أي: جماعة ﴿واحدة﴾ أي: متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل ﴿ولكن﴾ لم يشأ ذلك بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة ﴿ليبلوكم﴾ أي: ليختبركم ﴿فيما آتاكم﴾ من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود المطيع منكم والعاصي ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ أي: ابتدروها انتهازاً للفرصة بغاية الجهد فقل: من يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه، وقوله تعالى: ﴿إلى الله مرجعكم جميعاً﴾ أي: بالبعث استئناف فيه تعليل للأمر بالاستباق، ووعد للمبادرين ووعيد للمقصرين ﴿فينبئكم﴾ أي: يخبركم ﴿بما كنتم فيه تختلفون﴾ أي: من أمر الدين ويجزي كلاً منكم بعمله. وقوله تعالى:
﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾ عطف على الكتاب أي: أنزلنا إليك الكتاب والحكم أو على الحق أي: أنزلناه بالحق وبأن أحكم، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون وأن احكم والباقون بضمها ﴿ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن﴾ أي: لئلا يفتنوك أي: يضلوك ويصرفوك ﴿عن بعض ما أنزل الله إليك﴾.
روي أنّ أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأنّا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وأنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله ﷺ فنزلت ﴿فإن تولوا﴾ أي: عن الحكم المنزل وأرادوا غيره ﴿فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم﴾ أي: بالعقوبة في الدنيا ﴿ببعض ذنوبهم﴾ أي: التي أتوها ومنها التولي ويجازيهم على جميعها في الآخرة ﴿وإنّ كثيراً من الناس﴾ أي: هم وغيرهم ﴿لفاسقون﴾ أي: خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات.
﴿أفحكم الجاهلية﴾ أي: خاصة مع إنّ أحكامها لا يرضى بها عاقل لكونها لم يدع إليها كتاب بل هي مجرّد أهواء وهم أهل الكتاب ﴿يبغون﴾ أي: يريدون بإعراضهم عن حكمك مع ما دعا إليه كتابهم من اتباعك وشهد كتابك المعجز عن معارضته من وجوب رسالتك إلى جميع الخلائق وهذا استفهام إنكاري، وقرأ ابن عامر بالتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وهو أدلّ على الغضب، والباقون بالياء على الغيبة. وقيل: نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا من رسول الله ﷺ أن يحكم بما كان يحكم به الجاهلية من التفاضل بين القتلى أي: بين ديّات بعضهم على بعض ﴿ومن﴾ أي: لا أحد ﴿أحسن من الله حكماً لقوم﴾ أي: عند قوم ﴿يوقنون﴾ به خصّوا بالذكر؛ لأنهم الذين يتدبرون الأمور ويتخيلون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكماً من الله جلا وعلا.
﴿يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء﴾ أي: توالونهم وتوادّونهم وتعاشرونهم معاشرة الأحباب وقوله تعالى: ﴿بعضهم أولياء بعض﴾ فيه إيماء إلى علة النهي أي: فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين وإجماعهم على مضارتكم ﴿ومن يتولهم منكم﴾ أي: ومن والاهم منكم ﴿فإنه منهم﴾ أي: من جملتهم وهذا تشديد في وجوب مجانبتهم أو لأنّ الموالين كانوا منافقين ﴿إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ أي: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار، ومن لم يرد الله هدايته لم يقدر أحد أن يهديه.k
تنبيه: اختلف في سبب نزول هذه الآية فقال قوم: نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وذلك أنهما اختصما فقال عبادة: إنّ لي أولياء من
أحداً} كما قال له صاحبه فندم حيث لا ينفعه الندم على ما فرّط في الماضي لأجل ما فاته على الدنيا لا حرصاً على الإيمان لحصول الفوز في العقبى لقصور عقله ووقوفه مع المحسوسات المشاهدة. فإن قيل: إنّ هذا الكلام يوهم أن جنته إنما هلكت بشؤم شركه وليس مراداً لأنّ أنواع البلاء أكثرها إنما يقع للمؤمنين قال تعالى: ﴿ولولا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون﴾ (الزخرف، ٣٣)
. وقال ﷺ «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل». وأيضاً لما قال: ﴿يا ليتني لم أشرك بربي أحداً﴾ فقد ندم على الشرك ورغب في التوحيد فوجب أن يصير مؤمناً فلم قال تعالى بعده:
