مواطأة قلوبكم ألسنتكم ﴿فمنّ الله عليكم﴾ أي: بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين ﴿فتبينوا﴾ أي: وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم ولا تبادروا إلى قتلهم ظناً إنهم دخلوا اتقاءً وخوفاً، فإن بقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل امرىء مسلم، وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر بالتبيين وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم ﴿إنّ الله كان﴾ ولم يزل ﴿بما تعملون خبيراً﴾ أي: عالماً به وبالغرض منه فيجازيكم به فلا تتساهلوا في القتل واحتاطوا فيه.
﴿لا يستوي القاعدون﴾ أي: عن الجهاد حال كونهم ﴿من المؤمنين﴾ روي أن زيد بن ثابت أخبر أنّ رسول الله ﷺ أملى عليه لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله، فجاءه ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلاً أعمى، فأنزل الله تعالى على رسوله ﷺ وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي أي: تكسر ثم سرّي عنه أي: أزيل وكشف ما به من برحاء الوحي ﴿غير أولى الضرر﴾ أي: من زمانة أو عمى أو نحوه فقال: اكتب (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر)، وقرأ نافع وابن عامر والكسائيّ بنصب الراء على الحال من القاعدين أو الاستثناء، والباقون بالرفع صفة للقاعدين؛ لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم بل أراد به الجنس كما في قوله:
*ولقد أمر على اللئيم يسبني*
فصح جعل غير صفة للقاعدين ﴿والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم﴾ أي: لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة.
تنبيه: فائدة ذكر قوله تعالى: ﴿لا يستوي القاعدون﴾ إلخ.. تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعاً لرتبته واتقاء عن انحطاط منزلته.
وروي أنه ﷺ قال لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال: «إنّ في المدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه» قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة قال: «نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر» ﴿فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين﴾ لضرر ﴿درجة﴾ أي: فضيلة لاستوائهما في النية وزيادة المجاهد بالمباشرة ﴿وكلاً﴾ من القاعدين لضرر والمجاهدين ﴿وعد الله الحسنى﴾ أي: الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضى لمزيد الثواب ﴿وفضل الله المجاهدين على القاعدين﴾ لغير ضرر ﴿أجراً عظيماً﴾ ويبدل منه.
﴿درجات منه﴾ أي: منازل بعضها فوق بعض من الكرامة، وقوله تعالى: ﴿ومغفرة ورحمة﴾ منصوبان بفعلهما المقدر ﴿وكان الله﴾ أي: ولم يزل ﴿غفوراً﴾ لأوليائه ﴿رحيماً﴾ بأهل طاعته.
وروى أبو سعيد الخدري أنّ رسول الله ﷺ قال: «يا أبا سعيد من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وجبت له الجنة» قال: فعجب بها أبو سعيد فقال: أعدها يا رسول الله ففعل فقال رسول الله ﷺ «وأخرى يرفع الله بها العبد مئة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» فقال: وما هي يا رسول الله قال: «الجهاد في سبيل الله» وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» قالوا: يا رسول الله أفلا ننذر الناس بذلك؟ فقال: «إنّ في الجنة مئة درجة
حتى استلم الحجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي أنّ قريشاً قالوا له: اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت: ﴿وإن كادوا ليفتنونك﴾. ﴿عن الذي أوحينا إليك﴾ من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا ﴿لتفتري﴾ أي: لتقول ﴿علينا غيره﴾ أي: ما لم نقله ﴿وإذاً﴾ أي: لو ملت إلى ما دعوك إليه ﴿لاتخذوك﴾ أي: بغاية الرغبة ﴿خليلاً﴾ أي: لوالوك وصافوك وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراض بشركهم ومن يكن خليل الكفار لم يكن خليل الله تعالى، ولكنك أبصرت رشدك فلزمت أمر الله واستمروا على عماهم إتماماً لتفضيلنا لك على كل مخلوق.
﴿ولولا أن ثبتناك﴾ أي: على الحق بعصمتنا إياك ﴿لقد كدت﴾ أي: قاربت ﴿تركن﴾ أي: تميل ﴿إليهم﴾ أي: إلى الأعداء ﴿شيئاً﴾ أي: ركونا ﴿قليلاً﴾ لمحبتك في هدايتهم وحرصك على منفعتهم ولكنا عصمناك فمنعناك أن تقرب من الركون فضلاً من أن تركن إليهم لأنّ كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره تقول لولا زيد لهلك عمرو ومعناه أنّ وجود زيد منع من حصول الهلاك لعمرو فكذلك ههنا قوله تعالى: ﴿ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم﴾ معناه لولا حصل تثبيت الله لمحمد ﷺ فكان تثبيت الله مانعاً من حصول قرب الركون وهذا صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم مع قوّة الداعي إليها ودليل على أنّ العصمة بتوفيق الله وحفظه.
﴿إذاً﴾ أي: لو قاربت الركون الموصوف إليهم ﴿لأذقناك ضعف﴾ عذاب ﴿الحياة وضعف﴾ عذاب ﴿الممات﴾ أي: مثلي ما يعذب غيرك في الدنيا والآخرة وكان أصل الكلام عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ثم أضيفت كما يضاف موصوفها وقيل المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة وضعف الممات عذاب القبر، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعمة الله تعالى في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى: ﴿يا نساء النبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين﴾ (الأحزاب، ٣٠)
وقيل الضعف من أسماء العذاب ﴿ثم لا تجد لك﴾ أي: وإن كنت أعظم الخلق وأعلاهم مرتبة وهمة ﴿علينا نصيراً﴾ أي: مانعاً يمنعك من عذابنا. واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى:
﴿وإن﴾ أي: وإن هم ﴿كادوا﴾ أي: الأعداء ﴿ليستفزونك﴾ أي: ليزعجونك بمعاداتهم ﴿من الأرض ليخرجوك منها﴾ فقال ابن عباس: إنّ رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم، فقالوا: يا أبا القاسم إنّ الأنبياء إنما بعثوا بالشأم وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك وأتبعناك، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله يمنعك منهم فعسكر رسول الله ﷺ على أميال من المدينة وقيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام فيدخلون في دين الله فنزلت هذه الآية فرجع وهذا قول الكلبيّ وعلى هذا فالآية مدنية والمراد بالأرض أرض المدينة.
وقال قتادة ومجاهد: الأرض أرض مكة والآية مكية، همّ المشركون أن يخرجوا رسول الله ﷺ من مكة فكفهم الله تعالى عنه حتى أمره
ووجه الاستدلال بذلك: أن الطير دال على المحذوف وهو مفعول لمؤمن والعائذات الطير، قال أبو حيان: وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد، ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك، ورد عليه بأن هذا ليس هو التأكيد المختلف في حذف مؤكده؛ لأن هذا من باب الصفة والموصوف ومعنى تسميه الزمخشري له توكيداً من حيث إنه لا يفيد معنى زائداً وإنما يفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون، والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول توكيداً فقالوا: وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو قوله تعالى ﴿نفخة واحدة﴾ (الحاقة: ١٣)
و ﴿إلهين اثنين﴾ (النحل: ٥١)
والتوكيد المختلف في حذف مؤكده، إنما هو في باب التوكيد الصناعي، ومذهب سيبويه جوازه، وقال ابن عادل: والأولى فيه أن يسمى توكيداً لفظياً إذ الأصل سود غرابيب سود.
ولما ذكر تعالى ما الأغلب فيه الماء مما استحال إلى أمر آخر بعيد من الماء وأتبعه التراب الصرف ختم بما الأغلب فيه التراب مما استحال إلى ما هو في غاية البعد من التراب فقال:
﴿ومن الناس والدواب﴾ ولما كانت الدابة في الأصل اسماً لما دبَّ على الأرض ثم غلب إطلاقه على ما يركب قال: ﴿والأنعام﴾ ليعم الكل صريحاً ﴿مختلف ألوانه﴾ أي: ألوان ذلك البعض الذي أفهمته من ﴿كذلك﴾ أي: مثل الثمار والأراضي منه ما هو ذو لون ومنه ما هو ذو لونين أو أكثر.
ولما قال تعالى ﴿ألم تر﴾ بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعه وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه وعلى صفاته من أنه فاعل بالاختيار فهو يفعل ما يشاء قال تعالى: ﴿إنما يخشى الله﴾ أي: الذي له جميع صفات الكمال ﴿من عباده العلماء﴾ قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني، فالخشية بقدرة معرفة المخشي، والعالم يعلم الله فيخافه ويرجوه، وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد لقوله تعالى: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (الحجرات: ١٣)
بين تعالى أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم لا بقدر العمل، فمن ازداد منه علماً ازداد منه خشية وخوفاً، ومن كان علمه به أقل كانت خشيته أقل، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية» وقال ﷺ «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً».
وقال مسروق: كفى بالمرء علماً أن يخشى، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله، وقال رجل للشعبي: أفتني أيها العالم فقال له: العالم من خشي الله تعالى، قال السهروردي في الباب الثالث من معارفه: فينتفي العلم عمن لا يخشى الله تعالى كما إذا قال إنما يدخل الدار بغدادي فينتفي دخول غير البغدادي الدار، وقيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى أثرت فيه، فإن قيل: هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ أجيب: بأنه يختلف فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى إن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، فإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله كقوله تعالى ﴿ولا يخشون أحداً إلا الله﴾ (الأحزاب: ٣٩)
وهما معنيان مختلفان.
تنبيه: رسم العلماء بالواو وقوله تعالى ﴿إن الله﴾ أي: المحيط بالجلال والإكرام ﴿عزيز﴾ أي:
يضاف إلى النبي ﷺ ﴿تبتغي﴾ أي: تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك ﴿مرضاة أزواجك﴾ أي: الأحوال والأمور والمواضع التي يرضين بها، وهن أولى بأن يبتغين رضاك، وكذا جميع الخلق لتتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد ﴿والله﴾ أي: الملك الأعلى ﴿غفور رحيم﴾ أي: محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم، فقد غفر لك هذا التحريم.
ثم علل وبين ذلك بقوله تعالى: ﴿قد فرض الله﴾ أي: قدر ذو الجلال والإكرام الذي لا شريك له ولا أمر لأحد معه، وعبر بالفرض حثاً على قبول الرخصة إشارة إلى أن ذلك لا يقدح في الورع، ولا يخل بحرمة اسم الله تعالى لأن أهل الهمم العوالي لا يجوزون النقلة من عزيمة إلى رخصة، بل من رخصة إلى عزيمة أو عزيمة إلى مثلها.
ولما كان التخفيف على أمته تعظيماً له ﷺ قال تعالى: ﴿لكم﴾ أيتها الأمة التي أنت رأسها ﴿تحلة﴾ أي: تحليل ﴿أيمانكم﴾ بالكفارة المذكورة في سورة المائدة، وقيل: قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك: حلل فلان في يمينه إذا استثنى بمعنى استثن في يمينك إذا أطلقتها بأن تقول: إن شاء الله متصلاً بحلفك، وتنويه قبل الفراغ منه.
واختلف أهل العلم في لفظ التحريم، فقال قوم: هو ليس بيمين، فإن قال لزوجته: أنت حرام أو حرّمتك فإن نوى به طلاقاً فهو طلاق، وإن نوى به ظهاراً فهو ظهار، وإن نوى تحريم ذاتها وأطلق فعليه كفارة يمين وإن قال لطعام: حرمته على نفسي فلا شيء عليه، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه، وإليه ذهب الشافعي.
وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراماً، فقال: كذبت ليست عليك بحرام وتلا عليه هذه الآية. وذهب جماعة إلى أنه يمين فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب الكفارة ما لم يقربها، كما لو حلف لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكله، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة.
وعند أبي حنيفة إن نوى الطلاق بالحرام كان بائناً، وإن قال: كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، نقله الزمخشري. وعن عمر: إذا نوى الطلاق فرجعي، وعن علي: ثلاث، وعن زيد واحدة بائنة.
وعن ابن عباس رصي الله عنهما قال: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. قال مقاتل: فأعتق رسول الله ﷺ في هذه الواقعة رقبة. قال زيد بن أسلم: وعاد إلى مارية، وقال الحسن: لم يكفر عليه السلام لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة. قال ابن عادل: والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي ﷺ ثم الأمة تقتدي به في ذلك ﴿والله﴾ أي: والحال أن المختص بأوصاف الكمال ﴿مولاكم﴾ أي: يفعل معكم فعل القريب الصديق فهو سيدكم ومتولي أموركم ﴿وهو﴾ أي: وحده ﴿العليم﴾ أي: البالغ العلم بمصالحكم وغيرها إلى ما لا نهاية له. ﴿الحكيم﴾ أي: الذي يضع كل ما يصدر عنه لكم في أتقن محاله بحيث لا يقدر غيره أن يغيره ولا شيئاً منه.
والعامل في قوله تعالى: ﴿وإذ﴾ اذكر فهو مفعول به لا ظرف، والمعنى اذكر إذ ﴿أسرّ النبي﴾ أي: الذي شأنه أن يرفعه الله تعالى دائماً فإنه ما ينطق عن الهوى ﴿إلى بعض أزواجه﴾ وأبهمها لم يعينها تشريفاً له ﷺ ولها وهي حفصة صيانة لهن