نتزوّج نساءهم مع كونهم على غير ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية: ﴿ومن يكفر﴾ بما أنزل الله في القرآن فهو كذا وكذا فسمي القرآن إيماناً؛ لأنه مشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان، والمراد من ذلك أن يأتي بشيء يصير به مرتداً ﴿فقد حبط﴾ أي: فسد ﴿عمله﴾ الصالح قبل ذلك إن اتصل ذلك بالموت بدليل قوله تعالى: ﴿وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ وقوله تعالى في آية أخرى: ﴿فيمت وهو كافر﴾ (البقرة، ٢١٧) أمّا من أسلم قبل الموت فإنّ ثوابه يفسد دون عمله فلا يجب عليه إعادة حج قد فعله ولا صلاة قد صلاها قبل الردّة.
﴿ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة﴾ أي: أردتم القيام إليها كقوله تعالى: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ با﴾ (النحل، ٩٨) عبرّ عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وظاهر الآية الكريمة يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً، لكن صدّ عنه الإجماع لما روي أنه ﷺ صلى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال له عمر: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه فقال: «عمداً فعلته»، فقيل: هو مطلق أريد به التقييد والمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وقيل: الأمر فيه للندب وقيل: كان ذلك أوّل الأمر ثم نسخ قال البيضاوي: وهو ضعيف لقوله ﷺ «المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» ﴿فاغسلوا وجوهكم﴾ أي: أمروا الماء عليها، ولا يجب الدّلك خلافاً لمالك رضي الله تعالى عنه ﴿و﴾ اغسلوا ﴿أيديكم إلى المرافق﴾ أي: معها إن وجدت وقدرها إن فقدت، لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في صفة وضوء رسول الله ﷺ «إنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد» إلخ.. وللإجماع أوان إلى في الآية بمعنى مع كما في قوله تعالى: ﴿من أنصاري إلى الله﴾ (آل عمران، ٥٢) ويزدكم قوّة إلى قوّتكم أو يجعل اليد التي هي حقيقة إلى المنكب مجازاً إلى المرفق مع جعل إلى غاية للغسل الداخلة هنا في المغيّا بقرينة الإجماع والاحتياط للعبادة، والمعنى اغسلوا أيديكم من رؤوس الأصابع إلى المرافق، أو تجعل باقية على حقيقتها إلى المنكب مع جعل إلى غاية للترك المقدّر فتخرج الغاية والمعنى اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق، والمرافق جمع مرفق بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة وهو مفصل ما بين العضد والمعصم ولو قطع بعض ما يجب غسله وجب غسل الباقي؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، وإن
قطع
من المرفق فإن سلّ عظم الذراع وبقي العظمان المسميان برأس العضد وجب غسل رأس عظم العضد؛ لأنه من المرفق وهو مجموع العظمين والإبرة الداخلة بينهما وإن قطع من فوق المرفق ندب غسل باقي عضده.
﴿وامسحوا برؤسكم﴾ أي: ببعضها. لما روى مسلم «إنه ﷺ مسح بناصيته وعلى عمامته» واكتفى بمسح البعض لأنه المفهوم من المسح عند إطلاقه ولم يقل أحد بوجوب خصوص الناصية وهي الشعر الذي بين النزعتين والاكتفاء بها يمنع وجوب الاستيعاب ويمنع وجوب التقدير بالربع أو أكثر لأنها دونه والباء إذا دخلت على متعدّد كما في الآية تكون للتبعيض أو على غيره كما في قوله تعالى: ﴿وليطوفوا بالبيت العتيق﴾ (الحج، ٢٩) تكون للالصاق.
فإن قيل: صيغة الأمر بمسح الرأس والوجه في التيمم واحدة فهلا أوجبتم التعميم أيضاً؟ أجيب: بأن المسح ثم بدل للضرورة فاعتبر ببدله
ويسمى الأسد كلباً فإنّ النبيّ ﷺ دعا على عتبة بن أبي لهب فقال: «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فافترسه الأسد». وقال ابن عباس: كان كلباً أغزّ واسمه قطمير وعن عليّ اسمه ريان واختلف في قوله تعالى: ﴿بالوصيد﴾ فقال ابن عباس: هو باب الكهف وقيل العتبة. قال السدي: والكهف لا يكون له باب ولا عتبة، وإنما أراد موضع الباب والعتبة وقال الزجاج: الوصيد فناء البيت وفناء الدار، قال الشاعر:
*بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها
... عليّ ومعروفي بها غير منكر
وقال مجاهد والضحاك: الوصيد الكهف. ﴿لو اطلعت عليهم﴾ بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين، أي: وهم على تلك الحالة ﴿لوليت منهم﴾ حال وقوع بصرك عليهم ﴿فراراً﴾ لما البسهم الله تعالى من الهيبة وجعل لهم من الجلالة تدبيراً منه لما أراد منهم حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله. ﴿ولملئت منهم رعباً﴾، أي: فزعاً، واختلف في ذلك الرعب كان لماذا؟ فقال الكلبيّ: لأنّ أعينهم مفتتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام، وقيل من وحشة الكلام وقيل لكثرة شعورهم وطول أظفارهم وتقلبهم من غير حس كالمستيقظ وقيل: إنّ الله تعالى منعهم بالرعب حتى لا يراهم أحد.
وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس قد منع ذلك من هو خير منك ﴿لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً﴾، فبعث معاوية ناساً فقال: اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد اللام بعد الميم، والباقون بتخفيفها والسوسي بإبدال الهمزة ياء على أصله وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف فقط. وقرأ ابن عامر والكسائي رعباً بضم العين والباقون بسكونها.
﴿وكذلك﴾، أي: كما فعلنا بهم ما ذكرنا آية ﴿بعثناهم﴾، أي: أيقظناهم آية ﴿ليتساءلوا بينهم﴾، أي: ليسأل بعضهم بعضاً عن أحوالهم في نومهم ويقظتهم فيتعرّفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم فيزدادوا يقيناً على كمال قدرة الله تعالى وليستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم الله به عليهم. ﴿قال قائل منهم﴾ مستفهماً من إخوانه: ﴿كم لبثتم﴾ نائمين في ذا الكهف من ليلة أو يوم؟ وهذا يدل على أنّ هذا القائل استشعر طول لبثهم مما رأى من هيئتهم أو بغير ذلك من الأمارات ﴿قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم﴾ لأنهم دخلوا الكهف طلوع الشمس وبعثوا آخر النهار فلما رأوا الشمس باقية قالوا: أو بعض يوم فلما نظروا إلى طول أظفارهم وشعورهم ﴿قالوا ربكم أعلم بما لبثتم﴾ فأحالوا العلم على الله تعالى قال ابن عباس القائل ذلك هو رئيسهم تمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى، وعلم أن مثل هذا التغيير لا يحصل إلا في الأيام الطويلة، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند المثناة والباقون بالإدغام، ثم لما علموا أنّ الأمر ملتبس عليهم لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا: ﴿فابعثوا أحدكم بورقكم هذه﴾، أي: بفضتكم، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة بسكون الراء والباقون بكسرها والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا ويدل عليه ما روي أن غرفجة اتخذ
فرحون.
ولما كانت النفس لا يتم سرورها إلا بالقرين الملائم قال تعالى:
﴿هم﴾ أي: بظواهرهم وبواطنهم ﴿وأزواجهم﴾ أي: أشكالهم الذين لهم في غاية الملاءمة كما كانوا يتركونهم في المضاجع على ألذ ما يكون ويصفون أقدامهم في خدمتنا وهم يبكون من خشيتنا، وفي هذا إشارة إلى عدم الوحشة ﴿في ظلال﴾ أي: يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد فلا تصيبهم الشمس كما كانوا يشوون أكبادهم في دار العمل بحر الصيام والصبر في مرضاتنا على الآلام ويعرون أيديهم وقلوبهم من الأموال ببذل الصدقات في سبيلنا على ممر الليالي وكر الأيام.
تنبيه: ظلال جمع ظل كشعاب أو ظله كقباب ويؤيده قراءة حمزة والكسائي بضم الظاء ولا ألف بين اللامين وهم مبتدأ وخبره في ظلال كما قاله أبو البقاء.
ولما كان التمتع لا يكمل إلا مع العلو الممكن من زيادة العلم الموجب لارتياح النفس وبهجة العين بانفساح البصر عند مد النظر قال تعالى ﴿على الأرائك﴾ أي: السرر المزينة العالية التي هي داخل الحجال قال ثعلب لا تكون أريكة حتى تكون عليها حجلة وقال ابن جرير الأرائك الحجال فيها السرر وروى أبو عبيدة في (الفضائل) عن الحسن قال: كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا رجل من أهل اليمن، فأخبرنا أن الأريكة عندهم الحجلة فيها السرير وهذا جزاء لما كانوا يلزمون المساجد ويغضون أبصارهم ويضعون نفوسهم لأجلنا ﴿متكئون﴾ كما كانوا يدأبون في الأعمال قائمين بين أيدينا في أغلب الأحوال، والاتكاء الميل على شق مع الاعتماد على ما يريح الاعتماد عليه أو الجلوس مع التمكن على هيئة المتربع وفي هذا إشارة إلى الفراغ وقوله تعالى:
﴿لهم﴾ أي: خاصة بهم ﴿فيها فاكهة﴾ أي: لا تنقطع أبداً ولا مانع لهم من تناولها ولا يتوقف ذلك على غير الإرادة إشارة إلى أن لا جوع هناك؛ لأن التفكه لا يكون لدفع الجوع ﴿ولهم ما يدعون﴾ أي: يتمنون.
