وقوله تعالى: ﴿عدواناً﴾ حال أي: متجاوزاً للحلال وقوله تعالى: ﴿وظلماً﴾ تأكيد وقيل: أراد بالعدوان التعدّي على الغير وبالظلم ظلم الشخص نفسه بتعريضها للعقاب ﴿فسوف نصليه﴾ أي: ندخله ﴿ناراً﴾ يحترق فيها ﴿وكان ذلك على الله يسيراً﴾ أي: هيناً لا عسر عليه فيه.
﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه﴾ أي: كلاً منها وفسر جماعة الكبيرة بأنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وقال جماعة: هي المعصية الموجبة للحدّ، والأوّل أولى؛ لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر ولا حد فيها، وقال الإمام: هي كل جريمة تؤذن أي: تعلم بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، وقال سفيان الثوري: الكبائر ما كان بينك وبين العباد، والصغائر ما كان بينك وبين الله، واحتج بقوله ﷺ «ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة: يا أمّة محمد إنّ الله قد عفا عنكم جميعاً المؤمنين والمؤمنات تواهبوا المظالم وادخلوا الجنة برحمتي».
وهي أشياء كثيرة، قال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب، وقال سعيد بن جبير: هي إلى السبعمائة أقرب أي: باعتبار أصناف أنواعها ﴿نكفر عنكم سيآتكم﴾ أي: الصغائر وهي ما عدا الكبائر أي: نكفر بفعل الطاعات كالصلاة والصوم. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله ﷺ يقول: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر».
ولا بأس بذكر شيء من النوعين فمن الأوّل تقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن، واليأس من رحمة الله وأمن مكره تعالى، والقتل عمداً أو شبه عمد، والكفر، والفرار من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والإفطار في رمضان من غير عذر، وعقوق الوالدين والزنا، واللواط، وشهادة الزور، وشرب الخمر وإن قل، والسرقة، والغصب وقيده جماعة بما يبلغ ربع مثقال كما يقطع به في السرقة، وكتمان الشهادة بلا عذر، وضرب المسلم بغير حق، وقطع الرحم، والكذب على رسول الله ﷺ وسب الصحابة، وأخذ الرشوة، والنميمة، وأمّا الغيبة فإن كانت في أهل العلم أو حملة القرآن فهي من الكبائر، وإلا فهي صغيرة، ومن الصغائر النظر المحرم، وكذب لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث، وكثرة الخصومات إلا إن راعى حق الشرع فيها، والضحك في الصلاة والنياحة وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس بين الفساق إيناساً لهم، وإدخال مجانين وصبيان يغلب تنجيسهم ونجاسة المسجد، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، وقيل: الكبائر الشرك وما عداه من الصغائر قال الله تعالى: ﴿إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ (النساء، ٤٨ ـ ١١٦)
﴿وندخلكم مدخلاً﴾ قرأ نافع بفتح الميم أي: موضعاً ﴿كريماً﴾ أي: حسناً وهو الجنة، وقرأ الباقون بضمها على المصدر بمعنى الإدخال مع الكرامة.
﴿ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض﴾ من جهة الدنيا والدين؛ لئلا يؤدّي إلى التحاسد والتباغض؛ لأنّ ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق وقبض ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض﴾ (الشورى، ٢٧)
فعلى كل
ومنها عنه أيضاً أنه قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: أرغم الله أنفه أرغم الله أنفه أرغم الله أنفه. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة». ومنها ما روي عنه أيضاً أنه قال: «قال رسول الله ﷺ لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه». ومنها ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله ﷺ يستأذنه في الجهاد. فقال: أحيّ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد». ومنها ما رواه الترمذي أنه ﷺ قال: «رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين». ومنها ما «روي عن أبي الدرداء أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيِّع». ومنها ما «روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله ﷺ أي: العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أيّ؟ قال: برّ الوالدين. قلت: ثم أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله». وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال: ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع لهم من الاستغفار ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الوالدين. ولقد كرّر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الوصية بالوالدين. ومنها ما روي أنه ﷺ قال: «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما». ومنها ما روي عن سعيد بن المسيب أنّ البارّ بوالديه لا يموت ميتة سوء. ومنها ما «روي أنّ رجلاً قال لرسول الله ﷺ إنّ أبويّ بلغا من الكبر أنى ألى منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما قال: لا فإنهما
كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما». ومنها ما رواه أبو هريرة أنّ رسول الله ﷺ قال: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ، ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة». ومنها ما روي «أنّ رجلاً شكا إلى رسول الله ﷺ أباه وأنه يأخذ ماله فدعاه فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال: إنه كان ضعيفاً وأنا قويّ وفقيراً وأنا غنيّ فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي واليوم أنا ضعيف وهو قويّ وأنا فقير وهو غنيّ ويبخل عليّ بماله فبكى رسول الله ﷺ وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع بهذا إلا بكى ثم قال للولد: أنت ومالك لأبيك». وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال: «لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر قال: إنها سيئة الخلق قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين قال: إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها واظمأت لك نهارها قال: لقد جازيتها. قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عنقي. قال: ما جزيتها». وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً في الطواف يحمل أمّه ويقول:
*أنا لها مطية لا تذعر
... إذا الركائب نفرت لا تنفر
*ما حملت وأرضعتني أكثر
... الله ربي ذو الجلال الأكبر
تظنني جزيتها يا ابن عمر قال: لا، والله ولا زفرة واحدة. ولما كان ما ذكر في حق الوالدين عسراً جدّا يحذر من التهاون به أشار بقوله تعالى:
﴿ربكم﴾ أي: المحسن إليكم في الحقيقة فإنه هو الذي عطف عليكم من يربيكم وهو الذي أعانهم على ذلك ﴿أعلم﴾ أي: من كل أحد ﴿بما في نفوسكم﴾
بالإجرام الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن، وبالعمل الكفر والمعاصي العظام.
﴿قل﴾ أي: لهم ﴿يجمع بيننا ربنا﴾ أي: يوم القيامة ﴿ثم يفتح﴾ أي: يحكم ﴿بيننا بالحق﴾ أي: الأمر الثابت الذي لا يقدر أحد منا ولا منكم على التخلف عنه وهو العدل والفضل من غير ظلم ولا ميل، فيدخل المحقين الجنة والمبطلين النار ﴿وهو الفتاح﴾ أي: الحاكم الفاصل في القضايا المغلقة البليغ الفتح لما انغلق فلا يقدر أحد على فتحه ﴿العليم﴾ أي: البليغ العلم بكل دقيق وجليل فلا تخفى عليه خافية.
﴿قل﴾ أي: لهم ﴿أروني﴾ أي: أعلموني ﴿الذين ألحقتم به﴾ أي: بالله ﴿شركاء﴾ أي: في العبادة هل يخلقون وهل يرزقون وقوله تعالى: ﴿كلا﴾ أي: لا يخلقون ولا يرزقون ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة كما قال إبراهيم عليه السلام ﴿أف لكم ولما تعبدون من دون الله﴾ (الأنبياء: ٦٧)
بعدما حجهم وقد نبه على تفاحش غلطهم بقوله تعالى: ﴿بل هو الله العزيز﴾ أي: الغالب على أمره الذي لا مثل له وكل شيء يحتاج إليه ﴿الحكيم﴾ أي: المحكم لكل ما يفعله فلا يستطيع أحد نقض شيء منه فكيف يكون له شريك، وأنتم ترون ما ترون له من هاتين الصفتين المنافيتين لذلك.
تنبيه: في هذا الضمير وهو «هو» قولان: أحدهما: أنه عائد إلى الله تعالى أي: ذلك الذي ألحقتم به شركاء هو الله والعزيز الحكيم صفتان. والثاني: أنه ضمير الأمر والشأن والله مبتدأ، والعزيز الحكيم خبر إن والجملة خبر هو.
فإن قيل: ما معنى قوله ﴿أروني﴾ وكان يراهم ويعرفهم أجيب: بأنه أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله تعالى وأن يقاس على أعينهم فيه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به.
