تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا فيجتمع في موضع فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه فيسوقها الله حيث شاء، وإما من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء فتنعقد سحاباً ماطراً. ﴿فأخرج به من﴾ أنواع ﴿الثمرات رزقاً لكم﴾ تأكلونه وتعلفون منه دوابكم وخروجها بقدرة الله تعالى ومشيئته، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سبباً في إخراجها ومادّة لها كالنطفة للحيوان بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما، أو أبدع في الماء قوّة فاعلة وفي الأرض قوّة قابلة
يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار، وهو تعالى قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والموادّ، ولكن له في إنشائها مرتقياً من حال إلى حال صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبراً وسكوناً إلى عظيم قدرته ليس ذلك في إيجادها دفعة.
تنبيه: من الأولى للابتداء ومن الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى: ﴿فأخرجنا به ثمرات﴾ (فاطر، ٢٧) لأنّ ثمرات جمع قلة منكر واكتناف المنكرين لها أعني ماء ورزقاً كأنه تعالى قال: وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، وهذا التبعيض هو الموافق للواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ولا جعل بالمطر كل المرزوق، ويصح أن تكون من الثانية للتبيين ورزقاً مفعول وهو المبين بمعنى المرزوق كقول القائل: أنفقت من الدراهم ألفاً، فإن من الدراهم بيان لقوله عقبه ألفاً.
فإن قيل: المحلّ محلّ جمع الكثرة فكيف أتى بجمع القلة؟ أجيب: بأنّ الجموع يتناوب بعضها موقع بعض كقوله تعالى: ﴿كم تركوا من جنات﴾ (الدخان، ٢٥) وأوقع جمع القلة موقع جمع الكثرة بدليل ذكركم وكقوله تعالى: ﴿ثلاثة قروء﴾ (البقرة، ٢٣٨) فأوقع جمع الكثرة موضع جمع القلة لأن مميز الثلاثة لا يكون إلا جمع قلة أو لأنّ الثمرات لما كانت محلاة باللام خرجت عن حدّ القلة ﴿فلا تجعلوا أنداداً﴾ أي: شركاء في العبادة.
فإن قيل: لم سمي ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً مع أنهم ما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله؟ أجيب: بأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أنها تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير فتهكم الله تعالى بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أنداداً لمن يمتنع أن يكون له ندّ ولذلك قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه:

*أرباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور*
أدين أي: أطيع، من دان أي: انقاد، إذا تقسمت أي: تفرّقت:
*تركت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الرجل البصير*
*ألم تعلم بأن الله أفنى رجالاً كان شأنهم الفجور*
*وأبقى آخرين ببرّ قوم فيربو منهم الطفل الصغير*
وقوله تعالى: ﴿وأنتم تعلمون﴾ حال من ضمير ﴿فلا تجعلوا﴾ ومفعول تعلمون متروك، أي: وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي فلو تأمّلتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات منفرد بوجود الذات متعال عن مشابهة المخلوقات أو مقدّر وهو أنّ الأنداد لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله، كقوله تعالى: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء وعلى
راجعة إلى موسى، أي: فما آمن من قومه إلا طائفة من ذراري بني اسرائيل، كأنه قيل إلا أولاد قومه، وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون، وإجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل: راجعة إلى فرعون، والذرية: امرأته آسية ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته ﴿على خوف من فرعون وملئهم﴾ أي: خوف منه؛ لأنه كان شديد البطش، وكان قد أظهر العداوة مع موسى، وإذا علم ميل القوم إلى موسى، كان يبالغ في إيذائهم، فلهذا السبب كانوا خائفين منه ومن أشراف قومه، والضمير لفرعون وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظمة؛ لأنه ذو أصحاب يأتمرون به. وقيل: المراد بفرعون آله. كما يقال ربيعة ومضر. ﴿أن يفتنهم﴾ أي: يصرفهم ويصدّهم عن الإيمان ﴿وإنّ فرعون لعال﴾ أي: متكبر قاهر ﴿في الأرض﴾ أي: أرض مصر ﴿وإنه لمن المسرفين﴾ أي: المجاوزين الحدّ، فإنه كان من أخس العبيد وادّعى الربوبية، وكان كثير القتل والتعذيب لبني إسرائيل.
﴿وقال موسى﴾ لقومه ﴿يا قوم إن كنتم آمنتم بالله﴾ أي: صدقتم به وبآياته ﴿فعليه توكلوا﴾ أي: ثقوا به واعتمدوا عليه فإنه ناصر أوليائه ومهلك أعدائه ﴿إن كنتم مسلمين﴾ أي: مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له. وقيل: إن كنتم آمنتم بالقلب وأسلمتم بالظاهر.