تنبيه: في ما هذه ثلاثة أوجه: موصولة اسمية نكرة موصوفه، والعائد على هذين محذوف مصدرية، ويدعون مضارع ادعى افتعل من دعا يدعو أشرب معنى التمني، وقال الزجاج: هو من الدعاء أي: ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم من دعوت غلامي فيكون الافتعال بمعنى: الفعل كالاحتمال بمعنى: الحمل والارتحال بمعنى: الرحل، وقيل: افتعل بمعنى: تفاعل أي: ما يتداعونه كقولهم: ارتموا وتراموا بمعنى واحد، ثم فسر الذي يدعونه أي: يطلبونه بغاية الاشتياق إليه واستأنف الإخبار عنه بقوله تعالى:
﴿سلام﴾ أي: عظيم جداً عليكم يا أهل الجنة والسلام يجمع جميع النعم ثم بين هذا السلام بما أظهر من عظمه بقوله ﴿قولاً من رب﴾ أي: دائم الإحسان ﴿رحيم﴾ أي: عظيم الإكرام بما ترضاه الإلهية كما كانوا في الدنيا يفعلون كل ما فيه الرضا فيرحمهم في حال السلام وسماع الكلام بلذّة الرؤية مع التقوية على الدهش والضعف لعظيم الأمر وبالتأهيل لهذا المقام الأكرم مع قصورهم عنه.
روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته
﴿إذا تتلى﴾ أي: تذكر على سبيل المتابعة ﴿عليه﴾ ولو كان ذلك على سبيل الخصوص له ﴿آياتنا﴾ أي: العلامات الدالة دلالة هي في غاية الظهور على الملك الأعلى وعلى ماله من صفات العظمة ﴿قال﴾ أي: مفاجأة من غير تأمل ولا توقف عوضاً عن شكرنا ﴿أساطير﴾ جمع سطور جمع سطر ﴿الأولين﴾ أي: أشياء سطروها ودونوها وفرغوا منها، فحمله دنيء طبعه على تكثره بالمال، فورطه في التكذيب بأعظم ما يمكن سماعه، فجعل الكفر موضع الشكر، ولم يستح من كونه يعرف كذبه كل من سمعه، فأعرض عن الشكر ووضع موضعه الكفر، فكان هذا دليلاً على جميع تلك الصفات السابقة، مع التعليل بالاستناد إلى ما هو عند العاقل أوهى من بيت العنكبوت والاستناد إليه وحده كاف في الاتصاف بالرسوخ في الدناءة.
وقرأ ابن عامر وشعبة وحمزة بهمزتين مفتوحتين وابن عامر يسهل الثانية، وشعبة وحمزة بتحقيقهما وهشام على أصله يدخل بينهما ألفاً والباقون بهمزة واحدة مفتوحة. قال القرطبي: فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين، فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على ﴿زنيم﴾ ويبتدىء ﴿أن كان﴾ على معنى ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه؟ ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين، ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر؟ ودل عليه ما تقدم من الكلام، فصار كالمذكور بعد الاستفهام، ومن قرأ أن كان بغير استفهام فهو مفعول من أجله، والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير: يكفر لأن كان ذا مال وبنين، ودل على هذا الفعل ﴿إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين﴾ ولا يعمل في إذا تتلى ولا قال، لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها؛ لأن إذا تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. وقال: جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط، فيصير مقدماً مؤخراً في حال واحد.
ويجوز أن يكون المعنى: لا تطعه لإن كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على زنيم، لأن المعنى: لأن كان ذا مال كان، فأن متعلقة بما قبلها. وقال غيره: يجوز أن تتعلق بقوله تعالى: ﴿مشاء بنميم﴾ والتقدير: يمشي بنميم لإن كان ذا مال وبنين، وأجاز أبو علي أن تتعلق بعتل. ومعنى ﴿أساطير الأولين﴾ أباطيلهم وترهاتهم.
﴿سنسمه﴾ أي: نجعل له سمة، أي: علامة يعرف بها ﴿على الخرطوم﴾ أي: الأنف يعير بها ما عاش، قال ابن عباس: سنسمه سنخطمه بالسيف، قال: وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف، فلم يزل مخطوماً إلى أن مات، والتعبير عن الأنف بهذا للاستهانة والاستخفاف. وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها. وقال الكسائي: سنكويه على وجهه وقال أبو العالية ومجاهد: سنسمه على الخرطوم، أي: على أنفه ونسوّد وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه قال تعالى: ﴿يوم تبيض وجوه وتسود وجوه﴾ (آل عمران: ١٠٦)
فهي علامة ظاهرة ﴿ونحشر المجرمين يومئذ زرقا﴾ (طه: ١٠٢)
وهذه علامة أخرى ظاهرة.
وأفادت هذه الآية علامة ثالثة: وهي الوسم على الأنف بالنار، وهذا كقوله تعالى: ﴿يعرف المجرمون بسيماهم﴾ (الرحمن: ٤١)
قال القرطبي: والخرطوم الأنف من الإنسان، ومن


الصفحة التالية
Icon