يوجب التكرار بل الحق أنّ المراد من كونه قيما كونه سبباً لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيماً للأطفال فالأرواح البشرية كالأطفال والقرآن كالقيم المشفق القائم بمصالحهم وقال قبل ذلك أنّ الشيء يجب أن يكون كاملاً في ذاته ثم يكون مكملاً لغيره، ويجب أن يكون تامّاً في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عنه كمال الغير فقوله تعالى: ﴿ولم يجعل له عوجاً﴾ إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته وقوله: ﴿قيماً﴾ إشارة إلى كونه مكملاً لغيره. ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة في صفة الكتاب: ﴿لا ريب فيه هدى للمتقين﴾ (البقرة، ٢) فقوله: ﴿لا ريب فيه﴾ إشارة إلى كونه في نفسه بالغاً في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه، وقوله: ﴿هدى للمتقين﴾ إشارة إلى كونه سبباً لهداية الخلق ولكمال حالهم فقوله تعالى: ﴿ولم يجعل له عوجاً﴾ قائم مقام قوله تعالى: ﴿لا ريب فيه﴾ قوله تعالى: ﴿قيماً﴾ قائم مقام قوله تعالى: ﴿هدى للمتقين﴾.
واختلف النحويون في نصب قوله تعالى: ﴿قيماً﴾ على أوجه: الأوّل قال في «الكشاف» : لا يجوز جعله حالاً من الكتاب لأنّ قوله تعالى: ﴿ولم يجعل له عوجاً﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿أنزل﴾ فهو داخل في حيز الصلة وأنه لا يجوز. قال: ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير ولم يجعل له عوجاً جعله قيماً لأنه تعالى إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة. قال: فإن قلت فما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر؟ قلت: فائدته التأكيد ورب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح.
الوجه الثاني: أنه حال ثانية والجملة المنفية قبله حال أيضاً كما مرّ وتعدّد الحال الذي حال واحد جائز، والتقدير أنزله غير جاعل له عوجاً قيماً. الوجه الثالث: أنه حال أيضاً ولكنه بدل من الجملة قبله لأنها حال وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز. ولما ذكر تعالى أنه أنزل على عبده هذا الكتاب الموصوف بما ذكر أردفه ببيان ما لأجله أنزله بقوله عز وجلّ: ﴿لينذر﴾، أي: يخوّف الكتاب الكافرين ﴿بأساً﴾، أي: عذاباً ﴿شديداً من لدنه﴾، أي: صادراً من عنده، وقرأ شعبة بإسكان الدال وكسر النون والهاء وصلة الهاء بياء والباقون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء، وابن كثير على أصله بضم الهاء في الوصل بواو. ﴿ويبشر المؤمنين﴾، أي: الراسخين في هذا الوصف، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء التحتية وسكون الموحدة، وضم الشين مخففة والباقون بضم التحتية وفتح الموحدة وكسر الشين مشدّدة. ﴿الذين يعملون الصالحات﴾ وهي ما أمر به خالصاً له وذانك الشيئان مفتاح الإيمان. ﴿أنّ لهم﴾، أي: بسبب أعمالهم ﴿أجراً حسناً﴾ هو الجنة حال كونهم.
﴿ماكثين فيه أبداً﴾ بلا انقطاع أصلاً فإنّ الأبد زمان لا آخر له، وقوله تعالى: ﴿وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿لينذر بأساً شديداً من لدنه﴾ والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه، فالأوّل عام في حق كل كافر، والثاني خاص بمن أثبت لله ولداً. وعادة القرآن جارية بأنه إذاذكر قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي كقوله تعالى: ﴿وملائكته ورسله وجبريل وميكال﴾ (البقرة، ٩٨) فكذا ههنا هذا العطف يدل على أنّ أقبح أنواع الكفر إثبات الولد لله تعالى.