﴿فقالوا﴾ مجيبين له ﴿على الله توكلنا﴾ أي: عليه اعتمدنا لا على غيره، ثم دعوا ربهم فقالوا ﴿ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين﴾ أي: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا.
﴿ونجنا﴾ أي: خلصنا ﴿برحمتك من القوم الكافرين﴾ أي: من أيدي قوم فرعون؛ لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مخلصين، لا جرم أنّ الله تعالى قبل توكلهم، وأجاب دعاءهم ونجاهم، وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في الأرض. وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أنّ الداعي ينبغي أن يتوكل أوّلاً لتجاب دعوته. ولما شرح الله تعالى خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر فيهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهارون عليهما السلام باتخاذ البيوت بقوله تعالى:
﴿وأوحينا إلى موسى وأخيه﴾ أي: الذي طلب مؤازرته ومعاضدته ﴿أن تبوّأا﴾ أي: اتخذا ﴿لقومكما بمصر بيوتاً﴾ تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة ﴿واجعلوا﴾ أنتما وقومكما ﴿بيوتكم﴾ أي: تلك البيوت ﴿قبلة﴾ مصلى أو مساجد كما في قوله تعالى: ﴿في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه﴾ (النور، ٣٦) موجهة نحو القبلة، أي: الكعبة، وكان موسى عليه السلام يصلي إليها. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتاً وبيوتكم برفع الباء، والباقون بالخفض ﴿وأقيموا الصلاة﴾ فيها ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً ثلاثة:
الأوّل: أنّ موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم ويؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أوّل الإسلام بمكة.
الثاني: أنه قيل: إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فوعون بتخريب مساجد بني اسرائيل ومنعهم من الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون.
الثالث: أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى
أصدقهم لهجة وأعظمهم أمانة وأغزرهم عقلاً وأعلاهم همة وأبعدهم عن كل ذي دنس.
﴿وإنّ ربك﴾ أي: المحسن إليك بكل ما يعلي شأنك ويوضح برهانك ﴿لهو العزيز﴾ فلا يعجزه أحد ﴿الرحيم﴾ بالإمهال لكي يؤمنوا أو أحد من ذرّيتهم: وهذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله ﷺ تهديداً للمكذبين له.
فإن قيل: كيف كرّر في هذا السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرّر؟.
أجيب: بأنّ كل قصة منها كتنزيل برأسه وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلي بحق على أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها وأن تختم بما ختمت به، ولأنّ في التكرير تقريراً للمعاني في الأنفس وتثبيتاً لها في الصدور، ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا بترديد ما يراد حفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان، ولأنّ هذه القصص طرقت بها آذان وقرعن الإنصات للحق وقلوب غلف عن تدبره فكوثرت بالوعظ والتذكير وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذناً أو يشق ذهناً أو يصقل عقلاً طال عهده بالصقل، أو يجلو فهماً قد غطى عليه تراكم الصدا وفي ذلك دلالة على أنّ البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرّب المدعو إلى ثوابه ويبعده عن عقابه، وأنّ الأنبياء متفقون على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع، مبرؤون عن المطامع الدينية والأغراض الدنيوية، ولما ذكر الله تعالى قصص الأنبياء عليهم السلام أتبعه بما يدلّ على نبوّته ﷺ بقوله تعالى.
﴿وإنه﴾ أي: الذكر الذي أتاهم بهذه الأخبار وهم عنه معرضون وله تاركون ﴿لتنزيل رب العالمين﴾ أي: الذي ربّاهم بشمول علمه وعظيم قدرته بما يعجز عن أقل شيء منه غيره.
﴿نزل به﴾ أي: نجوماً على سبيل التدريج من الأفق الأعلى الذي هو محل البركات، وعبر عن جبريل عليه السلام بقوله ﴿الروح﴾ دلالة على أنه مادّة خير، وأنّ الأرواح تحيا بما ينزله من الهدى وقال تعالى ﴿الأمين﴾ إشارة إلى كونه عليه السلام معصوماً من كل دنس فلا يمكن منه خيانة.
﴿على قلبك﴾ يا أشرف الرسل ففي هذا تقرير لحقية تلك القصص.
وتنبيه: على إعجاز القرآن ونبوة محمد ﷺ وأنّ الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحياً من الله تعالى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص بتخفيف الزاي، والروح الأمين برفعهما والباقون بتشديد الزاي والروح الأمين بنصبهما.
