قال تعالى: ﴿لا يذوقون فيها برداً﴾ (النبأ، ٢٤) فهو ينافي ما ذكر أجيب: بأن المراد بالبرد في الآية النوم فلا منافاة وأن في قوله تعالى:
﴿والسارق والسارقة﴾ موصولة مبتدأ أي: والذي سرق والتي سرقت ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو ﴿فاقطعوا أيديهما﴾ أي: يمين كلّ واحد منهما من الكوع كما بيّنته السنة كما بيّنت أنه لا بدّ أن يكون المسروق ربع دينار فصاعداً من حرز مثله من غير شبهة له فيه، وأنه إذا عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم ثم اليد اليسرى ثم الرجل اليمنى ثم بعد ذلك يعزر.
ثم علّل تعالى ذلك بقوله: ﴿جزاء بما كسبا﴾ أي: فعلا من ذلك ثم علّل تعالى هذا الجزاء بقوله: ﴿نكالاً﴾ أي: عقوبة لهما ﴿من الله﴾ وأعاد الاسم الأعظم تعظيماً للأمر فقال: ﴿وا عزيز﴾ أي: غالب على أمره ﴿حكيم﴾ أي: بالغ الحكم والحكمة في خلقه.
﴿فمن تاب﴾ أي: من السراق ﴿من بعد ظلمه﴾ أي: سرقته ﴿وأصلح﴾ أمره بالتخلص من التبعات والعزم على أن لا يعود إليها ﴿فإنّ الله يتوب عليه﴾ أي: يقبل توبته تفضلاً منه تعالى ﴿إنّ الله غفور رحيم﴾ فلا يعذبه في الآخرة، وأمّا القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا غرم عليه وبالاتفاق إن كان المسروق قائماً عنده يسترد وتقطع يده لأنّ القطع حق الله عز وجل والغرم حق العبد ولا يمنع أحدهما الآخر وقوله تعالى:
﴿ألم تعلم﴾ الاستفهام للتقرير والخطاب مع النبيّ ﷺ وقيل: معناه ألم تعلم أيها الإنسان فيكون خطاباً لكل أحد من الناس ﴿أنّ الله له ملك السموات والأرض﴾ أي: أنّ الملك خالص له عن جميع الشوائب ﴿يعذب من يشاء﴾ تعذيبه ﴿ويغفر لمن يشاء﴾ المغفرة له ﴿وا على كلّ شيء قدير﴾ أي: ومنه التعذيب والمغفرة فليس هو كغيره من الملوك الذين قد يعجز أحدهم عن تقريب ابنه وتبعيد أعدا عدوّه.
﴿يأيها الرسول﴾ أي: المبلغ لما أرسل به وقوله تعالى: ﴿لا يحزنك﴾ قرأ نافع بضمّ الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي ﴿الذين يسارعون في الكفر﴾ أي: يقعون فيه بسرعة بأن يظهروه إذا وجدوا منه فرصة وقوله تعالى: ﴿من الذين قالوا آمنا﴾ للبيان وقوله تعالى: ﴿بأفواههم﴾ أي: بألسنتهم متعلق بقالوا ﴿ولم تؤمن قلوبهم﴾ وهم المنافقون وقوله تعالى: ﴿ومن الذين هادوا﴾ عطف على من الذين قالوا وقوله تعالى: ﴿سماعون للكذب﴾ خبر مبتدأ محذوف أي: هم سماعون والضمير في سماعون للفريقين أو للذين يسارعون ويجوز أن يكون مبتدأ ومن الذين خبره أي: ومن اليهود قوم سماعون للكذب الذي افترته أحبارهم سماع قبول ﴿سماعون﴾ منك ﴿لقوم﴾ أي: لأجل قوم ﴿آخرين﴾ من اليهود ﴿لم يأتوك﴾ أي: لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء ﴿يحرّفون الكلم﴾ أي: الذي في التوراة كآية الرجم ﴿من بعد مواضعه﴾ أي: التي وضعها الله عليها أي: يبدلونه ﴿يقولون﴾ أي: الذين يحرّفونه لمن يرسلونهم للنبيّ ﷺ ﴿إن أوتيتم هذا﴾ أي: المحرّف أي: أفتاكم به محمد ﷺ ﴿فخذوه﴾ أي: فاقبلوه منه واعلموا أنه الحق واعملوا به ﴿وإن لم تؤتوه﴾ أي: بأنّ أفتاكم بخلافه ﴿فاحذروا﴾ أن تقبلوه منه فإنه الباطل والضلال.
