شبهه. قال البقاعي: والوجه الأوّل أولى لقوله تعالى:
﴿بل رفعه الله إليه﴾ أي: إلى مكان لا يصل إليه حكم آدمي، وعن وهب: إنه أوحي إليه وهو ابن ثلاثين سنة ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، فكانت رسالته ثلاث سنين ﴿وكان الله عزيزاً﴾ أي: في ملكه لا يغلب عما يريد ﴿حكيماً﴾ في صنعه لا يطمع أحد في نقص شيء منه.
﴿وإن من أهل الكتاب﴾ أي: وما من أهل الكتاب أحد ﴿إلا ليؤمنن به﴾ أي: بعيسى عليه الصلاة والسلام هذا قول أكثر المفسرين وأهل العلم ﴿قبل موته﴾ اختلف في عود هذا الضمير، فقال عكرمة ومجاهد والضحاك: يعود للكتابي أي: إنّ الكتابي يؤمن بعيسى حين يعاين ملائكة الموت فلا ينفعه إيمانه سواء احترق أو غرق أو تردى أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة، فقيل لابن عباس: أرأيت من خرّ من فوق بيت؟ فقال: يتكلم به في الهوي، فقيل: أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال: يتلجلج بها لسانه، وذهب قوم إلى عود الضمير إلى عيسى أي: وما من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «يوشك أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً عدلاً يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويقتل الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون».
قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم ﴿وإن من أهل الكتاب﴾ الآية ثم أعادها أبو هريرة ثلاث مرّات ولا يعارض هذا ما في مسلم في قصة الدجال إنّ الله يبعث عيسى بن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يلبث الناس بعده سبع سنين ليس بين إثنين عداوة؛ لأنّ قوله: ثم يلبث الناس بعده أي: بعد موته فلا معارضة، أو لأنّ السبع محمول على مدّة إقامته بعد نزوله ويكون ذلك مضافاً إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين سنة على المشهور.
وروى عكرمة: إن الهاء في قوله تعالى: ﴿ليؤمنن به﴾ كناية عن محمد ﷺ يقول: لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد ﷺ وقيل: الهاء راجعة إلى الله عز وجل يقول: وإنّ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله عز وجل قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه ﴿ويوم القيامة يكون﴾ أي: عيسى على القول الأوّل ﴿عليهم شهيداً﴾ إنه قد بلغهم رسالة ربه وأقرّ بالعبودية على نفسه كما قال تعالى مخبراً عنه: ﴿وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم﴾ (المائدة/ ١١٧). وكل نبيّ شاهد على أمّته قال تعالى: ﴿فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً﴾ (النساء، ٤١).
﴿فيظلم من الذين هادوا﴾ وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وبكفرهم بآيات الله وبهتانهم على مريم، وقولهم: ﴿إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم﴾ (النساء، ١٥٧)
﴿حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم﴾ أي: كان وقع إحلالها لهم في التوراة، ثم حرّمت عليهم وهي التي في قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر﴾ (الأنعام، ١٤٦)
الآية ﴿وبصدّهم﴾ أي: الناس ﴿عن سبيل الله﴾ أي: دينه، وقوله تعالى: ﴿كثيراً﴾ صفة مصدر محذوف أي: صدّاً كثيراً بالإضلال عن الطريق، فمنعوا مستلذات تلك المآكل بما منعوا أنفسهم وغيرهم من لذاذة الإيمان.
﴿وأخذهم الربا وقد﴾ أي: والحال إنهم قد ﴿نهوا عنه﴾ في التوراة، فكان محرماً عليهم كما هو محرّم علينا؛ لأنه قبيح في نفسه مزر بصاحبه، وفي الآية دليل على أنّ النهي
قال الزجاج: الذقن مجمع اللحيين وكما يبتدئ الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن. وقيل: إنّ الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخشوع والخضوع ربما مسح لحيته على التراب، فإنّ اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب في حوض المبالغة فقد أتى بغاية التعظيم، وقيل: إنّ الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه فيكون حينئذ خروره على الذقن فقوله ﴿يخرّون للأذقان﴾ كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته. فإن قيل: لم قال: ﴿يخرّون للأذقان سجداً﴾ ولم يقل يسجدون؟ أجيب: بأنّ المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى كأنهم يسقطون. فإن قيل: لم قال: ﴿يخرّون للأذقان﴾ ولم يقل على الأذقان؟ اجيب: بأن العرب تقول إذا خرّ الرجل فوقع لوجهه خرّ للذقن ثم بين أن ذلك ليس سقوطاً اضطرارياً من كل جهة بقوله تعالى: ﴿سجداً﴾، أي: يفعلون ذلك لما يعلمون من خيفته بما أوتوا من العلم السالف وما في قلوبهم من الإذعان والخشية للرحمن.
