يفقهون} أي: لا يقاربون أن يفهموا ﴿حديثاً﴾ يوعظون به وهو القرآن؛ لأنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أنّ الكل من عند الله، أو حديثاً ما يلقى إليهم كبهائم لا أفهام لهم، وما استفهام تعجب من فرط جهلهم ونفي مقاربة الفعل أشدّ من نفيه.
﴿ما أصابك﴾ أي: أيها الإنسان ﴿من حسنة﴾ أي: نعمة دنيوية أو أخروية ﴿فمن الله﴾ أتتك تفضلاً منه والإيمان أحسن المحسنات، قال الإمام: إنهم اتفقوا على أنّ قوله: ﴿ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله﴾ (فصلت، ٣٣)
المراد به كلمة الشهادة ﴿وما أصابك من سيئة﴾ أي: بلية وأمر تكرهه ﴿فمن نفسك﴾ أتتك حيث ارتكبت ما يستوجبها من الذنوب.
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: ﴿قل كل من عند الله﴾ وبين قوله ﴿فمن نفسك﴾ ؟ أجيب: بأنّ قوله: ﴿قل كل من عند الله﴾ أي: الخصب والجذب والنصر والهزيمة كلها من عند الله وقوله: ﴿فمن نفسك﴾ أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك كما قال تعالى: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم﴾ (الشورى، ٣٠)، وقيل: إنّ هذه الآية متصلة بما قبلها، والقول فيه مضمر تقديره: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً يقولون: ﴿ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك قل كل من عند الله﴾ ﴿وأرسلناك﴾ يا محمد ﴿للناس﴾ أي: كافة وقوله تعالى: ﴿رسولاً﴾ حال قصد بها التأكيد ﴿وكفى با شهيداً﴾ على إرسالك بنصب المعجزات، ولما قال النبيّ ﷺ «من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله» فقال بعض المنافقين: ما يريد هذا الرجل إلا أن تتخذوه رباً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم» نزل.
﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ لأنه في الحقيقة مبلغ والآمر هو الله تعالى ﴿ومن تولى﴾ أي: أعرض عن طاعتك فلا يهمنك ﴿فما أرسلناك﴾ يا محمد ﴿عليهم حفيظاً﴾ أي: حافظاً لأعمالهم وتحاسبهم عليها إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب فنجازيهم، وهذا قبل الأمر بالقتال.
﴿ويقولون﴾ أي: المنافقون إذا أمرتهم بشيء من أمرنا وهم بحضرتك ﴿طاعة﴾ أي: أمرنا وشأننا طاعة أي: نطيعك فيما تأمرنا به ﴿فإذا برزوا﴾ أي: خرجوا ﴿من عندك بيت طائفة منهم﴾ أي: أضمرت ﴿غير الذي تقول﴾ لك في حضورك من الطاعة أي: عصتك، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الطاء فإنها عندهما ساكنة أي: التاء فإذا سكنت التاء قبل الطاء وجب إدغامها فيها، والباقون بالإظهار فإن التاء عندهم مفتوحة ﴿وا يكتب﴾ أي: يأمر بكتب ﴿ما يبيتون﴾ أي: ما يسرون من النفاق في صحائفهم ليجازوا عليها ﴿فأعرض عنهم﴾ أي: قلل المبالاة بهم ﴿وتوكل على الله﴾ أي: ثق به فإنه كافيك معرتهم وينتقم لك منهم ﴿وكفى با وكيلاً﴾ أي: مفوّضاً إليه.
﴿أفلا يتدبرون﴾ أي: يتأمّلون ﴿القرآن﴾ وما فيه من المعاني البديعة ﴿ولو كان من عند غير الله﴾ أي: ولو كان من كلام البشر كما زعم الكفار ﴿لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ أي: تناقضاً في معانيه وتبايناً في نظمه، فكان بعضه فصيحاً وبعضه ركيكاً وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل وتخلفاً عن الصدق في الإخبار عن الغيب بما كان وما يكون، أفلا يتفكرون فيه؟ فيعرفون عدم التناقض فيه وصدق ما يخبرهم به إنه كلام الله ولأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن تناقض واختلاف، والمراد من التقييد بالكثير المبالغة في إثبات الملازمة أي: لو كان من عند غير الله للزم أن يكون فيه اختلاف كثير فضلاً عن
ما يقترحون من الآيات. ولما نازع القوم رسول الله ﷺ وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد، أمّا الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد، وأمّا الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوّة فبيّن تعالى أنّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج عن الإيمان والدخول في الكفر بقوله تعالى:
﴿وإذ﴾ أي: واذكر إذ ﴿قلنا﴾ بما لنا من العظمة التي لا ينقض مرادها ﴿للملائكة﴾ حين خلقنا أباك آدم وفضلناه ﴿اسجدوا لآدم﴾ أي: امتثالاً لأمري ﴿فسجدوا إلا إبليس﴾ أي: أبى أن يسجد لكونه ممن حقت عليه الكلمة ولم ينفعه ما يعلمه من قدرة الله وعظمته وذلك معنى قوله تعالى: ﴿قال﴾ أي: منكراً متكبراً ﴿أأسجد﴾ أي: خضوعاً ﴿لمن خلقت﴾ حال كون أصله ﴿طيناً﴾ فكفر بنسبته لنا إلى الجور متخيلاً أنه أفضل من آدم عليه السلام من حيث أن الفروع ترجع إلى الأصول وأن النار التي هي أصله أكرم من الطين الذي هو أصل آدم وذهب عنه أن الطين أنفع من النار وعلى تقدير التنزل فالجواهر كلها من جنس واحد والله تعالى هو الذي أوجدها من العدم يفضل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض. وقد ذكر الله تعالى هذه القصة في سبع سور وهي البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدّم في البقرة ولعل هذه القصة إنما كررت تسلية للنبيّ ﷺ فإنه كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه فكأنه تعالى يقول ألا ترى أن أول الأنبياء هو آدم عليه السلام ثم أنه كان في محنة شديدة من إبليس وأنّ الكبر والحسد كل منهما بلية عظيمة ومحنة عظيمة للخلق وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفاً ولم يدخل ورش وابن كثير بينهما ألفاً ولورش أيضاً إبدال الثانية ألفاً، وإذا وقف حمزة سهل الثانية كقراءة ابن كثير وقرأ هشام بالتحقيق في الثانية والتسهيل وإدخال ألف بينهما. وقرأ الباقون بتحقيقهما بلا إدخال. ولما أخبر تعالى بتكبره كان كأنه قيل أن هذه الوقاحة عظيمة واجتراء على الجناب الأعلى فهل كان منه غير ذلك قيل:
﴿قال أرأيتك﴾ أي: أخبرني وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش وجه ثان وهو أن يبدلها ألفاً وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق. ﴿هذا الذي كرّمت عليّ﴾ لم كرّمته عليّ مع ضعفه وقويّ فكأنه قيل لقد أتى بالغاية في إساءة الأدب فما كان بعد هذا فقيل: قال مقسماً لأجل استبعاد أن يجترئ أحد هذه الجراءة على الملك الأعلى: ﴿لئن أخرتن﴾ أي: أيها الملك الأعلى تأخيراً ممتدًّا. ﴿إلى يوم القيامة﴾ حياً متمكناً وجواب القسم الموطأ له باللام. ﴿لأحتنكنّ﴾ أي: بالإغواء ﴿ذريته﴾ أي: لاستولين عليهم استيلاء من جعل في حنك الدابة الأسفل حبلاً يقودها به فلا تأبى عليه. وقرأ نافع وأبو عمرو بزيادة ياء بعد النون في أخرتني عند الوصل وحذفها في الوقف، وأثبتها ابن كثير وصلاً ووقفاً وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً اتباعاً للرسم.
ولما علم أنه لا يقدر على الجميع قال: ﴿إلا قليلاً﴾ وهم أولياؤك الذين حفظتهم مني كما قال تعالى: ﴿إن عبادي ليس لك عليهم سلطان﴾ (الحجر، ٤٢)
. فإن قيل: كيف ظنّ إبليس هذا الظنّ الصادق بذرية آدم؟ أجيب: بأوجه الأوّل: أنه سمع الملائكة يقولون ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء﴾
ضرب مثلاً للمؤمن والكافر، وقوله تعالى: ﴿ومن كل﴾ أي: الملح والعذب ﴿تأكلون﴾ أي: من السمك المنّوع إلى أنواع تفوت الحصر ﴿لحماً طرياً﴾ أي: شهي المطعم ﴿وتستخرجون﴾ أي: من الملح دون العذب ﴿حلية تلبسونها﴾ أي: نساؤكم من الجواهر الدر والمرجان وغيرهما، ذكر استطراداً في صفة البحرين وما فيهما من النعم وتمام التمثيل، والمعنى: كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو مقصود بالذات من الماء فإنه خالط أحدهما ما أفسده، وغيره عن كمال فطرته فلا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصة العظمة وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر.
وقيل: تخرج الحلية منهما كما هو ظاهر قوله تعالى ﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ (الرحمن: ٢٢)
قال البغوي: لأنه قد يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك انتهى.