فإن قيل: قال على قلبك وهو إنما نزل عليه؟ أجيب: بأنه ذكر ليؤكد أن ذلك المنزل محفوظ والمرسول متمكن من قلبه لا يجوز عليه التغير ولأنّ القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار، وأمّا سائر الأعضاء فمسخرة له، ويدلّ على ذلك الكتاب والسنة والمعقول فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك﴾ واستحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب قال الله تعالى: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم﴾ (البقرة: ٢٢٥)
ومن السنة قوله: ﷺ «ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» ومن المعقول أنّ القلب إذا غشي عليه وقطع سائر الأعضاء لم يحصل به الشعور وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات وإذا فرح
النظر فيه.
﴿فأحبط﴾ أي: فلذلك تسبب عنه أنه أفسد.
﴿أعمالهم﴾ أي: الصالحة فأسقطها بحيث لم يبق لها وزن أصلاً لتضييع الأساس من مكارم الأخلاق؛ من القرى والأخذ بيد الضعيف والتصدّق والإعتاق وغير ذلك من وجوه الإرفاق.
﴿أم حسب الذين﴾ وكان الأصل أم حسبوا لضعف عقولهم كما أفهمه التعبير بالحسبان ولكنه عبر تعالى بما دلّ على الآفة التي أدّتهم إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿في قلوبهم﴾ أي: التي إذا أفسدت فسد جميع أجسادهم ﴿مرض﴾ أي: آفة لا طب لها حسباناً هو في غاية الثبات كما دل عليه التأكيد في قوله تعالى: ﴿أن لن يخرج الله﴾ أي يبرز من هو محيط بصفات الكمال للرسول ﷺ والمؤمنين على سبيل التجديد والاستمرار وقوله تعالى: ﴿أضغانهم﴾ جمع ضغن، وهي الأحقاد أي أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى تعرفوا نفاقهم وكانت صدورهم تغلي حنقاً عليهم.
﴿ولو نشاء لأريناكهم﴾ من رؤية البصر وجاء على الأفصح من اتصال الضميرين ولو جاء على أريناك إياهم جاز وقال الرازي الإراءة هنا بمعنى التعريف وقوله تعالى ﴿فلعرفتهم﴾ عطف على جواب لو ﴿بسيماهم﴾ أي: بسبب علاماتهم التي نجعلها غالبة عليهم عالية لهم في إظهار ضمائرهم غلبة لا يقدرون على مدافعتها بوجه ولم يذكرهم سبحانه بأسمائهم إبقاء على قراباتهم المخلصين من الفتن وقوله تعالى ﴿ولتعرفنهم﴾ جواب قسم محذوف ﴿في لحن القول﴾ أي: الصادر منهم، ولحنه فحواه أي معناه وما يدل عليه ويلوح عليه من ميله عن حقائقه إلى عواقبه، وما يؤول إليه أمره مما يخفى على غيرك قال أنس: ما خفي على رسول الله ﷺ بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم. وعن ابن عباس: لحن القول هو قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا وقيل اللحن أن تلحن بكلامك أي تميله إلى نحو من الانحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال:
*ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا واللحن يعرفه ذوو الألباب*
وقيل للمخطىء: لاحن، لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. وقال أبو حيان: كانوا اصطلحوا على ألفاظ يخاطبون بها الرسول ﷺ مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح ﴿والله﴾ أي: بما له من الكمال ﴿يعلم أعمالكم﴾ كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها علماً ثابتاً غيبياً وعلماً راسخاً شهودياً يتجدّد بحسب تجدّدها مستمرّاً باستمرار ذلك.
﴿ولنبلونكم﴾ أي: نعاملكم معاملة المبتلى، بأن نخالطكم بما لنا من العظمة بالأوامر الشديدة على النفوس والنواهي الكريهة إليها. ﴿حتى نعلم﴾ أي: بالابتلاء علماً شهودياً يشهده غيرنا مطابقاً لما كنا نعلمه علماً غيبياً، فنستخرج من سرائركم ما جبلناكم عليه مما لا يعلمه أحد منكم بل ولا تعلمونه حق علمه ﴿المجاهدين منكم﴾ في القتال وفي سائر الأعمال والشدائد والأهوال امتثالاً للأمر بذلك ﴿والصابرين﴾ أي: على شدائد الجهاد وغيره من الأنكاد قال القشيري: فبالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال فيظهر المخلص ويفتضح المماذق وينكشف المنافق ا. هـ.
وعن الفضيل: أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا ﴿ونبلو أخباركم﴾ أي: نخالطها


الصفحة التالية
Icon