أوّل ما يرى فإنّ الطبائع مائلة إلى المألوف مستنفرة من غيره أي: هذا من نوعه لتشابه ما يؤتون به في الصورة كما قال تعالى: ﴿وأتوا به متشابهاً﴾ أي: في اللون والصورة مختلفاً في الطعم وذلك أبلغ في باب الاعجاز، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وافتخارهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة، وقيل: في الجنة لأن طعامها متشابه الصورة كما حكي عن الحسن أنّ أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل كل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك فتقول الملائكة: كل فاللون واحد والطعم مختلف أو كما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «والذي نفس محمد بيده إنّ الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها» وعن مسروق: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى والعنقود اثنا عشر ذراعاً.
فإن قيل: على الأوّل التشابه هو التماثل في الصفة وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس: ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء. أجيب: بأن التشابه، بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم وهو كاف في إطلاق التشابه، وللآية كما قال البيضاوي محمل آخر وهو أنّ مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها فيحتمل أن يكون المراد من هذا الذي رزقنا أنه ثوابه ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والرتبة وعلوّ الطبقة، فيكون هذا في الوعد نظير قوله تعالى: ﴿ذوقوا ما كنتم تعملون﴾ (العنكبوت، ٥٥) في الوعيد ﴿ولهم فيها﴾ أي: الجنات ﴿أزواج﴾ من الحور العين والآدميات ﴿مطهرة﴾ مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهنّ كالحيض والدرن أي: الوسخ ودنس الطبع وسوء الخلق فإنّ التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال ومعنى تطهيرهنّ مما ذكر كما قال التفتازاني: إنها منزهة عن ذلك مبرأة عنه بحيث لا يعرض لهنّ لا التطهر الشرعي بمعنى إزالة النجس الحسي أو الحكمي، كما في الغسل عن الحيض والزوج يقال: للذكر والأنثى، قال تعالى: وأصلحنا له زوجه، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف.
فإن قيل: فائدة المطعوم هو التقوى ودفع ضرر الجوع وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع وهذه الفوائد مستغنى عنها في الجنة. أجيب: بأن مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها ﴿وهم فيها خالدون﴾ أي: دائمون أحياء، لا يموتون ولا يخرجون، والأصل في الخلود الثبات المديد دام أو لم يدم إذ لو كان وضعه للدوام لكان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى: ﴿خالدين فيها أبداً﴾ تأكيداً لا تأسيساً والأصل خلافه لكن المراد به الدوام في الآية عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن.
فإن قيل: الأبدان مركبة من أجزاء متضادّة الكيفية معرضة للاستحالات المؤدّية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنات؟ أجيب: بأنه تعالى يعيدها بحيث لا تعتريها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلاً متقاومة في الكيفية متساوية في القوّة لا يقوى شيء منها على
والمقصود منه أن يصرّح عيسى عليه السلام بالبراءة من ذلك فكذلك هنا. وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين والباقون بالهمزة وسكون السين. وقيل الخطاب لكل من يسمع، أي: إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك. وفيه تنبيه على أنّ من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم، وأظهر هذه الأقوال أوّلها، وهذه الأقوال تجري في قوله تعالى: ﴿لقد جاءك الحق من ربك﴾ أي: الآيات القاطعة لا مدخل للمرية فيه ﴿فلا تكونن من الممترين﴾ أي: الشاكين فيه، وفي قوله تعالى:
﴿ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين﴾ أي: الذين خسروا أنفسهم
﴿إنّ الذين حقت عليهم كلمة ربك﴾ أي: ثبت عليهم قوله تعالى الذي كتبه في اللوح المحفوظ وأخبر به الملائكة أنهم ﴿لا يؤمنون﴾ أي: يموتون كفاراً فلا يكون غيره، إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه.
﴿ولو جاءتهم كل آية﴾ فإنّ السبب الأصلي لإيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود، فإنّ الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى، وإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل ﴿حتى يروا العذاب الأليم﴾ فحينئذٍ لا ينفعهم الإيمان كما لم ينفع فرعون. وقرأ نافع وابن عامر كلمات بألف بعد الميم على الجمع، والباقون بغير ألف على الإفراد.
