وفي بعضها: أنه ملك مسمى به وهو الذي تسمعون صوته
﴿يجعلون﴾ أي: أصحاب الصيب ﴿أصابعهم﴾ أي: أناملها وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة لما في ذلك من الإشعار بدخول أصابعهم فوق المعتاد فراراً من شدّة الصوت ﴿في آذانهم﴾ وقوله: ﴿من الصواعق﴾ متعلق بيجعلون أي: من أجلها يجعلون وهو جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت من يسمعها أو يغشى عليه ويقال لكل عذاب مهلك: صاعقة وقيل: الصاعقة قطعة عذاب ينزلها الله تعالى على من يشاء. روي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهم: أن رسول الله ﷺ كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك. وأمال الدوريّ عن الكسائي الألف التي بعد الذال في آذانهم إمالة محضة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: ﴿حذر الموت﴾ نصب على العلة كقول الشاعر:
وأغفر (أي:
أستر) عوراء الكريم ادخاره | وأعرض عن شتم اللئم تكرما* |
أن يكون وما يتبع في معنى الاستفهام، أي: وأيّ شيء يتبعون، وشركاء على هذا نصب بيدعون، وعلى الأوّل بيتبع، وكان حقه ﴿وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء﴾ شركاء فاقتصر على أحدهما للدلالة وقوله تعالى:
﴿هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه﴾ أي: ليزول عنكم التعب والكلال فيه بما تقاسون في نهاركم من تعب التردد في المعاش ﴿والنهار مبصراً﴾ أي: مضيئاً تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم تنبيه على كمال قدرته وعظيم نعمته المتوحد هو بهما ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة. وإضافة الإبصار إلى النهار مع أنه يبصر فيه على طريق نقل الاسم من المسبب إلى السبب، كقولهم ليل نائم؛ لأنّ الليل سبب للسكون. قال قطرب: تقول العرب: أظلم الليل، أي: صار ذا ظلمة، وأضاء النهار، أي: صار ذا ضياء. ﴿إن في ذلك﴾ المذكور ﴿لآيات﴾ أي: دلالات على وحدانيته تعالى ﴿لقوم يسمعون﴾ سماع اعتبار وتدبر فيعلمون بذلك أنّ الذي خلق الأشياء كلها هو الإله المعبود المتفرد بالوحدانية في الوجود، ثم ذكر الله تعالى نوعاً من أباطيل الكفار بقوله تعالى:
﴿قالوا﴾ أي: اليهود والنصارى ومن زعم أنّ الملائكة بنات الله ﴿اتخذ الله ولداً﴾ قال الله تعالى: ﴿سبحانه﴾ أي: تنزيهاً له عن الولد ﴿هو الغنيّ﴾ عن كل أحد، وإنما يطلب الولد من يحتاج إليه، ثم بين تعالى غناه بقوله تعالى: ﴿له ما في السموات وما في الأرض﴾ من ناطق وصامت ملكاً وخلقاً، ولما بين تعالى بالدليل الواضح امتناع ما أضافوا إليه عطف بالإنكار والتوبيخ فقال: ﴿إن﴾ أي: ما ﴿عندكم من سلطان﴾ أي: حجة ﴿بهذا﴾ أي: الذي تقولونه، ثم بالغ تعالى في ذلك الإنكار عليهم بقوله تعالى: ﴿أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾ حقيقته وصحته، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه تعالى جهلاً منكم، والاستفهام للتوبيخ.
﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء الذين يختلقون على الله الكذب فيقولون عليه الباطل ويزعمون أنّ له ولداً ﴿إنَّ الذين يفترون﴾ أي: يتعمدون ﴿على الله الكذب لا يفلحون﴾ أي: لا ينجحون في سعيهم ولا يفوزون بمطلوبهم بل خابوا وخسروا، فإنهم لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة، ومن الناس من إذا فاز بشيء من المطالب العاجلة والمقاصد الخسيسة ظنّ أنه قد فاز بالمقصد، والله سبحانه وتعالى أزال هذا الخيال بأن قال:
﴿متاع في الدنيا﴾ وفيه إضمار تقديره: لهم متاع في الدنيا، على أنه مبتدأ خبره محذوف، ويصح أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رياستهم في الكفر أو حياتهم أو تقلبهم متاع في الدنيا وهو أيام يسيرة بالنسبة إلى طول بقائهم في العذاب ﴿ثم إلينا مرجعهم﴾ بالموت ﴿ثم نذيقهم العذاب الشديد﴾ بعد الموت ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿كانوا يكفرون﴾ ولما ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أحوال كفار قريش وما كانوا عليه من الكفر والعناد شرع بعد ذلك في قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وذكر الله تعالى منهم في هذه السورة ثلاث قصص:
القصة الأولى: قصة نوح عليه السلام المذكورة بقوله تعالى:
﴿واتل﴾ يا محمد ﴿عليهم﴾ أي: كفار قريش ﴿نبأ﴾ أي: خبر ﴿نوح﴾ وذلك ليكون لرسول الله ﷺ ولأصحابه أسوة ممن سلف من الأنبياء، فإنه كان ﷺ إذا سمع أنّ معاملة هؤلاء الكفار مع كل الرسل ما كان إلا على هذا الوجه خف ذلك على قلبه، كما يقال: المصيبة
لمجاورتهم ومناسبتهم بمصاهرتهم وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدة وسنين عديدة وإتيانه بالأولاد من نساءهم مع موافقته لهم في أنه قروي ثم بينه بقوله تعالى: ﴿لوط﴾ بصيغة العرض كغيره ممن تقدم ﴿ألا تتقون﴾ الله فتجعلون بينكم وبين سخطه وقاية، ثم علل ذلك بقوله:
﴿إني لكم﴾ أي: خاصة ﴿رسول﴾ فلا تسعني المخالفة ﴿أمين﴾ لا غش عندي ولا خيانة، ثم تسبب عن ذلك قوله:
﴿فاتقوا الله﴾ أي: الملك العظيم فإنه قادر على ما يريد فلا تعصوه ﴿وأطيعون﴾ أي: لأنّ طاعتي سبب نجاتكم لأني لا آمركم إلا بما يرضيه ولا أنهاكم إلا عما يغضبه ثم نفى عن نفسه ما يتوهم كما تقدم لغيره بقوله:
﴿وما أسألكم عليه﴾ أي: الدعاء إلى الله تعالى ﴿من أجر﴾ أي: فتتهموني بسببه ﴿إن أجري إلى على رب العالمين﴾ أي: المحسن إليّ بإيجادكم ثم بتربيتكم، ثم وبخهم ووعظهم بقوله:
﴿أتأتون الذكران﴾ وقوله ﴿من العالمين﴾ يحتمل عوده إلى الآتي، أي: أنتم من جملة العالمين مخصوصون بهذه الصفة وهي إتيان الذكور ولم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق، ويحتمل عوده إلى المأتي: أي: أنتم اخترتم الذكران من العالمين كالإناث منهم وعلى هذا يحتمل أن يراد الذكران من الآدميين ومن غيرهم توغلاً في الشرّ وتجاهراً بالتهتك، قال البقاعي: وإن يراد الآدميون وجرى عليه البغوي وأكثر المفسرين أي: تريدون الذكران من أولاد آدم مع كثرة الإناث وغلبتهنّ.
﴿وتذرون﴾ أي: تتركون لهذا الغرض ﴿ما خلق لكم﴾ أي: للنكاح ﴿ربكم﴾ أي: المحسن إليكم وقوله ﴿من أزواجكم﴾ يصلح أن يكون تبييناً أي: وهن الإناث وأن يكون للتبعيض ويكون المخلوق لذلك هو القبل، وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم، ثم كأنهم قالوا نحن لم نترك نساءنا أصلاً ورأساً وإن كانوا قد فهموا أنّ مراده تركهن حال الفعل في الذكور، فقال مضرباً عن مقالهم لما أرادوا به حيدة عن الحق وتمادياً في الفجور ﴿بل أنتم قوم عادون﴾ أي: متجاوزون عن حدّ الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل والحيوانات أي: مفرطون في المعاصي، وهذا من جملة ذلك، أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان بارتكابكم هذه الجريمة، ولما اتضح الحق عندهم وعرفوا أن لا وجه لهم في ذلك وانقطعت حجتهم.