روي أنّ شريفاً في خيبر زنا بشريفة وكانا محصنين وحدّهما الرجم في التوراة
من حرّ جهنم فيطلبوا ما يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء قال تعالى حكاية عنهم: ﴿أفيضوا علينا من الماء﴾ (الأعراف، ٥٠)
. وقال تعالى في آية أخرى: ﴿سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار﴾ (إبراهيم، ٥٠)
. فإذا استغاثوا من حرّ جهنم صب عليهم القطران الذي يعمّ كل أبدانهم كالقميص. والصفة الثانية للماء: قوله تعالى: ﴿يشوي الوجوه﴾، أي: إذا قرب إلى الفم ليشرب فكيف بالفم والجوف ثم وصل تعالى بذلك ذمّه فقال تعالى: ﴿بئس الشراب﴾، أي: ذلك الماء الذي هو كالمهل لأنّ المقصود من شرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في إحراق الإنسان مبلغاً عظيماً ثم عطف عليه ذمّ النار المعدّة لهم بقوله تعالى: ﴿وساءت﴾، أي: النار وقوله تعالى: ﴿مرتفقاً﴾ تمييز منقول من الفاعل، أي: قبح مرتفقها وهو مقابل لقوله تعالى الآتي في الجنة: ﴿وحسنت مرتفقاً﴾ وإلا فأي ارتفاق في النار. ولما ذكر تعالى وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين فقال تعالى:
﴿إنّ الذين آمنوا﴾ ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر عطف عليه ما يحقق ذلك بقوله تعالى: ﴿وعملوا الصالحات﴾ ثم عظم جزاءهم بقوله تعالى: ﴿إنا لا نضيع﴾، أي: بوجه من الوجوه ﴿أجر من أحسن عملاً﴾ وهذه الجملة خبر إن الذين وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر والمعنى أجرهم، أي: نثيبهم بما تضمنه.
﴿أولئك لهم جنات عدن﴾، أي: إقامة فكأنه قيل فما لهم فيها فقيل: ﴿تجري من تحتهم﴾، أي: من تحت منازلهم ﴿الأنهار﴾ وذلك لأنّ أفضل المساكن ما كان تجري فيه الأنهار أو الماء فكأنه قيل ثم ماذا فقيل: ﴿يحلون فيها﴾ وبنى الفعل المجهول لأنّ المقصود وجود التحلية وهي لعزتها إنما يؤتى بها من الغيب فضلاً من الله تعالى.