ولما بين تعالى مسألة التوحيد شرع في الرسالة بقوله سبحانه وتعالى:
﴿وما أرسلناك﴾ أي: بعظمتنا ﴿إلا كافة للناس﴾ أي: إرسالاً عاماً شاملاً لكل ما شمله إيجادنا فكأنه حال من الناس قدم للاهتمام، وقول البيضاوي: ولا يجوز جعلها حالاً من الناس أي: لأن تقديم حال المجرور عليه كتقديم المجرور على الجار رده أبو حيان بقوله: هذا ما ذهب إليه الجمهور وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان وابن ملكون إلى جوازه وهو الصحيح انتهى. وهذا هو الذي ينبغي اعتماده ويؤيده قوله ﷺ «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» ومن أمثلة أبي علي: زيد خير ما يكون خير منك والتقدير: زيد خير منك خير ما يكون وأنشد:
*إذا المرء أعيته المطالب ناشئاً | فمطلبها كهلاً عليه شديد* |
*تسليت طراً عنكم بعد بينكم | بذكراكم حتى كأنكم عندي* |
وقيل: إن كافة صفة لمصدر محذوف تقديره: إلا إرسالة كافة قال الزمخشري: إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم قال أبو حيان: أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر
الواجب ا. هـ. ثم قال تعالى محذراً من الاغترار بالتسويف في أوقات السلامة: ﴿من قبل أن يأتي أحدكم الموت﴾ أي: يرى دلائله وأماراته وكل لحظة مرّت فهي دلائله وأماراته. قال القرطبي: وهذا دليل على وجوب تعجيل إخراج الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلاً، أي: بلا عذر، وكذا سائر العبادات إذا دخل وقتها. وقال الرازي: وبالجملة فقوله تعالى: ﴿لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله﴾ تنبيه على المحافظة على الذكر قبل الموت، وقوله تعالى: ﴿وأنفقوا مما رزقناكم﴾ تنبيه على الشكر كذلك.
ولما كانت الشدّة تقتضي الإقبال إلى الله تعالى سبب عن ذلك قوله تعالى: ﴿فيقول﴾ أي: سائلاً في الرجعة، وأشار إلى ترقيقها للقلوب بقوله: ﴿رب لولا﴾ أي: هلا ولم لا ﴿أخرتني﴾ أي: أخرت موتي إمهالاً ﴿إلى أجل﴾ أي: زمان، وقوله ﴿قريب﴾ بين به أن مراده استدراك ما فات ليس إلا، وقيل: لا زائدة ولو للتمني أي: لو أخرتني إلى أجل قريب ﴿فأصدّق﴾ أي: للتزوّد في سفري هذا الطويل الذي أنا مستقبله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت، فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل. وعنه: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها. وعنه: أنها نزلت في مانعي الزكاة، ووالله لو رأى خيراً ما سأل الرجعة، فقيل له: أما تتقي الله يسأل المؤمنون الكرّة، قال: نعم أنا أقرأ عليكم قرآناً يعني: أنها نزلت في المؤمنين، وهم المخاطبون بها. وكذا عن الحسن: ما من أحد لم يزك، ولم يصم، ولم يحج إلا سأل الرجعة. وقال الضحاك: لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤدّ الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة، وعن عكرمة: نزلت في أهل القبلة.
وقيل: نزلت في المنافقين، ولهذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هذه الآية تدل على أنّ القوم لم يكونوا من أهل التوحيد، لأنه لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا والتأخير فيها أحد له عند الله تعالى خير في الآخرة، أي: إذا لم يكن بالصفة المتقدمة. قال القرطبي: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل لما يرى من الكرامة. وقرأ ﴿وأكون من الصالحين﴾ أي: العريقين في هذا الوصف بالتدارك أبو عمرو بواو بعد الكاف ونصب النون عطفاً على فأصدّق، والباقون بحذف الواو لالتقاء الساكنين وجزم النون.
واختلفت عبارات الناس في ذلك، فقال الزمخشري: عطفاً على محل فأصدّق، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. وقال ابن عطية: عطفاً على الموضع لأنّ التقدير: إن أخرتني أصدّق وأكن، هذا مذهب أبي عليّ الفارسي. وقال القرطبي: عطفاً على موضع الفاء لأنّ قوله: ﴿فأصدّق﴾ لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً، أي: أصدّق.
ثم زاد تعالى في الحث على المبادرة بالطاعات قبل الفوات بقوله تعالى مؤكداً لأجل عظم الرجاء من هذا المحتضر بالتأخير عاطفاً على ما، تقديره: فلا يؤخره الله فيفوته ما أراد:
﴿ولن يؤخر الله﴾ أي: الملك الأعظم الذي لا كفء له فلا اعتراض عليه ﴿نفساً﴾ أيّ نفس كانت، وحقق الأجل بقوله تعالى: ﴿إذا جاء أجلها﴾ أي: وقت موتها الذي حدّه الله تعالى لها فلا يؤخر الله تعالى نفس هذا القائل، لأنها من جملة النفوس التي شملها النفي.
وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية بعد تحقيق الأولى، ولهما أيضاً إبدالها ألفاً، والباقون بتحقيقهما ﴿والله﴾ أي: الذي له الإحاطة الشاملة علماً وقدرة ﴿خبير﴾ أي: