اللهمّ أنج المستضعفين من المسلمين، اللهمّ اشدد وطأتك على مضر، اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف».
﴿ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً﴾ أي: متحوّلاً يتحوّل إليه، وقيل: طريقاً يراغم بسلوكه قومه أي: يفارقهم على رغم أنوفهم مأخوذ من الرغام، والرغم الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك ﴿و﴾ يجد ﴿سعة﴾ في الرزق كما قال ﷺ «صوموا تصحوا وسافروا تغنموا» أخرجه الطبرانيّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه «واغزوا تغنموا وهاجروا تفلحوا» ولما سمع هذه الآية رجل من بني قيس يقال له: جندب بن ضمرة قال: ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة اخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال: اللهمّ هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما يبايعك عليه رسولك فمات، قال التفتازانيّ: الظاهر أنّ هذه إشارة إلى اليمين وهذه إلى الشمال لا قصد إسناد الجارحة إلى الله تعالى بل على سبيل التصوير وتمثيل مبايعة الله تعالى على الإيمان والطاعة بمبايعة رسول الله ﷺ إياه، وقيل: إشارة إلى البيعة والصفقة، والمعنى: أن بيعته كبيعة رسول الله ﷺ لا بيعة كبيعة الناس فبلغ خبره أصحاب رسول الله ﷺ فقالوا: لو وافى المدينة كان أتمّ وأوفى أجراً وضحك المشركون وقالوا: ما أدرك هذا ما طلب فنزل ﴿ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت﴾ أي: في الطريق قبل مقصده ﴿فقد وقع أجره على الله﴾ أي: ثبت أجره عنده تعالى ثبوت الأجر الواجب تفضلاً منه ورحمة ﴿وكان الله غفوراً﴾ لتقصيره إن كان ﴿رحيماً﴾ يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات.
ولما أوجب الله السفر للجهاد والهجرة وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله تعالى:
﴿وإذا ضربتم﴾ أي: سافرتم ﴿في الأرض﴾ سفراً طويلاً لغير معصية، والطويل عند الشافعيّ رحمه الله تعالى أربعة برد وهي مرحلتان كما ثبت ذلك بالنسبة، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثلاثة أيام ولياليهنّ بسير الإبل ومشي الأقدام على القصد، وقوله تعالى: ﴿فليس عليكم جناح﴾ أي: إثم وميل في ﴿أن تقصروا من الصلاة﴾ أي: من أربع إلى ركعتين، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء يدل على جواز القصر دون وجوبه، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتم في السفر كما رواه الشافعيّ وغيره.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: اعتمرت مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال: «أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ» رواه الدارقطني وحسنه البيهقيّ وصححه، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه: يتم ويقصر، وأوجب القصر أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، رواه النسائيّ وابن ماجة، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها: «أوّل ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر» رواه الشيخان.
فإن قيل: ظاهرهما يخالف الآية؟ أجيب: بأنّ
الغروب وهو قول ابن مسعود ونقله الواحدي في «البسيط» عن عليّ رضي الله عنه، وبه قال إبراهيم النخعي والضحاك والسدي وهو اختيار الفراء وكما يقال للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة يقال لها أيضاً إذا غربت دالكة لأنها في الحالين زائلة. قال الأزهري: والثالث أنه من الزوال إلى الغروب وقال في «القاموس» دلكت الشمس غربت أو اصفرّت أو مالت أو زالت عن كبد السماء فحينئذ في هذه اللفظة دلالة على الظهر والعصر والمغرب من استمعال المشترك في معانيه أمّا في الظهر والمغرب فواضح لما مرّ وأمّا العصر فلأنّ أول وقتها أوّل أخذ الشمس في الاصفرار وأدل دليل على ذلك أنه تعالى غيا الإقامة لوقت العشاء بقوله تعالى: ﴿إلى غسق الليل﴾ أي: ظلمته وهو وقت صلاة عشاء الآخرة والغاية أيضاً هنا داخلة لما سيأتي وقد أجمعوا على أنّ المراد من قوله تعالى: ﴿وقرآن الفجر﴾ أي: صلاة الصبح وهو منصوب قيل على الإغراء، أي: وعليك بقرآن الفجر ورد أسماء الأفعال لا تعمل مضمرة. وقال الفراء: أنه منصوب بالعطف على الصلاة في قوله تعالى: ﴿أقم الصلاة﴾ والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وحينئذٍ تدخل الصلوات الخمس في هذه الآية. قال ابن عادل كالرازي: وحمل كلام الله تعالى على ما يكون أكثر فائدة أولى انتهى.