تنبيه: الذين أثبتوا لله ولداً ثلاث طوائف الأولى:
﴿أهلكنا قبلهم﴾ كثيراً ﴿من القرون﴾ أي: الأمم، قال البغوي: والقرن أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود ﴿أنهم﴾ أي: المهلكين ﴿إليهم﴾ أي: إلى أهل مكة ﴿لا يرجعون﴾ أي: لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعتبرون، وقيل: لا يرجعون أي: الباقون لا يرجعون إلى المهلكين بسبب ولا ولادة أي: أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك أن الإهلاك الذي يكون مع قطع النسل أتم وأعم، قال ابن عادل: والأول أشهر نقلاً. والثاني: أظهر عقلاً. وقوله تعالى:
﴿وإن﴾ نافية أو مخففة وقوله تعالى ﴿كل﴾ أي: كل الخلائق مبتدأ وقرأ ﴿لما﴾ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد الميم بمعنى إلا، والباقون بالتخفيف واللام فارقة وما مزيدة وقوله تعالى ﴿جميع﴾ أي: مجموعون خبر أول ﴿لدنيا﴾ أي: عندنا في الموقف بعد بعثهم وقوله تعالى ﴿محضرون﴾ أي: للحساب خبر ثان وما أحسن قول القائل:

*ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيّ*
*ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء*
ولما قال ﴿وإن كل لما جميع﴾ كان ذلك إشارة إلى الحشر فذكر ما يدل على إمكانه قطعاً لإنكارهم واستبعادهم فقال تعالى:
﴿وآية﴾ أي: علامة عظيمة ﴿لهم﴾ أي: على قدرتنا على البعث وإيجادنا له ﴿الأرض﴾ أي: هذا الجنس الذي هم منه ثم وصفها بما حقق وجه الشبه بقوله تعالى: ﴿الميتة﴾ التي لا روح لها؛ لأنه لا نبات بها أعم من أن يكون بها نبات وفنى أو لم يكن بها شيء أصلاً، ثم استأنف بيان كونها آية بقوله تعالى: ﴿أحييناها﴾ أي: باختراع النبات فيها أو بإعادته بسبب المطر كما كان بعد اضمحلاله، فإن قيل: الأرض آية مطلقاً فلم خصها بهم حيث قال تعالى: ﴿وآية لهم﴾ ؟ أجيب: بأن الآية تعدد وتسرد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه، وأما من عرف الشيء بطريق الرؤية فلا يذكر له دليل فالنبي ﷺ وعباد الله المخلصين عرفوا الله تعالى قبل الأرض والسماء فليست الأرض معرفة لهم.
تنبيه: آية خبر مقدم ولهم صفتها أو متعلقة بآية؛ لأنها علامة والأرض مبتدأ، وأعرب أبو البقاء آية مبتدأ ولهم الخبر والأرض الميتة مبتدأ وصفة وأحييناها خبره فالجملة مفسرة لآية وبهذا بدأ ثم قال: وقيل فذكر الوجه الأول.
ولما كان إخراج الأقوات نعمة أخرى قال ﴿وأخرجنا منها حباً﴾ أي: جنس الحب كالحنطة والشعير والأرز، ثم بين عموم نفعه بقوله ﴿فمنه﴾ أي: بسبب هذا الإخراج ﴿يأكلون﴾ أي: من ذلك الحب فهو حب حقيقة تعلمون ذلك علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين لا تقدرون تدعون أن ذلك خيال سحري بوجه من الوجوه، وفي هذه الآية وأمثالها حث عظيم على تدبر القرآن واستخراج ما فيه من المعاني الدالة على جلال الله تعالى وكماله، وقد أنشد هنا الأستاذ القشيري في تفسيره وعيب على من أهمل ذلك:
*يا من تصدر في دست الإمامة في مسائل الفقه إملاء وتدريساً*
*غفلت عن حجج التوحيد تحكمها شيدت فرعاً وما مهدت تأسيساً*
ولما ذكر الزرع وهو مالا ساق له أتبعه بذكر ما له ساق بقوله:
﴿وجعلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة
العلم.
﴿فلما رأوه﴾ أي: العذاب بعد الحشر ﴿زلفة﴾ أي: ذا قرب عظيم منهم ﴿سيئت﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: اسودّت ﴿وجوه﴾ وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال تعالى: ﴿الذين كفروا﴾ أي: أظهروا السوء وغاية الكراهة في وجوه من أوقع هذا الوصف.
تنبيه: الأصل ساء، أي: أحزن وجوههم العذاب ورؤيته ثم بني للمفعول وساء هنا ليست المرادفة لبئس.
وأشم كسرة السين نافع وابن عامر والكسائي والباقون باختلاس الكسرة. وقيل: أي: قال لهم الخزنة تقريعاً وتوبيخاً ﴿هذا الذي كنتم﴾ أي: جبلة وطبعاً ﴿به﴾ أي: بسببه ومن أجله ﴿تدّعون﴾ أي: تتمنون وتسألون وتزعمون أنكم لا تبعثون، وهذه حكاية حال تأتي عبر عنها بطريق المضي لتحقق وقوعها، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها.
﴿قل﴾ أي: يا أكرم الخلق لهؤلاء الذين طال تضجرهم منك وهم يتمنون هلاكك كما قال تعالى: ﴿أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون﴾ (الطور: ٣٠) ﴿أرأيتم﴾ أي: أخبروني خبراً أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية ﴿إن أهلكني الله﴾ أي: أماتني بعذاب أو غيره الذي له من الجلال والإكرام ما يعصم به وليه ويقصم عدوه.
وقرأ: قل أرأيتم في الموضعين، نافع بتسهيل الهمزة بعد الواو، ولورش أيضاً إبدالها ألفاً وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق وإذا وقف حمزة سهل الهمزة، وقرأ: ﴿إن أهلكني الله﴾ حمزة بسكون الياء والباقون بفتحها، ومن سكن الياء رقق اللام من الاسم الجليل ومن فتحها فخم ﴿ومن معي﴾ أي: من المؤمنين ﴿أو رحمنا﴾ أي: بالنصر وإظهار الإسلام كما نرجو فأنجانا بذلك من كل سوء ووقانا كل محذور، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء والباقون بالسكون ﴿فمن يجير الكافرين﴾ أي: العريقين في الكفر بأن يدفع عنهم ما يدفع الجار عن جاره ﴿من عذاب أليم﴾ أي: لا مجير لهم منه.
﴿قل﴾ أي: يا خير الخلق ﴿هو﴾ أي: الله وحده ﴿الرحمن﴾ أي: الشامل الرحمة ﴿آمنا به﴾ أي: أنا ومن معي ﴿وعليه﴾ أي: وحده ﴿توكلنا﴾ أي: لأنه لا شيء في يد غيره وإلا لرحم من يريد عذابه أو عذب من يريد رحمته، فكل ما جرى على أيدي خلقه من رحمة أو نقمة فهو الذي أجراه لأنه الفاعل بالذات المستجمع لما يليق به من الصفات فنحن نرجو خيره ولا نخاف غيره ﴿فستعلمون﴾ أي عند معاينة العذاب عما قليل بوعد لا خلف فيه ﴿من هو في ضلال مبين﴾ أي: بين أنحن أم أنتم، وقرأ الكسائي بعد السين بياء الغيبة نظراً إلى قول الكافرين والباقون بتاء الخطاب إما على الوعيد، وإما على الالتفات من الغيبة المرادة في قراءة الكسائي وهو تهديد لهم.
﴿قل﴾ أي: يا أعظم خلقنا وأعلمهم بنا ﴿أرأيتم﴾ أي: أخبروني إخباراً لا لبس فيه ﴿إن أصبح ماؤكم﴾ أي: الذي تعدّونه في أيديكم بما نبهت عليه الإضافة ﴿غوراً﴾ أي: غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء وكان ماؤهم من بئرين بئر زمزم وبئر ميمونة ﴿فمن يأتيكم﴾ على ضعفكم حينئذ وانخلاع قلوبكم واضطراب أفكاركم ﴿بماء معين﴾، أي: دائم لا ينقطع وظاهر للأعين سهل المأخذ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بماء معين أي: ظاهر تراه العيون فهو مفعول. وقيل: هو من معن الماء، أي: كثر فهو على هذا فعيل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أن المعنى: فمن يأتيكم بماء عذب أي: لا يأتيكم به إلا الله فكيف تنكرون أن يبعثكم؟
ويستحب أن يقول القارىء عقب معين: الله رب العالمين، كما في الحديث.


الصفحة التالية
Icon