القصة الثالثة: قصة يونس عليه السلام المذكورة بقوله تعالى:
وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ؟ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}
﴿فلولا﴾ أي: فهلا ﴿كانت قرية﴾ واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها ﴿آمنت﴾ أي: آمن أهلها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب ﴿فنفعها﴾ أي: فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها ﴿إيمانها﴾ بأن تقبله الله تعالى منها وكشف العذاب عنها، وقوله تعالى: ﴿إلا قوم يونس﴾ استثناء منقطع بمعنى لكن قوم يونس ﴿لما آمنوا﴾ أي: لما أخلصوا الإيمان أوّل ما رأوا آية العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله ﴿كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا﴾ ويجوز أن يكون متصلاً، والجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه كأنه قيل: ما آمن أهل قرية من القرى الهالكة فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس ﴿ومتعناهم إلى حين﴾ أي: إلى انقضاء آجالهم. روي عن ابن مسعود وغيره: أنّ قوم يونس كانوا بأرض نينوى من أرض الموصل، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام، يدعوهم إلى الإيمان فدعاهم فأبوا فقيل له: إنّ العذاب مصبحهم إلى ثلاثة أيام فأخبرهم بذلك فقالوا: إنا لم نجرب عليك كذباً، فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أنّ العذاب مصبحكم.
فلما كان في جوف تلك الليلة خرج يونس عليه السلام من بين أظهرهم، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم قدر ميل. وقال وهب: غامت السماء غيماً عظيماً، أسود هائلاً يدخن دخاناً عظيماً فهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا يونس بينهم فلم يجدوه، وقذف الله تعالى في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وأولادهم ودوابهم ولبسوا المسوح، وأظهروا الإيمان والتوبة، وأخلصوا النية، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من النساء والدواب فحنّ بعضها إلى بعض، وعلت أصواتها واختلطت بأصواتهم، وعجوا وتضرّعوا إلى الله تعالى وقالوا آمنا بما جاء به يونس عليه السلام، فرحمهم الله تعالى، واستجاب دعاءهم،
على أوجه: أحدها: أنها ضمير الكفار، أي: فإن عصاك الكفار في أمرك لهم بالتوحيد، الثاني: أنها ضمير العشيرة، وهذا أقرب كما جرى عليه السلف والجلال المحلي، الثالث: أنها ضمير المؤمنين أي: فإن عصاك المؤمنون في فروع الإسلام وبعض الأحكام بعد تصديقك والإيمان برسالتك، وهذا كما قال ابن عادل: في غاية البعد ﴿فقل﴾ أي: تاركاً لما كنت تعاملهم من اللين ﴿إني بريء﴾ أي: منفصل غاية الانفصال ﴿مما تعملون﴾ أي: من العصيان الذي أنذر منه القرآن.
﴿وتوكل﴾ أي: فوّض في عصمتك ونجاتك وجميع أمورك ﴿على العزيز﴾ أي: القادر على الدفع عنك والانتقام منهم ﴿الرحيم﴾ أي: الذي نصرك عليهم برحمته، وقرأ نافع وابن عامر فتوكل بالفاء على الإبدال من جواب الشرط، والباقون بالواو، ثم أتبع الأمر بالتوكل الوصف المقتضى لجميع أوصاف الكمال بقوله تعالى:
﴿الذي يراك﴾ أي: بصراً وعلماً ﴿حين تقوم﴾ من نومك إلى التهجد، وقال مجاهد: أي: يراك أينما كنت، وقال أكثر المفسرين كما قال البغويّ حين تقوم إلى الصلاة أي: من نوم أو غيره.
﴿و﴾ يرى ﴿تقلبك﴾ في الصلاة قائماً وراكعاً وساجداً ﴿في الساجدين﴾ قال عكرمة عن ابن عباس أي: في المصلين، وقال مقاتل: مع المصلين في الجماعة يقول يراك حين تقوم وحدك للصلاة ويراك إذا صليت مع المصلين جماعة، وقال مجاهد: يرى تقلب بصرك في المصلين فإنه كان يبصر من خلفه كما يبصر أمامه.
وروى أبو هريرة أنّ رسول الله ﷺ قال: «هل تدرون قبلتي ههنا فو الله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري»، وقال عطاء عن ابن عباس: أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأمة، وقيل: تردّدك في تصفح الأحوال المتهجدين من أصحابك لتطلع عليهم من حيث لا يشعرون، وتستبطن سرائرهم وكيف يعبدون الله وكيف يعملون لآخرتهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات فوجدها كبيوت الزنابير.
﴿إنه هو﴾ أي: وحده ﴿السميع﴾ أي: لجميع أقوالكم ﴿العليم﴾ أي: بجميع ما تسرونه وتعلنونه من أعمالكم وشمول العلم يستلزم تمام القدرة فصار كأنه قال: إنه السميع البصير العليم القدير تثبيتاً للتوكل عليه، ولما بين سبحانه وتعالى أنّ القرأن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين، أكد ذلك بأن بين أنّ محمداً ﷺ لا يصح أن ينزلوا عليه من وجهين ذكرهما بقوله تعالى:
﴿هل أنبئكم﴾ أي: أخبركم خبراً جلياً نافعاً في الدين عظيم الجدوى في الفرقان بين أولياء الرحمن وإخوان الشيطان ﴿على من تنزل﴾ وتتردّد ﴿الشياطين﴾ حين تسترق السمع ولما كان كأنه قيل: نعم أشار إلى أحد الوجهين بقوله تعالى:
﴿تنزل﴾ على سبيل التدريج والتردّد ﴿على كل أفاك﴾ أي: كذاب ﴿أثيم﴾ أي: فاجر مثل مسيلمة الكذاب وغيره من الكهنة أشار إلى ثاني الوجهين بقوله تعالى:
﴿يلقون السمع﴾ أي: الآفكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها، كما جاء في الحديث الكلمة يخطفها الجنيّ فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة، ولا كذلك محمد صلى
في الذنب في قوله تعالى: ﴿ما تقدّم من ذنبك﴾ فقال البقاعي: أيّ الذي تقدّم في القتال أمرك بالاستغفار له وهو ما تنتقل عنه من مقام كامل إلى مقام فوقه أكمل منه فتراه بالنسبة إلى أكملية المقام الثاني ذنباً. وكذا قوله تعالى: ﴿وما تأخر﴾ وقال الرازي: المغفرة المعتبرة لها درجات كما أن الذنوب لها درجات حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وقال عطاء الخراساني: ﴿ما تقدّم من ذنبك﴾ يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك وما تأخر ذنوب أمّتك بدعوتك.
وقال سفيان الثوري: ﴿ما تقدّم﴾ ما عملت في الجاهلية ﴿وما تأخر﴾ كل شيء لم تعمله. قال البغوي: ويذكر مثل ذلك على سبيل التأكيد، كما يقال أعطى من رآه ومن لم يره. وقيل: ما تقدّم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد.
وقيل: المراد به ترك الأفضل. وقيل: الصغائر على طريق من جوّز الصغائر على الأنبياء وقيل المراد بالمغفرة: العصمة ومعنى قوله تعالى: ﴿وما تأخر﴾ قيل: إنه وعد للنبي ﷺ بأنه لا يذنب بعد النبوّة. وقيل: ما تقدم على الفتح وما تأخر عنه وقيل: المراد ذنب المؤمنين. وقيل: غير ذلك. والأولى في ذلك: هو الأوّل واختلف أيضاً في النعمة في قوله تعالى ﴿ويتم نعمته عليك﴾ فقال البقاعي: بنقلتك من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ومن عالم الكون والفساد إلى عالم الثبات والصلاح الذي هو أخص بحضرته وأولى برحمته وإظهار أصحابك من بعدك على جميع أهل الملل.
وقال البيضاوي: بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوّة. وقال الجلال المحلي: بالفتح المذكور. وقيل: إن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج وهو آخر التكاليف والتكليف نعمة. وقيل: بإجلاء الأرض لك عن معانديك فإنّ من يوم الفتح لم يبق للنبيّ ﷺ عدو فإنّ بعضهم قتل يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح. وقيل ويتمّ نعمته عليك في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فباستجابة دعائك في طلب الفتح.
وفي الآخرة بقبول شفاعتك. وقيل غير ذلك والأوّل أولى واختلف أيضاً في معنى الهداية في قوله تعالى: ﴿ويهديك صراطاً﴾ أي: طريقاً ﴿مستقيماً﴾ أي: واضحاً جلياً. فقال البقاعي: أي بهداية جميع قومك.
ولما كانت هدايتهم من هدايته أضافها سبحانه إليه إعلاماً له أنها هداية تليق بجنابه الشريف سروراً له وقال البيضاوي: في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرياسة. وقيل: يهدي بك. وقيل: يديمك على الصراط المستقيم. وقيل: جعل الفتح سبب الهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بفوائده العاجلة والآجلة. وقيل: المراد التعريف، أي لتعرف أنك على صراط مستقيم.
﴿وينصرك الله﴾ أي: على ملوك الأمم نصراً يليق إسناده إلى اسمه المحيط بسائر العظم ﴿نصراً عزيزاً﴾ أي: يغلب المنصور به كل من ناوأه ولا يغلبه شيء مع دوامه فلا ذّل بعده لأنّ الأمّة التي تتصف به لا يظهر عليها أحد والدين الذي قضاه لأجله لا ينسخه شيء، فإن قيل: إنّ الله تعالى وصف النصر بكونه عزيزاً والعزيز من له النصر أجيب من وجهين:
أحدهما: قال الزمخشري: إنه يحتمل وجوهاً ثلاثة:
الأوّل: معناه نصراً ذا عزة كقولك في عيشة راضية أي ذات رضا ثانيها: وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال له: كلام صادق. كما يقال له متكلم صادق. ثالثها: المراد نصراً عزيزاً صاحبه.
الوجه الثاني: أن يقال إنما يلزم ما ذكره الزمخشري إذا