الوجود في نفسه أردفه ببيان أن لوقوعه في الوجود وقتاً معلوماً عند الله وهو قوله تعالى: ﴿وجعل لهم أجلاً لا ريب﴾ أي: لا شك ﴿فيه﴾ وهو الموت أو القيامة ﴿فأبى الظالمون إلا كفوراً﴾ أي: بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والجحود. ولما قال الكفار: ﴿لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً﴾ فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم ويتسع عيشهم، بيّن تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم بقوله تعالى:
﴿قل﴾ أي: لهؤلاء المتعنتين ﴿لو أنتم﴾ أي: دون غيركم ﴿تملكون خزائن﴾ عبر بصيغة منتهى الجموع لأنّ المقام جدير بالمبالغة ﴿رحمة ربي﴾ أي: خزائن رزقه وسائر نعمه وذلك غير متناه. ﴿إذاً لأمسكتم﴾ أي: لوقع منكم الإمساك عن الإنفاق في بعض الوجوه التي تحتاجونها ﴿خشية﴾ أي: مخافة عاقبة ﴿الإنفاق﴾ أي: الموصل إلى الفقر فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح والدناءة وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشح. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ: أنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده. قال الزمخشريّ: تقديره لو تملكون جرى فيه على مذهب الكوفيين من أن لو يليها الفعل مضمراً كما يليها ظاهراً والبصريون يمنعون إيلاء لها مضمراً إلا في شذوذ كقول حاتم لو ذات سوار لطمتني، وأصل هذا المثل أنّ امرأة عطلاء من الحلي والهيئة لطمت حاتماً على نحر الناقة وقالت له بقسوة إنما أردناك بفصدها والفصد عندهم أن يقطع عرق من عروق ثم يجمع دمها فيشوى وقيل أصله أنّ المرأة المذكوة لطمت رجلاً فقال: لو ذات سوار لطمتني لاحتملتها فصار مثلاً يضرب لكريم يلطمه الدني، ثم استدل على صحة هذا المفروض بالشاهد من مضمون قولهم ﴿وكان﴾ أي: جبلة وطبعاً ﴿الإنسان﴾ أي: الذي من شأنه الأنس بنفسه فهو لذلك لا يعقل الأمور حق عقلها ﴿قتوراً﴾ أي: بخيلاً. تنبيه: فتح الياء في ربي نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون وهم على مراتبهم في المدّ. فإن قيل: قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم؟ أجيب: من وجوه الأوّل: أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجاً والمحتاج لا بدّ وأن يحبس ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج فثبت أن الأصل في الإنسان البخل. الثاني: أنّ الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وليخرج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل. الثالث: أنّ المراد بهذا الإنسان المعهود
السابق وهم الذين قالوا: ﴿لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً﴾. ولما قدم سبحانه وتعالى أن أكثر الناس جحدوا الآيات لكونه تعالى حكم بضلالهم ومن حكم بضلاله لا يمكن هداه شرع يسلي نبيه محمداً ﷺ بما أتفق لمن قبله من الأنبياء بقوله تعالى:
﴿ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات﴾ أي: واضحات
واختلف في هذه الآيات فقال ابن عباس والضحاك هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وقال مجاهد وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الثمرات. وقال البقاعي: وهي كما في التوراة: العصا ثم الدم ثم الضفادع ثم القمل ثم موت البهائم ثم البرد الكبار التي أنزلها
ولما ذكر تعالى خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى بقوله تعالى:
﴿إنا نحن﴾ أي: بما لنا من العظمة التي لا تضاهى ﴿نحيي الموتى﴾ أي: كلهم حسّاً بالبعث، ومعنى بالإنقاذ إذا أردنا من ظلمة الجهل ﴿ونكتب﴾ أي: جملة عند نفخ الروح وشيئاً فشيئاً بعده فلا يتعدى التفصيل شيئاً في ذلك الإجمال ﴿ما قدموا﴾ أي: وأخروا من جميع أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم من صالح وغيره فاكتفى بأحدهما لدلالة الآخر عليه كقوله تعالى ﴿سرابيل تقيكم الحر﴾ (النحل: ٨١)
أي: والبرد.
وقيل المعنى: ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة كقوله تعالى ﴿بما قدمت أيديهم﴾ (الجمعة: ٧)
أي: بما قدموا في الوجود وأوجدوه، وقيل: نكتب نياتهم فإنها قبل الأعمال وقوله تعالى ﴿وآثارهم﴾ فيه وجوه: أحدها: وهو مبني على التفسير الأخير، وهو كتب النيات المراد بالآثار: الأعمال.
ثانيها: ما سنوا من سنة حسنة وسيئة، فالحسنة كالكتب المصنفة والقناطر المبنية، والسيئة كالظلامات المستمرة التي وضعتها الظلمة والكتب المضلة قال ﷺ «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً».
ثالثها: خطاهم إلى المساجد لما روى أبو سعيد الخدري قال: شكت بنو سلمة بعد منازلهم عن المسجد فأنزل الله تعالى ﴿ونكتب ما قدموا وآثارهم﴾ فقال ﷺ «إن الله يكتب خطواتكم ومشيكم ويثيبكم عليها» وقال ﷺ «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم مشياً والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام»، فإن قيل: الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال تعالى ﴿نحيي الموتى ونكتب﴾ ولم يقل نكتب ما قدموا ونحييهم؟ أجيب: بأن الكتابة معظمة لأمر الإحياء؛ لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم، والكتابة في نفسها إن لم يكن هناك إحياء ولا إعادة لا يبقى لها أثر أصلاً، والإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء؛ لأنه تعالى قال: ﴿إنا نحن﴾ وذلك يفيد العظمة والجبروت، والإحياء العظيم يختص بالله تعالى والكتابة دونه تقرير التعريف الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم.