فائدة: عاب المبرد وغيره قول الشافعي رضي الله تعالى عنه: كل ماء من بحر عذب أو مالح فالتطهر به جائز وقالوا: إنه لحن وإنما يقال: ملح كما قال تعالى ﴿وهذا ملح أجاج﴾ وهم مخطئون في ذلك كما قيل:
*وكم من عائب قولاً صحيحاً | وآفته من الفهم السقيم* |
*ولكن تأخذ الآذان منه | على قدر القريحة والفهوم* |
*ولو تفلت في البحر والبحر مالح | لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا* |
*وللرزق أسباب تروح وتغتدي | وإني منها غير غاد ورائح* |
*قنعت بثوب العدم من حلة الغنى | ومن بارد عذب زلال بمالح* |
*تلونت ألواناً علي كثيرة | وخالط عذباً من إخائك مالح* |
*ولو وردت ماء وكانت قبيله | مليحاً شربنا ماءه بارداً عذباً* |
وثاني الأجوبة: أن الشافعي إمام في اللغة فقوله فيها حجة.
وثالثها: أن هذه اللفظة ليست من كلام الشافعي ولم يذكرها بل من كلام المزني وهذا ليس بشيء، وكيف ينسب الخطأ إلى المزني وعنه مندوحة، وقولهم: لم يذكرها الشافعي غير صحيح وقد أنكره البيهقي وقال: بل سمى الشافعي البحر مالحاً في كتابين «أمالي الحج» و «المناسك الكبير».
فائدة أخرى: وهي أن ابن عمر قال في البحر: التيمم أحب إلينا منه وقال: بحركم هذا نار وتحت النار
العامل، وإليه ذهب أبو البقاء كأنه قيل: أسكنوهن من وسعكم.
﴿ولا تضاروهن﴾ أي: حال السكنى في المساكن ولا في غيره ﴿لتضيقوا عليهن﴾ حتى تلجؤهن إلى الخروج ﴿وإن كن﴾ أي: المطلقات ﴿أولات حمل﴾ أي: من الأزواج من طلاق بائن أو رجعي ﴿فأنفقوا عليهن﴾ وإن مضت الأشهر ﴿حتى يضعن حملهن﴾ فيخرجن من العدة، وهذا يدل على اختصاص استحقاق النفقة بالحامل من المعتدات البوائن والأحاديث تؤيده.
قال القرطبي: اختلف العلماء في المطلقة ثلاثاً على ثلاثة أقوال: فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة، ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس قالت: «دخلت إلى رسول الله ﷺ ومعي أخو زوجي، فقلت: إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة، قال: بل لك السكنى والنفقة، فقال: إن زوجها طلقها ثلاثاً فقال ﷺ إنما السكنى والنفقة لمن له عليها رجعة» فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك فإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد فقال: يا شعبي اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة، فقلت: لا أرجع عن شيء. حدثتني فاطمة بنت قيس عن رسول الله ﷺ ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي ﷺ أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم.
وأجيب عن ذلك: بما روت عائشة أنها قالت: كانت فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها، وقال سعيد بن المسيب: إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على إحمائها، وقال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكن إلا للرجعية لقوله تعالى: ﴿لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً﴾ (الطلاق: ١)
وقوله تعالى: ﴿أسكنوهن﴾ راجع لما قبله وهي المطلقة الرجعية ﴿فإن أرضعن لكم﴾ أي: بعد انقضاء علقة النكاح ﴿فآتوهن أجورهن﴾ أي: على ذلك الإرضاع وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم تبن، ويجوز عند الشافعي مطلقاً وقوله تعالى: ﴿وائتمروا﴾ خطاب للأزواج والزوجات، أي: ليأمر بعضكم بعضاً في الإرضاع والأجر فيه وغير ذلك، وليقبل بعضكم أمر بعض.
وقال الكسائي: ائتمروا تشاوروا، وتلا قوله تعالى: ﴿إن الملأ يأتمرون بك﴾ (القصص: ٢٠)
وأنشد قول امرىء القيس:
*ويعدو على المرء ما يأتمر
وزادهم رغبة في ذلك بقوله تعالى: ﴿بينكم﴾ أي: إن هذا الخير لا يعدوكم، وأكد ذلك بقوله تعالى: ﴿بمعروف﴾ ونكره سبحانه تخفيفاً على الأمة بالرضى بالمستطاع، وهو يكون مع الأخلاق بالاتصاف، ومع النفس بالخلاف ﴿وإن تعاسرتم﴾ أي: طلب كل منكم ما يعسر على الآخر، كأن طلبت المرأة الأجرة وطلب الزوج إرضاعها مجاناً ﴿فسترضع له﴾ أي: الأب ﴿أخرى﴾ أي: مرضعة غير الأم ويغني الله تعالى عنها، وليس له أن يكرهها على ذلك، نعم إذا لم يقبل ثدي غيرها أو لم يوجد غيرها أجبرت على ذلك بالأجرة، وهذا الحكم لا يختص بالمطلقة بل المنكوحة كذلك.
واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد، فقال مالك: رضاع الولد على الزوجة مادامت الزوجية إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه حينئذٍ في ماله، وقال أبو حنيفة: لا يجب على الأم بحال، وقيل: يجب