ولما كانت نعم الله لا تحصى نوع منها قال تعالى مبعضاً: ﴿من أساور﴾ جمع إسورة كاحمرة جمع سوار كما يلبس ذلك ملوك الدنيا من جبابرة الكفرة في بعض الأقاليم كأهل فارس وقيل من زائدة، وقيل للابتداء ومن في قوله تعالى: ﴿من ذهب﴾ للبيان صفة لأساور وتنكيرها لتعظيم جنسها عن الإحاطة به. وقيل للتبعيض. ولما كان اللباس جزاء العمل فكان موجوداً عندهم أسند الفعل إليهم فقال: ﴿ويلبسون ثياباً خضراً﴾ لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة ثم وصفها بقوله تعالى: ﴿من سندس﴾ وهو ما رقّ من الديباج ﴿وإستبرق﴾ وهو ما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على أنّ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وفي آية أخرى ﴿بطائنها من إستبرق﴾ (الرحمن، ٥٤)
فيكون الغليظ بطانة للرقيق، ثم استأنف الوصف عن حال جلوسهم فيها بأنه جلوس الملوك المتمكنين من النعيم فقال تعالى: ﴿متكئين فيها﴾، أي: لأنهم في غاية الراحة ﴿على الأرائك﴾ جمع أريكة وهي السرير في الحجلة وهي بيت يزين بالثياب والستور للعروس ثم مدح هذا بقوله تعالى: ﴿نعم الثواب﴾، أي: الجزاء الجنة لو لم يكن لها وصف غير ما سمعتم فكيف ولها من الأوصاف ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: ﴿وحسنت﴾، أي: الجنة كلها وبين ذلك بقوله تعالى: ﴿مرتفقاً﴾، أي: مقرّاً ومرتفقاً ومجلساً ولما افتخر الكفار بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين بيّن الله تعالى أنّ ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنياً والغنيّ فقيراً وأمّا الذي يجب الافتخار به فطاعة الله تعالى وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبيّن ذلك بضرب هذا المثل المذكور
عامر بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني، والباقون بالاستفهام فيهما وسهل الهمزة الثانية في الاستفهام نافع وابن كثير وأبو عمرو وحقق الباقون، وأدخل في الاستفهام الفاء بين الهمزتين قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بغير إدخال، وقرأ قالون وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو على أنها أو العاطفة المقتضية للشك، والباقون بفتحها على أنها همزة الاستفهام دخلت على واو العطف، وقرأ الكسائي ﴿نعم﴾ بكسر العين وهو لغة فيه، وقوله تعالى:
﴿فإنما هي زجرة واحدة﴾ جواب شرط مقدر أي: إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة أي: صيحة واحدة هي النفخة الثانية من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها، وأمرها في الإعادة كأمرها بكن في الابتداء ولذلك رتب عليها ﴿فإذا هم ينظرون﴾ أي: أحياء في الحال من غير مهلة ينظر بعضهم بعضاً، وقيل: ينظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به، ولا فرق بين من صار كله تراباً ومن لم يتغير أصلاً ومن هو بين ذلك، قال البقاعي: ولعله خص بالذكر؛ لأنه لا يكون إلا مع كمال الحياة ولذلك قال ﷺ «إذا قبض الروح تبعه البصر» وأما السمع فقد يكون لغير الحي؛ لأنه ﷺ قال في الكفار من قتلى بدر: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» قال: وشاهدت أنا في بلاد العرب المجاورة لنابلس شجرة لها شوك يقال لها: الغبيرا متى قيل عندها: هات لي المنجل لأقطع هذه الشجرة أخذ ورقها في الحال في الذبول فإنه سبحانه أعلم ما سبب ذلك.
تنبيه: لا أثر للصيحة في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هو الله تعالى كما قال تعالى ﴿الذي خلق الموت والحياة﴾ (الملك: ٢)
روي أن الله تعالى يأمر الملك إسرافيل فينادي: أيها العظام النخرة والجلود البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى.
﴿وقالوا﴾ أي: كل من جمعه البعث من الكفرة بعد القيام من القبور معلنين بما انكشف لهم من أنه لا ملازم لهم غير الويل ﴿يا ويلنا﴾ أي: هلاكنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه وقال الزجّاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة وتقول لهم الملائكة: ﴿هذا يوم الدين﴾ أي: الحساب والجزاء.