ولما كان ذلك الأمر ربما أوهم الاقتصاد على ما ذكر من أحوال الآدميين دفع ذلك بقوله تعالى: ﴿وكل شيء﴾ من أمور الدنيا والآخرة ﴿أحصيناه﴾ أي: قبل إيجاده بعلمنا القديم إحصاء وحفظاً وكتبناه ﴿في إمام﴾ وهو اللوح المحفوظ ﴿مبين﴾ أي: لا يخفى فيه شيء من جميع الأحوال والأقوال فهو تعميم بعد تخصيص؛ لأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم وليست الكتابة مقتصرة عليه بل كل شيء محصي في إمام مبين، وهذا يفيد أن شيئاً من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله تعالى ولا يفوته كقوله تعالى ﴿وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر﴾ (القمر: ٥٢ ـ ٥٣)
يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب لا يبدل، فإن القلم جف بما هو كائن فلما قال تعالى ﴿نكتب ما قدموا﴾ بين أن قبل ذلك كتابة أخرى، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه، قيل: إن ذلك مؤكد لمعنى قوله تعالى ﴿ونكتب﴾ ؛ لأن من يكتب شيئاً في أوراق
السماء السابعة والحجب السبعة صحارى من نور.
ثم ذكر تعالى دلالة أخرى بعد تلك الدلالة تدل على تمام قدرته بقوله تعالى: ﴿ولقد زينا﴾ بما لنا من العظمة ﴿السماء الدنيا﴾ أي: القربى لأنها أقرب السموات إلى الأرض وهي التي تشاهدونها ﴿بمصابيح﴾ جمع مصباح وهو السراج أي: بنجوم متقدة عظيمة جداً تفوت الحصر ظاهرة سائرة مضيئة ظاهرة زاهرة وهي الكواكب التي تنوّر الأرض بالليل إنارة السرج التي تنوّرون بها سقوف دوركم، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وزينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فكأنه قال: ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح والتزين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيما فوقها من السماوات وهي تتراءى بحسب الشفوف وبما لأجرام السماوات من الصفاء ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة.
﴿وجعلناها﴾ أي: المصابيح بما لنا من العظمة مع كونها زينة وإعلاماً للهداية ﴿رجوماً للشياطين﴾ أي: الذين يحق لهم الطرد من الجن لما لهم من الاحتراق حراسة للسماء التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر، وإنزال هذا الذكر الحكيم لئلا يفسدوا باستراق السمع فيها على الناس دينهم الحق ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي قد ختمنا به الأديان بالباطل.
والرجوم جمع رجم وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير، ويجوز أن يكون باقياً على مصدرتيه، ويقدر مضاف، أي: ذات رجوم، وجمع المصدر باعتبار أنواعه، والشهاب المرجوم به منفصل من نار الكوكب وهو قارّ في فلكه على حاله كقبس النار يؤخذ منها وهي باقية لا تنقص، وذلك مسوغ لتسميتها بالنجوم فمن لحقه الشهاب منهم قتله أو ضعضع أمره وخبله، وقال أبو علي جواباً لمن قال: كيف تكون زينة وهي رجوم؟: لا تنفي كيفية الرجم أن يؤخذ نار من ضوء الكوكب يرمى بها الشيطان والكوكب في مكانه لا يرجم به، وقيل: الرجوم هنا الظنون والشياطين شياطين الإنس كما قال القائل:
*وما هو عنها بالحديث المرجم*
فيكون المعنى: جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون يتكلمون بها رجماً بالغيب في أشياء من عظيم الابتلاء، وعن قتادة: خلقت النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وتكلف ما لا علم له به وتعدى وظلم.
﴿وأعتدنا﴾ أي: هيأنا في الآخرة مع هذا الذي في الدنيا بما لنا من العظمة ﴿لهم﴾ أي: للشياطين ﴿عذاب السعير﴾ أي: التي في غاية الاتقاد في الآخرة قال المبرد: سعرت النار فهي مسعورة وسعير، مثل مقتولة وقتيل، وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة الآن لأن قوله تعالى: ﴿وأعتدنا لهم﴾ خبر عن الماضي.
ولما أخبر تعالى عن تهيئة العذاب لهم بالخصوص أخبر عن تهيئته لكل عامل بأعمالهم على وجه اندرجوا هم فيه فقال عز من قائل: ﴿وللذين كفروا﴾ أي: أوقعوا التغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر من الإذعان للإله ﴿بربهم﴾ أي: الذي تفرد بإيجادهم والإحسان إليهم فأنكروا إيجاده لهم بعد الموت كفراً بما شاهدوا من اختراعه لهم من العدم ﴿عذاب جهنم﴾ أي: الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والغضب ﴿وبئس المصير﴾ أي: هي.
﴿إذا ألقوا﴾ أي: طرح الكفار ﴿فيها﴾ أي: في نار جهنم من أيّ طارح أمرناه بطرحهم كما يطرح الحطب في النار العظيمة ﴿سمعوا لها﴾


الصفحة التالية
Icon