﴿ويقولون﴾، أي: على وجه التجديد المستمرّ ﴿سبحان ربنا﴾ تنزيهاً له عن خلف الوعد ﴿إن﴾، أي: انه ﴿كان﴾، أي: كوناً لا ينفك ﴿وعد ربنا﴾، أي: المحسن إلينا بالإيمان وما تبعه من وجوه العرفان ﴿لمفعولاً﴾، أي: دون خلف ولا بدّ أن يأتي جميع ما وعد به في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد ﷺ وإنزال الفرقان عليه ومن الثواب والعقاب وهو تعريض بقريش حيث كانوا يستهزؤون بالوعيد في قولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ونحوه مما في معناه الطعن في قدرة الله تعالى القادر على كل شيء وقوله تعالى:
﴿ويخرّون للأذقان يبكون﴾ كرّره لاختلاف الحال والسبب فإنّ الأول للشك عند إنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله ﴿ويزيدهم﴾، أي: سماع القرآن خشوعاً، أي: خضوعاً وتواضعاً ولين قلب ورطوبة عين. ولما طالت الكلمات في المناظرة مع المشركين ومنكري النبوّات والجواب عن شبهاتهم أتبعها ببيان كيف يدعون الله ويطيعونه وكيف يذكرونه في وقت الاشتغال بأداء العبودية فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ لهم ﴿ادعوا الله أو ادعوا الرحمن﴾ واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس: إنّ رسول الله ﷺ قال: «ذات ليلة وهو ساجد يا الله يا رحمن فسمعها ابو جهل وهم لا يعرفون الرحمن. فقال: إنّ محمداً ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر مع الله تعالى يقال له الرحمن، فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي: إن شئتم قولوا يا الله وإن شئتم قولوا يا رحمن». وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان رسول الله ﷺ يجهر بالدعاء يقول: يا الله يا رحمن فسمعه أهل مكة فأقبلوا عليه فأنزل الله تعالى: ﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن﴾ الآية». وعن ابن عباس أنّ ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في أوّل ما أنزل وكان الذين قد أسلموا من اليهود يسوءهم قلة ذلك لكثرته في التوراة كابن سلام وابن يامين وابن صوريا وغيرهم، فسألوا رسول الله ﷺ ذلك فنزل قوله تعالى: ﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن﴾، فقال قريش: ما بال محمد كان يدعو إلها واحداً وهو الآن يدعو إلهين ما نعرف الرحمن
فعوقبتم لذلك.
ولما كان السياق لأن الأمر بيد الله تعالى، فلا هادي لمن يضل ولا مضل لمن هدى فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد، ويضل القريب فيهما إذا أراد وكان بعد الدار ملزوماً في الغالب لبعد النسب قدّم مكان المجيء على فاعلة بياناً لأن الدعاء نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى فقال تعالى:
﴿وجاء من أقصى﴾ أي: أبعد بخلاف ما مر في القصص ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية وقال ﴿المدينة﴾ لأنها أدل على الكبر المستلزم بعد الأطراف وجمع الأخلاط ولما بين الفاعل بقوله تعالى: ﴿رجل﴾ بين اهتمامه بالنهي عن المكر ومسابقته إلى إزالته كما هو الواجب بقوله تعالى: ﴿يسعى﴾ أي: يسرع في مشيه فوق المشي ودون العدو حرصاً على نصيحة قومه.
تنبيه: في تنكير الرجل مع أنه كان معلوماً معروفاً عند الله تعالى فيه فائدتان، الأولى: أن يكون تعظيماً لشأنه أي: رجل كامل في الرجولية، الثانية: أن يكون مفيداً ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال: إنهم تواطؤوا، والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام، وقال السدي: كان قصاراً، وقال وهب: كان يعمل الحرير وكان سقيماً قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب في المدينة، وكان مؤمناً وآمن بمحمد ﷺ قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله تعالى ورأى فيه نعت محمد ﷺ وبعثته وقوله: ﴿يسعى﴾ تبصير للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جهدهم في النصح.
ولما تشوفت النفس إلى الداعي إلى إتيانه بينه بقوله تعالى:
﴿قال﴾ واستعطفهم بقوله تعالى: ﴿يا قوم﴾ وأمرهم بمجاهدة النفوس بقوله ﴿اتبعوا المرسلين﴾ أي: في عبادة الله تعالى وحده، فجمع بين إظهار دينه وإظهار النصيحة فقوله ﴿اتبعوا﴾ النصيحة وقوله ﴿المرسلين﴾ إظهار إيمانه، وقدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان؛ لأنه كان ساعياً في النصيحة، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله ﴿يسعى﴾ دل على إردته النصح.
فإن قيل: ما الفرق بين مؤمن آل فرعون حيث قال: ﴿اتبعون أهدكم﴾ (غافر: ٣٨)
وهذا قال: ﴿اتبعوا المرسلين﴾ ؟ أجيب: بأن هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال: اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مراراً فقال: اتبعوني في الإيمان بموسى وهرون عليهما السلام، واعلموا أنه لو لم يكن خيراً لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته ولم يكن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يعلمون اتباعه لهم.
ولما قال لهم: اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال:
﴿اتبعوا من لا يسألكم أجراً﴾ أي: أجرة؛ لأن الخلق في الدنيا سالكون طريق الاستقامة، والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه وعدم الاستماع من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين: إما لطلب الدليل الأجرة، وإما: لعدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة ﴿وهم مهتدون﴾ عالمون بالطريق المستقيم الموصلة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين أليسوا بمهتدين؟ فاتبعوهم وقوله تعالى:
﴿ومالي لا أعبد الذي فطرني﴾ أصله: وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عنه ليكون الكلام أسرع قبولاً حيث أراد لهم ما أراد لنفسه والمراد: تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال {وإليه
تذليل غيرها، وليكن مشيكم فيها وتصرفاتكم بذل وإخبات وسكون استصغاراً لأنفسكم وشكراً لمن سخر لكم ذلك، وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة، فقالت: مناكبها جبالها، فقال لها: صرت حرة فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وقال مجاهد: في أطرافها، وعنه أيضاً في طرقها وفجاجها، وهو قول السدي والحسن، وقال الكلبي: في جوانبها، ومنكبا الرجل جانباه.
فائدة: حكى قتادة عن أبي الخلدان: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف.
ثم ذكرهم تعالى بأنه سهلها لإخراج البركات بقوله تعالى: ﴿وكلوا﴾ ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله تعالى: ﴿من رزقه﴾ الذي أودعه لكم فيها، قال الحسن: مما أحل لكم، وقيل: مما خلقه الله لكم رزقاً في الأرض ﴿وإليه﴾ أي: وحده ﴿النشور﴾ وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها يخرجها سبحانه في الوقت الذي يريده على ما كان كل منها عليه عند الموت كما أخرج تلك الأرزاق، لا فرق بين هذا وذاك غير أنكم لا تتأملون، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر، فعوّدوا أنفسكم بالخيرات لعلها تنقاد كما قيل:
*... هي النفس ما عودتها تتعود*
ولما كان لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار قال تعالى مهدداً للمكذبين: ﴿أأمنتم﴾ قرأ قنبل في الوصل بإبدال الهمزة بعد راء النشور واواً، وسهل الهمزة الثانية نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وحققها الباقون، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام والباقون بغير إدخال، وقوله تعالى: ﴿من في السماء﴾ فيه وجوه:
أحدها: من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها ينزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه.