وسميت صلاة الصبح قرآناً لاشتمالها عليه وإن كانت بقية الصلوات أيضاً مشتملة عليه لأنه يطوّل فيها في القراءة ما لا يطوّل في غيرها فالمقصود من قوله تعالى: ﴿وقرآن الفجر﴾ الحث على طول القراءة فيها أكثر من غيرها لأنّ التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره. ولما كان القيام عن المنام يشق علل مرغباً مظهراً غير مضمر لأنّ المقام مقام تعظيم فقال:
﴿إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً﴾ أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل، وأوّل ديوان النهار. قال الرازي: ثم أنّ ملائكة الليل إذا صعدت قالت: يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا إننا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول الله تعالى لملائكته: اشهدوا بأني قد غفرت لهم. وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً﴾ » وهذا يدل على أنّ التغليس أولى من التنوير لأنّ الإنسان إذا شرع فيها من أوّل الوقت ففي ذلك الوقت ظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرة ثم امتدّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار، وأمّا إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فقوله: ﴿كان مشهوداً﴾ يدل على أنّ التغليس أفضل، وأيضاً الإنسان إذا شرع في صلاة الصبح من أوّل هذا الوقت فكانت الظلمة القوية في العالم فإذا امتدّت القراءة ففي أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود، فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ومن السكون إلى الحركة، وهذه الحالة
العجيبة
المحفوظ يعني: الذي أوحينا من اللوح المحفوظ ﴿هو الحق﴾ أي: الكامل في الثبات ومطابقة الواقع، ويمكن أن يراد به القرآن وهو ما اقتصر عليه الجلال المحلي يعني: الإرشاد والتبيين اللذين أوحينا إليك من القرآن، ويمكن أن تكون من للتبعيض وهو فصل أو مبتدأ وقوله تعالى ﴿مصدقاً لما بين يديه﴾ أي: لما تقدمه من الكتب حال مؤكدة؛ لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق وهذا تقرير لكونه وحياً؛ لأن النبي ﷺ لما لم يكن قارئاً كاتباً وأتى ببيان ما في كتاب الله لا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى، فإن قيل: لم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن؟ أجيب: بأن القرآن كونه معجزة يكفي تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بد فيه من معجزة تصدقه.
تنبيه: قوله تعالى ﴿هو الحق﴾ آكد من قول القائل الذي أوحينا إليك حق من وجهين: أحدهما: أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور؛ لأن الخبر في الأكثر يكون نكرة. الثاني: أن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا: زيد قام فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً ولا يعلم قيامه فيخبر به، فإذا كان الخبر معلوماً فتكون الأخبار للنسبة فتعرف باللام كقولنا: إن زيداً العالم في هذه المدينة إذا كان علمه مشهوراً.
﴿إن الله﴾ أي: الذي له جميع صفات الكمال ﴿بعباده لخبير﴾ أي: عالم أدق العلم وأتقنه ببواطن أحوالهم ﴿بصير﴾ أي: بظواهر أمورهم وبواطنها أي: فهو يسكن الخشية والعلم في القلوب على قدر ما أوتوا من الكتاب في علمه، فأنت أحقهم بالكمال؛ لأنك أخشاهم وأتقاهم فلذلك آتيناك هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب، وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية وقوله تعالى:
﴿ثم أورثنا الكتاب﴾ في معناه وجهان: أحدهما: إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك أي: حكمنا بتوريثه أو قال تعالى ﴿أورثنا﴾ وهو يريد نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه وقال مجاهد: أورثنا أعطينا؛ لأن الميراث إعطاء واقتصر على هذا الجلال المحلي، وقيل: أورثنا أخرنا ومنه الميراث؛ لأنه تأخر عن الميت ومعناه: أخرنا القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له.
تنبيه: أكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن، وقيل: إن المراد جنس الكتاب ﴿الذين اصطفينا﴾ أي: اخترنا ﴿من عبادنا﴾ قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد بالعباد أمة محمد ﷺ أي: من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة، ونقل ابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الله تعالى أورث أمة محمد ﷺ كل كتاب أنزله أي: لأن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، وخصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسله تعالى، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله تعالى، ثم قسمهم بقوله تعالى: ﴿فمنهم ظالم لنفسه﴾ أي: في التقصير بالعمل به ﴿ومنهم مقتصد﴾ أي: يعمل به في أغلب الأوقات ﴿ومنهم سابق بالخيرات﴾ وهو من يضم إلى العمل به التعليم والإرشاد إلى العمل.
روى أسامة بن زيد في هذه الآية قال: قال رسول الله ﷺ «كلهم من هذه الأمة». وروى أبو عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا﴾ الآية
من اثنين جمعوهما لأنه لا يشكل، والأحسن في هذا الباب الجمع ثم الإفراد ثم التثنية كقوله:

*فتخالسا نفسيهما بتواقد ال غيظ الذي من شأنه لم يرفع*
وقال ابن عصفور: لا يجوز الإفراد إلا في ضرورة، كقوله:
*حمامة بطن الواديين ترنمي سقاك من الغر الغوادى مطيرها*
وتبعه أبو حيان، وغلط ابن مالك في كونه جعله أحسن من التثنية. قال ابن عادل: وليس بغلط لكراهة توالي تثنيتين مع أمن اللبس، وقوله تعالى ﴿إن تتوبا﴾ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمراد بهذا الخطاب إما المؤمنتان بنتا الشيخين الكريمين عائشة وحفصة حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله ﷺ فإنهما كرها ما أحبه رسول الله ﷺ من إحباب جاريته وإحباب العسل، وكان ﷺ يحب العسل والنساء.
وقال ابن زيد: مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله ﷺ وقيل: قد مالت قلوبكما إلى التوبة.
روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجع وكان ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضأ، فلما رجع قلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي ﷺ فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذه منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك»، وفي رواية قال: وا عجباً لك يا ابن عباس.
قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال: هما عائشة وحفصة، ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار وكان منزلي في بني أمية وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي ﷺ فينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك. وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فصحت على امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني قالت: لم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ﷺ ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت لها: أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي ﷺ اليوم حتى الليل، قالت: نعم، فقلت: قد خبت وخسرت أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله لا تراجعي رسول الله ﷺ ولا تسأليه شيئاً، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله ﷺ يريد عائشة رضي الله عنها قال عمر: كنا قد تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فنزل الأنصاري يوماً نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً، ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم، قلت: ما هو أجاء غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأهول، طلق النبي ﷺ نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون حتى إذا صليت


الصفحة التالية
Icon