﴿ولم تكن له فئة﴾، أي: جماعة من نفره الذين اغتر بهم ولا من غيرهم ﴿ينصرونه﴾ مما وقع فيه ﴿من دون الله﴾ عند هلاكها ﴿وما كان﴾ هو ﴿منتصراً﴾ بنفسه بل ليس الأمر في ذلك إلا لله وحده. أجيب: عن الأوّل بأنه لما عظمت حسراته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا وكان معرضاً في عمره كله عن طلب الدين فلما ضاعت الدنيا بالكلية بقي محروماً من الدنيا والدين، وعن الثاني بأنه إنما ندم على الشرك لاعتقاده أنه لو كان موحداً غير مشرك لبقيت عليه جنته فهو إنما رغب في ذلك لأجل طلب الدنيا فلذلك لم يقبل الله توحيده. وقرأ حمزة والكسائي يكن بالتحتيتة على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما أنتج هذا المثل قطعاً أنه لا أمر لغير الله تعالى المرجو لنصر أوليائه بعد ذلهم ولإغنائهم بعد فقرهم ولإذلال أعدائهم بعد عزهم وكبرهم وإفقارهم بعد إغنائهم وحده وإن غيره إنما هو كالخيال لا حقيقة له، صرّح بذلك في قوله تعالى:
﴿هنالك﴾، أي: في مثل هذه الشدائد العظيمة ﴿الولاية لله﴾، أي: الذي له الكمال كله، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الواو وأي الملك والباقون بفتحها، أي: النصرة وقوله تعالى: ﴿الحق﴾ قرأه أبو عمرو والكسائي برفع القاف على الاستئناف والقطع تعليلاً تنبيهاً على أنّ فزعهم في مثل هذه الأزمان إليه تعالى دون غيره برهان قاطع على أنه الحق وما سواه باطل وأنّ الفخر بالعرض الزائل من أجهل الجهل، وأنّ المؤمنين لا يصيبهم فقر ولا يسوغ طردهم لأجله وأنه يوشك أن يعود فقرهم غنى وضعفهم قوّة وقرأه الباقون بخفضها على الوصف، أي: الثابت الذي لا يحول يوماً ولا يزول ولا يغفل ساعة ولا ينام ولا ولاية لغيره بوجه ﴿هو خير ثواباً﴾ من ثواب غيره لو كان يثيب ﴿وخير عقباً﴾، أي: عاقبة للمؤمنين، وقرأ عاصم وحمزة بسكون القاف والباقون بضمها ونصب على التمييز.
ولما تمّ المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أنظرتهم فكانت سبباً لشقاوتهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامّة لجميع الناس في قلة ثوابها وسرعة فنائها وأنّ من تكبر كان أخس منها فقال:
﴿واضرب﴾، أي: صير ﴿لهم﴾، أي: لهؤلاء الكفار المغترّين بالعرض الفاني المفتخرين بكثرة ذكر الأموال والأولاد وعزة النفر. وقوله تعالى: ﴿مثل الحياة الدنيا﴾ مفعول أوّل ثم ذكر المثل بقوله تعالى: ﴿كماء﴾ وهو المفعول الثاني ﴿أنزلناه﴾ بعظمتنا وقدرتنا وقال تعالى: ﴿من السماء﴾ تنبيهاً على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة ﴿فاختلط﴾، أي: فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط ﴿به نبات الأرض﴾، أي: التف بسببه حتى
فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح يقول أهل الجنة للملائكة: أفما نحن بميتين؟ فتقول الملائكة: لا فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون، وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت، وقيل: إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجبه بها يقول ذلك على جهة التحديث بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها عليه، وقيل: يقوله المؤمن لقرينه توبيخاً له بما كان ينكره، وقوله:
﴿إلا موتتنا الأولى﴾ منصوب على المصدر والعامل فيه الوصف قبله ويكون استثناء مفرغاً، وقيل: هو استثناء منقطع أي: لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وهي متناوله لما في القبر بعد الإحياء للسؤال وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى ﴿لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى﴾ (الدخان: ٥٦)
﴿وما نحن بمعذبين﴾ هو استفهام تلذذ وتحدث بنعمة الله تعالى من تأبيد الحياة وعدم التعذيب.
﴿إن هذا﴾ أي: الذي ذكر لأهل الجنة ﴿لهو الفوز العظيم﴾ هو قول أهل الجنة عند فراغهم من هذه المحادثات وقوله تعالى:
﴿لمثل هذا فليعمل العاملون﴾ قيل: إنه من بقية كلامهم، وقيل: إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي: لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الإنصرام.