والثاني: أن ذلك على حذف مضاف، أي: أأمنتم خالق من في السماء.
والثالث: أن في بمعنى على، أي: على السماء، كقوله: ﴿ولأصلبنكم في جذوع النخل﴾ (طه: ٧١) أي: على جذوع النخل وإنما احتاج القائل بهذين الوجهين إلى ذلك لأنه اعتقد أن من واقعة على الباري تعالى شأنه وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك، فإن من هنا المراد بها الملائكة سكان السماء وهم الذين يتولون الرحمة والنقمة.
والرابع: أنهم خوطبوا بذلك على اعتقادهم فإن القوم كانوا مجسمة مشبهة وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب نازلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: ﴿أأمنتم من في السماء﴾ أي: من تزعمون أنه في السماء. قال الرازي: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها بإجماع المسلمين، لأنّ ذلك يقتضي إحاطة السماء به من جميع الجوانب فيكون أصغر منها والعرش أكبر من السماء بكثير فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش وهو باطل بالاتفاق، ولأنه تعالى قال: ﴿قل لمن ما في السموات والأرض﴾ (الأنعام: ١٢) فلو كان فيها لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى: أما من في السماء عذابه، وإما إن ذلك بحسب ما كانت العرب تعتقده، وأما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته كما قال تعالى: ﴿وهو الله في السموات وفي الأرض﴾ (الأنعام: ٣) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة في مكانين، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله سبحانه وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام.
فائدة: حكى قتادة عن أبي الخلدان: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف.
ثم ذكرهم تعالى بأنه سهلها لإخراج البركات بقوله تعالى: ﴿وكلوا﴾ ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله تعالى: ﴿من رزقه﴾ الذي أودعه لكم فيها، قال الحسن: مما أحل لكم، وقيل: مما خلقه الله لكم رزقاً في الأرض ﴿وإليه﴾ أي: وحده ﴿النشور﴾ وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها يخرجها سبحانه في الوقت الذي يريده على ما كان كل منها عليه عند الموت كما أخرج تلك الأرزاق، لا فرق بين هذا وذاك غير أنكم لا تتأملون، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر، فعوّدوا أنفسكم بالخيرات لعلها تنقاد كما قيل:
*... هي النفس ما عودتها تتعود*
ولما كان لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار قال تعالى مهدداً للمكذبين: ﴿أأمنتم﴾ قرأ قنبل في الوصل بإبدال الهمزة بعد راء النشور واواً، وسهل الهمزة الثانية نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وحققها الباقون، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام والباقون بغير إدخال، وقوله تعالى: ﴿من في السماء﴾ فيه وجوه:
أحدها: من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها ينزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه.
والثاني: أن ذلك على حذف مضاف، أي: أأمنتم خالق من في السماء.
والثالث: أن في بمعنى على، أي: على السماء، كقوله: ﴿ولأصلبنكم في جذوع النخل﴾ (طه: ٧١) أي: على جذوع النخل وإنما احتاج القائل بهذين الوجهين إلى ذلك لأنه اعتقد أن من واقعة على الباري تعالى شأنه وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك، فإن من هنا المراد بها الملائكة سكان السماء وهم الذين يتولون الرحمة والنقمة.
والرابع: أنهم خوطبوا بذلك على اعتقادهم فإن القوم كانوا مجسمة مشبهة وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب نازلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: ﴿أأمنتم من في السماء﴾ أي: من تزعمون أنه في السماء. قال الرازي: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها بإجماع المسلمين، لأنّ ذلك يقتضي إحاطة السماء به من جميع الجوانب فيكون أصغر منها والعرش أكبر من السماء بكثير فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش وهو باطل بالاتفاق، ولأنه تعالى قال: ﴿قل لمن ما في السموات والأرض﴾ (الأنعام: ١٢) فلو كان فيها لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى: أما من في السماء عذابه، وإما إن ذلك بحسب ما كانت العرب تعتقده، وأما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته كما قال تعالى: ﴿وهو الله في السموات وفي الأرض﴾ (الأنعام: ٣) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة في مكانين، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله سبحانه وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام.
وقوله تعالى:


الصفحة التالية
Icon