عن النبيّ ﷺ إنه قال: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً» وقال أبو عبد الرحمن الجيلي: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المسلمين المهاجرين؟ فقال عبد الله له: يا هذا ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم قال: فأنت غنيّ من الأغنياء قال: ألك خادم؟ قال: نعم قال: أنت من الملوك. وقال السديّ: وجعلكم أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم، وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعاً وفيه نهر جارٍ فهو ملك.
وثالثها: قوله تعالى: ﴿وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين﴾ وذلك، لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام كفلق البحر لهم وأهلك عدوّهم وأورثهم أموالهم وأنزل عليهم المنّ والسلوى وأخرج لهم المياه الغزيرة من الحجر وأظلّ فوقهم الغمام، ولم يجتمع الملك والنبوّة لقوم كما اجتمعا لهم، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله تعالى وهم أحباب الله وأنصار دينه، وقيل: المراد بالعالمين عالمو زمانهم. وقال الكلبيّ: إن جعلت العالمين عامّاً وجب تخصيص «ما» لئلا يلزم أنهم أوتوا ما لم تؤت هذه الأمّة من الكرامة والفضل وغير ذلك وإن خصصته بعالمي زمانهم ف «ما» باقية على عمومها إذ لا محذور.
ولما ذكرهم هذه النعم وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بجهاد العدوّ فقال:
﴿يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة﴾ أي: المطهرة وهي أرض بيت المقدس سمّيت بذلك لأنها كانت مسكن الأنبياء والمؤمنين وقال مجاهد: هي الطور وما حوله. وقال الكلبيّ: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردُنّ وهو بضم الدال وتشديد النون اسم نهر أو كورة بالشأم قاله الجوهريّ، وقال قتادة: هي الشأم كلها ﴿التي كتب الله لكم﴾ أي: في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن وقال السديّ: أمركم بدخولها.
فإن قيل: على القول الأوّل: كيف كتبها لهم بعد قوله تعالى بعد ﴿فإنها محرمة عليهم﴾ ؟ أجيب: بأجوبة أوّلها: قال ابن عباس: إنها كانت هبة ثم حرّمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم، ثانيها: اللفظ وإن كان عاماً لكم المراد به الخصوص فكأنها كتبت لبعضهم وحرّمت على بعضهم، ثالثها: إنّ الوعد بقوله تعالى: ﴿كتب الله لكم﴾ مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط، رابعها: إنها محرّمة عليهم أربعين سنة فلما مضت الأربعون حصل ما كتب ﴿ولا ترتدّوا على أدباركم﴾ أي: ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من العدوّ ﴿فتنقلبوا خاسرين﴾ أي: في سعيكم، وذلك أنّ قوم موسى لما أخرجوا من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشأم.
قال الكلبيّ: صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له: انظر ما أدرك بصرك فهو مقدّس وهو ميراث لذريّتك، وكان بنو إسرائيل يسمّون أرض الشأم أرض الموعد، ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيباً ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأرض فلما دخلوا تلك الأماكن رأوا أجساماً عظيمة، قال ابن عادل: قال المفسرون فأخذهم أحد أولئك الجبارين وجعلهم في كمّه مع فاكهة قد حملها، من بساتينه، وأتى بهم للملك ونثرهم بين يديه وقال تعجيباً للملك: هؤلاء يريدون قتالنا فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه بما شاهدتم، ثم انصرف هؤلاء النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلين منهم وهما يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا فتى موسى وكان من سبط يهوذا فإنهما