ولما ذكر تعالى ثواب أهل الجنة ووصفها وذكر مآكل أهل الجنة ومشاربهم وقال ﴿لمثل هذا فليعمل العاملون﴾ أتبعه بقوله تعالى:
﴿أذلك﴾ أي: المذكور لأهل الجنة ﴿خير نزلاً﴾ وهو ما يعد للنازل من ضيف أو غيره ﴿أم شجرة الزقوم﴾ أي: المعدة لأهل النار نزلاً، وانتصاب نزلاً على التمييز أو الحال وفي ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقدم للنازل ولهم ما وراء ذلك مما تقصر عنه الأفهام، وكذا الزقوم لأهل النار وهي: اسم شجرة صغيرة الورق زفرة مرة تكون بتهامة ثم سميت به: الشجرة الموصوفة، وإذا عرف هذا فالحاصل من الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغم، ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية إلا أنه جاء هذا الكلام على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم والكافرون اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم قيل لهم ذلك توبيخاً لهم على اختيارهم.
﴿إنا﴾ أي: بما لنا من العظمة والقدرة البالغة ﴿جعلناها فتنة﴾ أي: محنة وعذاباً ﴿للظالمين﴾ أي: الكافرين قال الكلبي: في الآخرة وابتلاء في الدنيا لما سمعوا بأنها في النار قالوا: كيف ذلك والنار تحرق الشجر ولم يعلموا أن من قدر على خلق يعيش في النار ويتلذذ بها فهو أقدر على خلقه الشجر في النار وحفظه من الإحراق.
ولما نزلت هذه الآية قال ابن الزبعرى: أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن يسمون التمر والزبد الزقوم، ثم أدخلهم أبو جهل بيته وقال لجاريته: زقمينا فأتته بزبد وتمر وقال: تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد، وهذا عناد منه وكذب فإنه من العرب العرباء وهم إنما يطلقونه على شجرة مسمومة يخرج لها لبن متى مس جسم أحد تورم فمات، والتزقم البلع الشديد للأشياء الكريهة وأما الزبد بالرطب فيسمى: ألوقة قاله ابن الكلبي وأنشد:
*وإني لمن سالمتهم لألوقة | وإني لمن عاديتهم سم أسود* |
{إنها شجرة تخرج في أصل
تكلفاً من المفتعل وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك: الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول. والمعنى: لو نسب إلينا قولاً لم نقله أو لم نأذن له في قوله: ﴿لأخذنا﴾ أي: لنلنا ﴿منه﴾ أي: عقاباً ﴿باليمين﴾ أي: بالقوة والقدرة.
تنبيه: الباء على أصلها غير مزيدة، والمعنى: لأخذناه بقوة منا، فالباء حالية والحال من الفاعل وتكون منه في حكم الزائدة، واليمين هنا مجاز عن القوة والغلبة، فإن قوة كل شيء في ميامنه، وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم، ومنه قول الشماخ:
*إذا ما راية رفعت لمجد | تلقاها عرابة باليمين* |
﴿ثم لقطعنا﴾ أي: بما لنا من العظمة قطعاً يتلاشى عنده كل قطع ﴿منه الوتين﴾ أي: نياط القلب وهو يتصل من الرأس إذا انقطع مات صاحبه، قال أبو زيد: وجمعه الوتن وثلاثة أوتنة والموتون الذي قطع وتينه. وقال الكلبي: هو عرق بين العلباء والحلقوم وهما علباوان بينهما العرق والعلباء عصب العنق، وقيل: عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر، وقال مجاهد رضي الله عنه: هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه.
وقال محمد بن كعب رضي الله عنه: إنه القلب ومراقه وما يليه، وقال عكرمة رضي الله عنه: إن الوتين إذا قطع، لا إن جاع عرف ولا إن شبع عرف، وقيل: الوتين من مجمع الوركين إلى مجمع الصدر بين الترقوتين، ثم تنقسم منه سائر العروق إلى سائر الجسد، ولا يمكن في العادة الحياة بعد قطعه. وقال ابن قتيبة: لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه، فكان كمن قطع وتينه. ونظيره قوله ﷺ «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري». والأبهر: عرق متصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال: هذا أوان يقتلني السم وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره ﴿فما منكم﴾ أي: أيها الناس، وأغرق في النفي فقال: ﴿من أحد عنه﴾ أي: القتل ﴿حاجزين﴾ أي: لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه، أي: الرسول ﷺ أي: لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه.
تنبيه: ﴿من أحد﴾ اسم ما ومن زائدة لتأكيد النفي، ومنكم حال من أحد وعنه حاجزين خبر ما وجمع لأن أحداً في سياق النفي بمعنى