وليخش﴾ أي: وليخف على اليتامى ﴿الذين لو تركوا﴾ أي: قاربوا أن
بالبقية إلى أرض نفسه، فبقوا هناك في الذل. الثاني: أنّ الله تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل
في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال الله ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية قال: أفسدوا المرّة الأولى، فأرسل الله عليهم جالوت فقتلهم وأفسدوا المرّة الثانية فقتلوا يحيى بن زكريا فبعث الله عليهم بختنصر. وعن ابن مسعود قال: كان أوّل الفساد من قتل زكريا فبعث الله عليهم ملك القبط. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: الأولى قتل زكريا والأخرى قتل يحيى. قاله الرازي. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط الله عليهم أقواماً فقتلوهم وأفنوهم.
ثم قال الله تعالى: ﴿فجاسوا﴾ أي: تردّدوا لطلبكم ﴿خلال الديار﴾ أي: وسطها للقتل والغارة. قال البيضاوي: فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم وحرّقوا التوراة وخرّبوا المسجد، والمعتزلة لما منعوا تسليط الله الكافر على ذلك أولوا البعث بالتخلية انتهى. وفي ذلك تعريض بالزمخشري فإنه قال في «كشافه» : فإن قلت كيف جاز أن يبعث الله تعالى الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه. قلت: معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم على أنّ الله عز وجل أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه فهو كقوله تعالى: ﴿وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون﴾ (الأنعام، ١٢٩)
. ﴿وكان﴾ أي: ذلك البعث ووعد العقاب به ﴿وعداً مفعولاً﴾ أي: قضاء كائناً لازماً لا شك في وقوعه ولا بدّ أن يفعل.
﴿ثم رددنا لكم الكرّة﴾ أي: الدولة والغلبة ﴿عليهم﴾ حتى تبتم عن ذنوبكم ورجعتم عن الفساد في زمن داود بقتله جالوت وذلك بعد مائة سنة ﴿وأمددناكم بأموال﴾ تستعينون بها على قتال عدوّكم ﴿وبنين﴾ تتقوّون بهم ﴿وجعلناكم أكثر﴾ من عدوّكم ﴿نفيراً﴾ أي: عشيرة تنفر معكم عند إرادة القتال وغيره من المهمات والنفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل: جمع نفر، وهم المجتمعون للذهاب إلى العدوّ. ولما حكى الله تعالى عنهم أنهم لما عصوا سلط الله عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة، وأعاد عليهم الدولة فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا الله فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصرّوا على المعصية فقد أساؤوا على أنفسهم وقد تقرّر في العقول أنّ الإحسان إلى النفس حسن مطلوب وأنّ الإساءة إليها قبيحة فلهذا المعنى قال تعالى:
﴿إن أحسنتم﴾ أي: بفعل الطاعة على حسب الأمر في الكتاب الداعي إلى العدل والإحسان ﴿أحسنتم لأنفسكم﴾ أي: لأنّ ثوابها لها ﴿وإن أسأتم﴾ بارتكاب المحرّمات والإفساد ﴿فلها﴾ أي: الإساءة لأنّ وبالها عليها. قال النحويون: وإنما قال: ﴿وإن أسأتم فلها﴾ للتقابل، والمعنى فإليها أو فعليها كما مرّ مع أنّ حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض كقوله تعالى: ﴿يومئذٍ تحدّث أخبارها بأن ربك أوحى لها﴾ (الزلزلة: ٤، ٥)
أي: إليها. تنبيه: قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله غالبة على غضبه بدليل أنه تعالى لما حكى عنهم الإحسان ذكره مرّتين فقال تعالى: ﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم﴾ ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرّة واحدة فقال تعالى: ﴿وإن أسأتم فلها﴾ ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك ثم قال:
﴿فإذا جاء وعد الآخرة﴾ أي: ثانية في
للناس متنكراً، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه تقدم إليه يسأله عن داود ويقول له ما تقول في داود، وإليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيراً، فقيض الله تعالى له ملكاً في صورة آدمي فلما رآه داود تقدم إليه على عادته يسأله فقال الملك: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه فراع داود ذلك وقال: ما هي يا عبد الله؟ فقال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال: فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال يتقوت منه ويطعم عياله، فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع، وإنه أول من اتخذها يقال: إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم فيأكل ويطعم منها عياله، ويتصدق منها على الفقراء والمساكين ويقال: إنه كان يعمل كل يوم درعاً يبيعه بستة آلاف درهم، فينفق منها ألفين على نفسه وعياله، ويتصدق بأربعة آلاف درهم على فقراء بني إسرائيل، وإنما اختار الله تعالى له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره ويحفظ الآدمي المكرم عند الله تعالى من القتل، فالزرّاد خير من القواس والسياف وغيرهما، لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح ربما يستعمل في قتل النفس المحرمة بخلاف الدرع قال ﷺ «كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده».