﴿قالوا﴾ مقسمين ﴿لئن لم تنته﴾ وسموه باسمه جفاء وغلظة بقولهم: ﴿يا لوط﴾ أي: عن مثل إنكارك هذا علينا ﴿لتكونن من المخرجين﴾ أي: ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع من تعنيف واحتباس أملاك كما هو حال الظلمة إذا أجلوا بعض من يغضبون عليه وكما كان يفعل بعض أهل مكة بمن يريد المهاجرة، وفي هذا إشارة إلى أنه غريب عندهم وأنّ عادتهم المستمّرة نفي من اعترض عليهم.
﴿قال﴾ مجيباً لهم ﴿إني﴾ مؤكداً المضمون ما يأتي به ﴿لعملكم من القالين﴾ أي: المبغضين غاية البغض لا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد.
تنبيه: قوله من القالين: أبلغ من أن يقول إني لعملكم قالٍ كما تقول فلان من العلماء فيكون أبلغ من قولك فلان عالم لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم ومعروفة مساهمته لهم في العلم، والقلي: البغض الشديد كأنّ البغض يقلي الفؤاد والكبد والقالي المبغض كما قال القائل:
*ووالله ما فارقتكم قالياً لكم | ولكن ما يقضى عليّ يكون* |
*فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا | فقد جعلت أشراطاً وله تبدو* |
*فأشرط فيها نفسه وهو يقسم | فألقى بأسباب له وتوكلا* |
ومن أشراطها انشقاق القمر المؤذن بآية الشمس في طلوعها من مغربها، وغير ذلك وما بعد مقدّمات الشيء إلا حضوره.
﴿فأنى﴾ أي: فكيف وأين ﴿لهم﴾ أي التذكر والاتعاظ والتوبة ﴿إذا جاءتهم ذكراهم﴾ أي: الساعة لا تنفعهم.
نظيره قوله تعالى ﴿يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى﴾ ولما علم بذلك أنّ الذكرى غير نافعة إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل، أو جاءت الأشراط المحققة الكاشفة لها، سبب عنه أمر أعظم الخلق تكويناً ليكون لغيره تكليفاً فقال:
﴿فاعلم أنه﴾ أي: الشأن العظيم ﴿لا إله﴾ أي: لا معبود بحق ﴿إلا الله﴾ أي: إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية، فإنه النافع يوم القيامة وقيل: الخطاب مع النبيّ ﷺ والمراد غيره وقال الحسن بن الفضل: فازدد علماً إلى علمك وقال أبو العالية وابن عيينة معناه إذا جاءتهم الساعة، فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله، ﴿واستغفر لذنبك﴾ أي: لأجله، أمر بذلك مع عصمته لتستن به أمته وقد فعله قال ﷺ «إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» وقيل: معنى قوله ﴿لذنبك﴾ أي: لذنب أهل بيتك وللمؤمنين والمؤمنات الذين ليسوا من أمتك بأهل بيت وقيل: المراد النبيّ، والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحسناتنا دون ذلك قال ﷺ «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة» وقيل: هو كل مقام عال ارتفع منه إلى أعلى منه. وقوله تعالى: ﴿وللمؤمنين والمؤمنات﴾ فيه إكرام من الله تعالى لهذه الأمّة؛ حيث أمر نبيه ﷺ أن يستغفر لذنوبهم ﴿والله﴾ المحيط بجميع صفات الكمال ﴿يعلم متقلبكم﴾ أي: تصرّفكم لأشغالكم بالنهار، ومكانه وزمانه
الصفحة التالية