﴿هذا يوم الفصل﴾ أي: بين الخلائق ﴿الذي كنتم به تكذبون﴾ وقيل: هو أيضاً من كلام بعضهم لبعض وقوله تعالى:
﴿احشروا﴾ أي: اجمعوا بكره وصغار ﴿الذين ظلموا﴾ أي: ظلموا أنفسهم بالشرك أمر من الله تعالى للملائكة عليهم السلام، وقيل: أمر من بعضهم لبعض أي: احشروا الظلمة من مقامهم إلى الموقف، وقيل: منه إلى جهنم ﴿وأزواجهم﴾ أي: وأشباههم عابدوا الصنم مع عبدة الصنم وعابدو الكواكب مع عبدتها كقوله تعالى ﴿وكنتم أزواجاً ثلاثة﴾ (الواقعة: ٧)
أي: أشكالاً وأشباهاً، وقال الحسن: وأزواجهم المشركات، وقال الضحاك ومقاتل: قرناؤهم من الشياطين وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي أي: يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة ﴿وما كانوا يعبدون من دون الله﴾ أي: غيره في الدنيا من الأوثان والطواغيت زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم، ومثل الأوثان الذين رضوا بعبادتهم لهم ولم ينكروا عليهم ذلك ويأمروهم بعبادة الله تعالى الذي تفرد بنعوت العظمة وصفات الكمال، وقال مقاتل: يعني إبليس وجنوده واحتج بقوله تعالى: ﴿أن لا تعبدوا الشيطان﴾ (يس: ٦٠)
﴿فاهدوهم إلى صراط الجحيم﴾ قال ابن عباس: دلوهم إلى طريق النار، وقال ابن كيسان: قدموهم، قال البغوي: والعرب
بقوله تعالى: ﴿يومئذ﴾ أي: إذ كان جميع ما تقدم ﴿تعرضون﴾ على الله للحساب كما يعرض السلطان الجند لينظر في أمرهم ليختار منهم المصلح للتقريب والإكرام، والمفسد للإبعاد والتعذيب، عبر بالعرض عن الحساب الذي هو جزؤه، والمحسن لا يكون له غير ذلك والمسيء يناقش.
﴿لا تخفى منكم﴾ أي: في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية؛ لأن التأنيث مجازي والباقون بالتاء وهو ظاهر، ﴿خافية﴾ أي: من السرائر التي كان من حقها أن تخفى في دار الدنيا، فإنه عالم بكل شيء من أعمالكم. ونظيرة قوله تعالى: ﴿لا يخفى على الله منهم شيء﴾ (غافر: ١٦)
. قال الرازي: والعرض للمبالغة في التهديد يعني تعرضون على من لا تخفى عليه خافية، قال القرطبي: هذا هو العرض على الله تعالى ودليله ﴿وعرضوا على ربك صفاً﴾ (الكهف: ٤٨)
وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً به، بل ذلك العرض عبارة عن المحاسبة والمساءلة وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة قال ﷺ «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله».
قال تعالى: ﴿فأما من أوتي كتابه بيمينه﴾ أي: الذي أثبتت فيه أعماله ﴿فيقول﴾ لما رأى من سعادته تبجعاً بحاله وإظهاراً لنعمة ربه؛ لأن الإنسان مطبوع على أن يظهر ما آتاه الله تعالى من خير تكميلاً للذته قيل: إنه تكتب سيئاته في باطن صحيفته وحسناته في ظاهرها فيقرأ الباطن ويقرأ الناس الظاهر، فإذا أنهاه قيل له: قد غفرها الله تعالى اقلب الصحيفة، فحينئذ يكون قوله: ﴿هاؤم اقرؤوا﴾ أي: خذوا اقرؤوا ﴿كتابيه﴾ يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح قال الشاعر:
*إذا ما راية رفعت لمجد | تلقاها عرابة باليمين* |
تنبيه: كتابيه منصوب بهاؤم عند الكوفيين، وعند البصريين باقرؤوا لأنه أقرب العاملين، والأصل: كتابي فأدخل الهاء لتتبين صحة الياء والهاء في ﴿كتابيه﴾ و ﴿حسابيه﴾ و ﴿سلطانيه﴾ و ﴿ماليه﴾ للسكت وكان حقها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف أو وصل بنية الوقف في كتابيه وحسابيه اتفاقاً، فأثبت الهاء وكذا في ﴿ماليه﴾ (الحاقة: ٢٨)
و ﴿سلطانيه﴾ (الحاقة: ٢٩)
و ﴿ماهيه﴾ (القارعة: ١٠)
في القارعة عند القراء كلهم إلا حمزة، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاثة وصلاً وأثبتها وقفاً؛ لأنها في الوقف محتاج إليها لتحصين حركة الموقوف