الضحاك والسدي هذا في الصلاة المنسية. قال الرازيّ: وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القصة وجعله مستأنفاً يصير الكلام مبتدأ منقطعاً وذلك لا يجوز وفي قوله تعالى: ﴿وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً﴾ وجوه الأوّل: أن يكون قوله تعالى: ﴿إلا أن يشاء الله﴾ ليس يحسن تركه وذكره أولى من تركه وهو قوله: ﴿لأقرب من هذا رشداً﴾ والمراد منه ذكر هذه الجملة. الثاني: أنه لما وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول وعسى أن يهدين ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به. الثالث: أنّ قوله: ﴿عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً﴾ إشارة إلى قصة أصحاب الكهف، ، أي: لعلّ الله يوفقني من البينات والدلائل على صحة نبوّتي وصدقي في ادعاء النبوّة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من قصة أصحاب الكهف، وقد فعل الله تعالى ذلك حين آتاه من قصص الأنبياء والأخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك. ثم شرع تعالى في آية هي آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف بقوله تعالى:
﴿ولبثوا في كهفهم﴾، أي: نياماً ﴿ثلاثمئة﴾، أي: مدّة ثلاثمئة ﴿سنين﴾ قال بعضهم: وهذه السنون الثلاثمئة عند أهل الكتاب شمسية وتزيد القمرية عليها تسع سنين وقد ذكرت في قوله: ﴿وازدادوا تسعاً﴾، أي: تسع سنين لأنّ التفاوت بين الشمسة والقمرية في كل ما ئة سنة ثلاث سنين لأنّ السنة الشمسية تزيد على السنة القمرية عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة فالثلاثمئة سنة الشمسية ثلاثمئة وتسع قمرية قال الرازي: وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول ويمكن أن يقال لعلهم لما استكملوا ثلاثمئة سنة قرب أمرهم من الإنتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين وقرأ حمزة والكسائي بغير تنوين في الوصل والباقون بالتنوين فسنين عطف بيان لثلاثمائة لأنه لما قال: ﴿ولبثوا في كهفهم ثلاثمئة﴾ لم يعرف أنها أيام أو شهور أو سنون، فلما قال: ﴿سنين﴾ صار هذا بياناً لقوله ثلاثمئة فكان ذلك عطف بيان له وقيل هو على التقديم والتأخير، أي: لبثوا سنين ثلاثمئة. وأمّا وجه القراءة الأولى فهو أنّ الواجب في الإضافة أن يقال ثلاثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كقوله تعالى: ﴿بالأخسرين أعمالاً﴾ (الكهف، ١٠٣)
وحذف مميز تسع لدلالة ما تقدّم عليه إذ لا يقال عندي ثلاثمئة درهم وتسعة إلا وأنت تعني تسعة دراهم، ولو أردت ثياباً أو نحوها لم يجز لأنه ألغاز. ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه ﷺ إذا نازعوه في مدّة لبثهم في الكهف بقوله تعالى:
﴿قل الله أعلم بما لبثوا﴾، أي: فهو أعلم منكم وقد أخبر بمدّة لبثهم، وقيل إنّ أهل الكتاب قالوا إنّ المدّة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبيّ ﷺ ثلاثمئة سنين وازدادوا تسع سنين، فرد الله تعالى عليهم ذلك وقال: الله أعلم بما لبثوا يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله ﴿له غيب السموات والأرض﴾، أي: ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب ما يغيب عن إدراكك والله عز ذكره لا يغيب عن إدراكه شيء فيكون عالماً بهذه الواقعة لا محالة وقوله تعالى: ﴿أبصر به وأسمع﴾ كلمة تذكر في التعجب، أي: ما أبصر الله تعالى بكل موجود وما أسمعه بكل بمسموع ﴿ما لهم﴾، أي: أهل السموات والأرض ﴿من دونه﴾، أي: الله ﴿من وليّ﴾، أي: ناصر ﴿ولا يشرك في حكمه﴾، أي: في
قال البغوي: ولم يقل: رميمة؛ لأنه معدول عن فاعله فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه كقوله تعالى ﴿وما كانت أمك بغيا﴾ (مريم: ٢٨)
أسقط الهاء؛ لأنها مصروفة عن باغية.
تنبيه: هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر؛ لأن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون ﴿أءذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد﴾ (السجدة: ١٠)
﴿أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون﴾ (المؤمنون: ٨٢)
﴿من يحيي العظام وهي رميم﴾ قالوا: ذلك على طريق الاستبعاد فأبطل الله تعلى استبعادهم بقوله تعالى: ﴿ونسي خلقه﴾ أي: نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصورة، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذان بهما استحقوا الإكرام، فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة مذرة لم تكن محلاً للحياة أصلاً، ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه واختاروا العظم بالذكر؛ لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوى جانب الاستبعاد من البلاء والتفتت.
والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال: ﴿وضرب لنا مثلاً﴾ أي: جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، ومنهم من ذكر شبهة وإن كان في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين: الأول: أنه بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف الحكم على العدم بالوجود؟ فأجاب تعالى عن هذه الشبهة بأن قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ أي: لهؤلاء البعداء البغضاء ﴿يحييها﴾ أي: بعد أن أنشأها أول مرة ﴿الذي أنشأها﴾ أي: من العدم ثم أحياها ﴿أول مرة﴾ فكما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً كذلك يعيده إن لم يبق شيئاً مذكوراً.
الوجه الثاني: أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضها في أبدان السباع وبعضها في حواصل الطيور وبعضها في جدران الربوع كيف تجتمع.
وأبعد من هذا لو أكل إنسان إنساناً وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيدت أجزاء الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تنخلق منها أعضاؤه وإما أن تعاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك، فإذا أكل إنسان إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله ﴿وهو بكل خلق﴾ أي: مخلوق ﴿عليم﴾ أي: يجمع الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحه وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البقاع المتبددة بحكمته وقدرته.
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم بقوله تعالى:
﴿الذي جعل لكم﴾ أي: في جملة الناس ﴿من الشجر الأخضر﴾ أي: الذي تشاهدون فيه الماء ﴿ناراً﴾ قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما: المرخ والأخرى: العفار، الأول: بفتح الميم والخاء المعجمة شجر سريع الوري أي: القدح، والثاني: بفتح المهملة وفاء وراء بعد ألف الزند فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل
من كل خير. وقال الرازي: وهو مذموم على كونه فاعلاً للذنب، قال: والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: إن كلمة لولا دالة على أن هذه المذمومية لم تحصل. الثاني: لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. الثالث: لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله تعالى: ﴿فاجتباه﴾ أي: اختاره لرسالته ﴿ربه﴾ والفاء للتعقيب، قيل: إن هذه الآية نزلت بأحد حين حلّ برسول الله ﷺ ما حل، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا، وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف.
ثم سبب عن اجتبائه قوله تعالى: ﴿فجعله من الصالحين﴾ أي: الذين رسخوا في رتبة الصلاح فصلحوا في أنفسهم للنبوة والرسالة، وصلح بهم غيرهم فنبذ حينئذ بالعراء وهو محمود. قال ابن عباس: ردّ الله تعالى إليه الوحي وشفعه في نفسه وفي قومه وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون بسبب صبره، فمن صبر أعظم من صبره كان أعظم أجراً من أجره وأنت كذلك فأنت أشرف العالمين.
تنبيه: استدل أهل السنة على أن فعل العبد خلق لله تعالى بقوله سبحانه: ﴿فجعله من الصالحين﴾ لأن الصلاح إنما حصل بجعل الله تعالى وخلقه، وقال الجبائي: يحتمل أن يكون معنى جعل أنه أخبر بذلك، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني، والجواب: أن ذلك مجاز والأصل في الكلام الحقيقة.
﴿وإن﴾ هي المخففة، أي: وإنه ﴿يكاد الذين كفروا﴾ أي: ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف.
ولما كانت إن مخففة أتى باللام التي هي عَلَمها فقال: ﴿ليزلقونك بأبصارهم﴾ أي: ينظرون إليك نظراً شديداً يكاد أن يصرعك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح لما يتراءى في عيونهم، أو يهلكونك من قولهم: نظر إلي نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أي: لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعل قال القائل:

*يتقارضون إذا التقوا في موطن نظرا يزل مواطئ الأقدام*
وقيل: أرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش، وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حجمه، وقيل: كانت العين في بني إسرائيل فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول: لم أر كاليوم مثله إلا عانه حتى أن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها، ثم يقول: يا جارية خذي المكتل والدرهم، فائتينا من لحم هذه الناقة فما تبرح الناقة حتى تقع للموت فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم، فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب إلا قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي ﷺ بالعين فأجابهم، فلما مر النبي ﷺ أنشد:
*قد كان قومك يحسبونك سيدا وأخال أنك سيد معيون*
فعصم الله تعالى نبيه ﷺ ونزلت هذه الآية، وذكر الماوردي أن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً بعين في نفسه أو ماله يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله


الصفحة التالية
Icon