ثم ذكر سبحانه وتعالى علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله كان لله تعالى بقوله عز من قائل:
﴿أن اعمل سابغات﴾ أي: دروعاً طوالاً واسعات يجرها لابسها على الأرض، وذكر الصفة يعلم منها الموصوف، واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى ﴿وقدر في السرد﴾ أي: نسج الدروع يقال لصانعه: الزراد والسراد فقيل: قدر المسامير في حلق الدروع أي: لا تجعل المسامير غلاظاً فتكسر الحلق ولا دقاقاً فتتقلقل فيها ويقال: السرد المسمار في الحلقة يقال: درع مسرودة أي: مسمورة الحلق ﴿وقدر في السرد﴾ اجعله على القصد وقدر الحاجة وقيل: اجعل كل حلقة مساوية لأختها مع كونها ضيقة لئلاً ينفذ منها سهم، ولتكن في ثخنها بحيث لا يقطعها سيف، ولا تثقل على الدرع فتمنعه خفة التصرف وسرعة الانتقال في الكر والفر والطعن والضرب في البرد والحر، والظاهر ـ كما قال البقاعي ـ أنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة بإلانة الحديد إليها، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق ولا كان للإلانة كبير فائدة، وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير وقال الرازي: يحتمل أن يقال: السرد هو عمل الزرد وقوله تعالى ﴿وقدر في السرد﴾ أي: أنك غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب، والكسب يكون بقدر الحاجة، وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشتغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب، ويدل عليه قوله تعالى ﴿واعملوا صالحاً﴾ أي: لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه، وأما الكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله تعالى: ﴿إني بما تعملون بصير﴾ أي: مبصر فأجازيكم به يريد بهذا داود وآله.
تنبيه: كما ألان الله تعالى لداود عليه السلام الحديد ألان لنبينا ﷺ في الخندق تلك الكدية وذلك بعد أن لم تكن المعاول تعمل فيها وبلغت غاية الجهد منهم، فضربها رسول الله ﷺ ضربة واحدة، وفي رواية رش عليها ماء فعادت كثيباً أهيل لا ترد فأساً، وتلك الصخرة التي أخبره سلمان عنها أنها كسرت فؤوسهم ومعاولهم وعجزوا عنها فضربها
«أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة، قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله ﷺ فقالوا: سمع إخواننا من أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله ﷺ «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» وقيل: إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي ﷺ ودخولهم في دينه ونصرته ﴿والله﴾ الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿ذو الفضل العظيم﴾.
ولما ترك اليهود العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد ﷺ ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله تعالى:
﴿مثل الذين حملوا التوراة﴾ أي: كلفوا وألزموا حمل الكتاب الذي آتاه الله تعالى لبني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، بأن علمهم إياها سبحانه وكلفهم حفظ ألفاظها عن التغيير والنسيان ومعانيها عن التحريف والتلبيس، وحدودها وأحكامها عن الإهمال والتضييع ﴿ثم لم يحملوها﴾ أي: بأن حملوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها من الوصية باتباع عيسى عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم، ثم بمحمد ﷺ إذا جاء فهي ضارة لهم بشهادتها عليهم فإذا لهم النار من غير نفع أصلاً ﴿كمثل﴾ أي: مثلهم مثل ﴿الحمار﴾ أي: الذي هو أبلد الحيوان فهو مثل في الغباوة حال كونه ﴿يحمل أسفاراً﴾ أي: كتباً كباراً من كتب العلم جمع سفر، وهو الكتاب الكبير المسفر عما فيه، في عدم الانتفاع بها لأنه يمشي ولا يدري منها إلا ما يضر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ومثل ذلك قول الشاعر:

*زوامل للأسفار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر*
*لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأحماله أو راح ما في الغرائر*
من إنشاد الشيخ ابن الخباز. ﴿بئس مثل القوم﴾ أي: الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدون ﴿الذين كذبوا﴾ أي: محمداً على علم ﴿بآيات الله﴾ أي: دلالات الملك الأعظم على رسوله، ولاسيما محمد ﷺ والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هذا المثل ﴿والله﴾ أي: الذي له جميع صفات الكمال ﴿لا يهدي القوم﴾ أي: لا يخلق الهداية في قلوب الذين تعمدوا الزيغ ﴿الظالمين﴾ أي: الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان، الذي لم يدع لبساً حتى صار الظلم لهم صفة راسخة.
ولما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه نزل قوله تعالى:
﴿قل﴾ أي: يا أشرف الرسل ﴿يا أيها الذين هادوا﴾ أي: تدينوا باليهودية ﴿إن زعمتم﴾ أي: قلتم قولاً هو معرض للتكذيب، ولذلك أكذبتموه ﴿إنكم أولياء لله﴾ أي: الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه خصكم بذلك خصوصية مبتدأة ﴿من دون﴾ أي: أدنى رتبة من رتب ﴿الناس﴾ فلم تنفذ الولاية، وتلك الرتبة في الدنيا إلى أحد منهم غيركم بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لاسيما الأميين ﴿فتمنوا الموت﴾ وأخبروا عن أنفسكم بذلك للنقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء ﴿إن كنتم﴾ أي: كوناً راسخاً ﴿صادقين﴾ أي: غريقين عند أنفسكم في الصدق، فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب، ومن المقطوع به أن من كان في كدر


الصفحة التالية
Icon