«كان رجل يدخل على النبيّ ﷺ فعقد له عقداً فجعله في بئر رجل من الأنصار فأتاه ملكان يعوذانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أحدهما: أتدري ما وجعه؟ قال فلان الذي يدخل عليه عقد له عقداً فألقاه في بئر فلان الأنصاري فلو أرسل رجلاً لوجد الماء أصفر فبعث رجلاً فأخذ العقد فحلها فبرىء، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبيّ ﷺ فلم يذكر له شيئاً منه ولم يعاتبه»، وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ امرأة يهودية سمّت رسول الله ﷺ فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك فقال: «ما كان الله ليسلطك على ذلك ـ أو قال ـ عليّ» قالوا: أفلا نقتلها؟ قال: «لا» قال أنس: فما زلت أعرفها في لهوات النبيّ ﷺ فانظر إلى عفوه ﷺ واقتد به»، وفي ذلك غاية العفو والإحسان امتثالاً لأمر ربه تعالى، وقيل: فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم.
﴿ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم﴾ أي: وأخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم.
فإن قيل: هلا قال من النصارى؟ أجيب: بأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادّعاء لنصرة الله تعالى لقولهم لعيسى: ﴿نحن أنصار الله﴾ (آل عمران، ٥٢) وليسوا موصوفين به قال الحسن: فيه دليل على أنهم نصارى بتسميتهم لا بتسمية الله تعالى ﴿فنسوا﴾ أي: تركوا ترك الناسي ﴿حظاً﴾ أي: نصيباً عظيماً يتنافس في مثله ﴿مما ذكّروا به﴾ أي: في الإنجيل من الإيمان ومن أوصاف محمد ﷺ وغير ذلك ونقضوا الميثاق ﴿فأغرينا﴾ أي: أوقعنا ﴿بينهم﴾ أي: النصارى بعد أن جعلناهم فرقاً متباينين وهم نسطورية ويعقوبية وملكانية وكذا بينهم وبين اليهود ﴿العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة﴾ أي: بتفرّقهم واختلاف أهوائهم فكل فرقة تكفر الأخرى وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية والباقون بتحقيقهما ﴿وسوف ينبئهم الله﴾ أي: يجزيهم في الآخرة ﴿بما كانوا يصنعون﴾ فيجازيهم عليه.
وقوله تعالى: ﴿يا أهل الكتاب﴾ خطاب لليهود والنصارى ووحد الكتاب لأنه للجنس ﴿قد جاءكم رسولنا﴾ وهو أفضل الخلق محمد ﷺ ﴿يبين لكم﴾ أي: يوضح إيضاحاً شافياً ﴿كثيراً مما كنتم تخفون﴾ أي: تكتمون ﴿من الكتاب﴾ أي: التوراة والإنجيل كنعت محمد ﷺ وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى وأحمد في الإنجيل ﴿ويعفو عن كثير﴾ أن مما تخفونه فلا يبينه إذا لم يكن فيه مصلحة في أمر ديني أو عن كثير منكم فلا يؤاخذه بجرمه ﴿قد جاءكم من الله نور﴾ هو محمد ﷺ الذي جلا ظلمات الشك والشرك ﴿وكتاب﴾ هو القرآن العظيم ﴿مبين﴾ أي: بين في نفسه مبين لما كان خافياً على الناس من الحق.
﴿يهدي به الله﴾ أي: بالكتاب وقيل: بهما ووحد الضمير لأنّ المراد بهما واحد لأنهما كواحد في الحكم ﴿من اتبع رضوانه﴾ أي: رضاه بأن آمن ﴿سبل﴾ أي: طرق ﴿السلام﴾ أي: السلامة من العذاب أو الله باتباع شرائع دينه ﴿ويخرجهم من الظلمات﴾ أي: أنواع الكفر والوساوس الشيطانية ﴿إلى النور﴾ أي: الإسلام ﴿بإذنه﴾ أي: بإرادته أو بتوفيقه ﴿ويهديهم إلى صراط مستقيم﴾ أي: طريق هي أقرب الطرق إلى الله تعالى ومؤدّ إليه لا محالة وهو الدين الحق.
﴿لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم﴾ وذلك حيث جعلوه إلهاً وهم اليعقوبية فرقة من النصارى، وقيل: ما صرحوا به ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث
حينئذٍ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم، وقيل إنّ تمليخا لما حمل إلى الملك الصالح قال له الملك: من أنت؟
قال: أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواماً لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أنّ فتية فقدوا في الزمان الأوّل وأن أسماؤهم مكتوبة على لوح في خزانته فدعا باللوح فنظر في أسمائهم فإذا اسمه مكتوب في ذكر أسماء ألاخرين فقال تمليخا: هم أصحابي فلما سمع الملك ذلك ركب هو ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال تمليخا: دعوني حتى أدخل على أصحابي وأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل فبشرهم فقضبت روحه وأرواحهم وأغمي على الملك وأصحابه أثرهم فلم يهتدوا عليهم.
ثم وقع التنازع في أمرهم بين أهل المدينة كما قال تعالى: ﴿إذ يتنازعون﴾، أي: أهل المدينة ﴿بينهم أمرهم﴾، أي: أمر الفتية في البناء حولهم ﴿فقالوا﴾، أي: الكفار ﴿ابنوا عليهم﴾، أي: حولهم ﴿بنياناً﴾ يسترهم فإنهم كانوا على ديننا وقوله تعالى: ﴿ربهم أعلم بهم﴾ يجوز أن يكون من كلام الله تعالى وأن يكون من كلام المتنازعين فيهم ﴿قال الذين غلبوا على أمرهم﴾، أي: أمر الفتية وهم المؤمنون ﴿لنتخذن عليهم﴾، أي: حولهم ﴿مسجداً﴾ يصلى فيه وفعل ذلك على باب الكهف، وقيل: إنّ بعضهم قال: الأولى أن نسدّ باب الكهف عليهم لئلا يدخل أحد عليهم ولا يقف على أحوالهم إنسان. وقال الآخرون: بل الأولى أن نبني على باب الكهف مسجداً وهذا القول يدل على أنّ أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله ومعترفين بالعبادة والصلاة، وقيل: تنازعوا في مقدار مكثهم وقيل في عددهم وأسمائهم. تنبيه: بنياناً يجوز أن يكون مفعولاً به جمع بنيانة وأن يكون مصدراً. ولما ذكر أصحاب الكهف عند النبيّ ﷺ وقع الاختلاف في عددهم كما قال تعالى:
أي: الخائضون في قصتهم من أهل الكتاب والمؤمنين فقال بعض أهل الكتاب: ﴿ثلاثة رابعهم كلبهم﴾، أي: هم ثلاثة رجال ورابعهم كلبهم بانضمامه إليهم ﴿ويقولون﴾، أي: بعضهم ﴿خمسة سادسهم كلبهم﴾ فهذان القولان لنصارى نجران وقيل الأوّل قول اليهود والثاني قول النصارى. فإن قيل: لم جاءت سين الاستقبال في الأوّل دون الأخيرين؟ أجيب: بانّ في ذلك وجهين أن تدخل الأخيرين في حكم السين كما تقول قد أكرم وأنعم تريد معنى التوقع في الفعلين وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له. ولما كان قولهم ذلك بغير علم كان ﴿رجماً بالغيب﴾، أي: ظناً في الغيبة عنهم فهو راجع إلى القولين معاً ونصب على المفعول له، أي: لظنهم ذلك ﴿ويقولون﴾، أي: المؤمنون ﴿سبعة وثامنهم كلبهم﴾ قال أكثر المفسرين: هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه الأوّل أنه تعالى لما حكى قوله ﴿ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم﴾ قال بعده: ﴿قل ربي أعلم بعدّتهم ما يعلمهم إلا قليل﴾ وأتبع القولين الأوّلين بقوله تعالى: ﴿رجماً بالغيب﴾ وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أنّ الحال في الباقي بخلافه أن يكون المخصوص بالظنّ الباطل هو القولان الأوّلان، وأن يكون القول الثالث مخالفاً لهما في كونه رجماً بالغيب. الوجه الثاني: أنّ الواو في قوله تعالى: ﴿وثامنهم﴾ هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً من المعرفة في نحو
صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
*كفى بالشيب والإسلام للمرء ناهياً*
فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما قال الشاعر:
*كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
فقال عمر رضي الله عنه: أشهد أنك رسول الله يقول الله عز وجل ﴿وما علمناه الشعر وما ينبغي له﴾ وعن ابن شريح قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله ﷺ يتمثل بشيء من الشعر قالت: «كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت: وربما قال:
*ويأتيك بالأخبار من لم تزود*
وفي رواية قالت: كان الشعر أبغض الحديث إليه قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بين قيس طرفة العبدي:
فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فقال: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي» وقيل: معناه ما كان متأتياً له، وأما قوله ﷺ كما رواه مسلم والبخاري: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» وقوله كما رواه الشيخان أيضاً:*ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود*
* «هل أنت إلا إصبع دميت | وفي سبيل الله ما لقيت» * |
وقيل: الضمير للقرآن أي: وما يصح أن يكون القرآن شعراً، فإن قيل: لم خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي ﷺ أشياء من جملتها السحر والكهانة ولم يقل: وما علمناه السحر وما علمناه الكهانة؟ أجيب: بأن الكهانة إنما كانوا ينسبون النبي ﷺ إليها عندما كان يخبر عن الغيوب وتكون كما يقول وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكليم الجذع والحجر وغير ذلك، وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلو القرآن عليهم لكنه ﷺ ما كان يتحدى إلا بالقرآن كما قال تعالى ﴿إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله﴾ (البقرة: ٢٣)
إلى غير ذلك ولم يقل: إن كنتم في شك من رسالتي فأخبروا بالغيوب أو أشبعوا الخلق الكثير بالشيء اليسير. فلما كان تحديه ﷺ بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم.
وما نفى أن يكون ما أتى به من جنس الشعر قال تعالى:
﴿إن﴾ أي: ما ﴿هو﴾ أي: هذا الذي آتاكم به ﴿إلا ذكر﴾ أي: شرف وموعظة ﴿وقرآن﴾ أي: جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين والنظر إلى وجه الله العظيم ﴿مبين﴾ أي: ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز ﴿قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين﴾ (ص: ٨٦)
كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جداً إنما ذكر للأذكياء جداً وقوله تعالى:
﴿لينذر﴾ ضميره للنبي ﷺ ويدل له قراءة نافع وابن عامر بالتاء الفوقية على الخطاب وقيل: للقرآن ويدل له قراءة الباقين بالياء التحتية على الغيبة، واختلف في قوله تعالى ﴿من كان حياً﴾ على قولين: أحدهما:
عليه الأمر وجد في فصله شمر عن ساقه لأجله وشمرت حرمه عن سوقهنّ غير محتشمات فهو كناية عن هذا، ولذلك نكره تهويلاً له وتعظيماً، نقل هذا التأويل عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما، وعن انكشاف جميع الخلائق وظهور الجلائل فيه والدقائق من الأهوال وغيرها، كما كشفت هذه الآيات جميع الشبه، فتركت السامع لها في مثل ضوء النهار، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار: اذكر فيكون على هذا مفعولاً به وعلى الأول لا يوقف على صادقين.
تنبيه: علم مما تقرر أن كشف الساق كناية عن الشدة، قال الراجز:
*عجبت من نفسي ومن إشفاقها | ومن طرادي الطير عن أرزاقها* |
*في سنة قد كشفت عن ساقها | حمراء تبرى اللحم عن عراقها* |
*أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها | وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا* |
*قد شمرت عن ساقها فشدوا | وجدّت الحرب بكم فجدّوا* |
﴿ويدعون﴾ أي: من داعي الملك الديان ﴿إلى السجود﴾ توبيخاً على تركه الآن وتنديماً وتعنيفاً لا تعبداً وتكليفاً، فيريدونه ليفدوا أنفسهم مما يرون من المخاوف ﴿فلا﴾ أي: فتسبب عن ذلك أنهم لا ﴿يستطيعون﴾ لأنهم غير سالمين لا أعضاء لهم تنقاد به مع شدة معالجتهم لأنفسهم فيقول الله تعالى أي: للساجدين: عبادي ارفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار، قال أبو بردة: فحدثت هذا الحديث عبر بن عمر العزيز، فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث، فحلف له ثلاثة أيمان فقال: ما سمعت في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إلي من هذا الحديث، وأما غير الساجدين فعن ابن مسعود تعقم أصلابهم، أي: ترد عظامها بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض،