ثم بين المنهي عن موالاتهم بقوله تعالى: ﴿من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم﴾ أي: اليهود. ولما خصص عمم بقوله: ﴿والكفار﴾ أي: من عبدة الأوثان وغيرهم ﴿أولياء﴾ أي: فإنّ الفريقين اجتمعوا على حسدكم وازدرائكم فلا تصح لكم مولاتهم، وقرأ أبو عمرو والكسائي بخفض الراء والباقون بالنصب عطفاً على الذين اتخذوا على أنّ النهي عن موالاة من ليس على الحق رأساً سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرفه عن الصواب كأهل الكتاب ومن لم يكن كالمشركين ﴿واتقوا الله﴾ أي: بترك المناهي ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ أي: صادقين في إيمانكم فإنّ الإيمان حقاً يقتضي ذلك وقوله تعالى:
﴿وإذا ناديتم﴾ معطوف على الذين قبله أي: ولا تتخذوا الذين إذا ناديتم أي: دعوتم ﴿إلى الصلاة﴾ بالأذان ﴿اتخذوها﴾ أي: الصلاة ﴿هزواً ولعباً﴾ بأن يستهزؤا بها ويتضاحكوا ويقولوا: صاحوا كصياح العير، وفي هذا دليل على أنّ الأذان مشروع للصلوات المكتوبات.
روى الطبراني أنّ نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أنّ محمداً رسول الله قال: أحرق الله الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شرره في البيت فأحرقه وأهله ﴿ذلك﴾ أي: الاتخاذ ﴿بأنهم﴾ أي: بسبب إنهم ﴿قوم لا يعقلون﴾ أي: فإنّ السفه يؤدّي إلى الجهل بالحق والهزء به والعقل يمنع منه ونزل لما سأل نفر من اليهود النبيّ ﷺ عمن يؤمن به من الرسل فقال: أومن بالله وما أنزل إلينا الآية، فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم.
﴿قل يأهل الكتاب هل تنقمون﴾ أي: تنكرون ﴿منا﴾ وتعيبون يقال: نقم منه كذا أنكره وانتقم إذا كافأه ﴿إلا أن آمنا با وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل﴾ أي: إلى الأنبياء وقوله تعالى: ﴿وأنّ أكثركم فاسقون﴾ عطف على أن آمنا والمعنى ما تنكرون منا إلا إيماننا ومخالفتكم في عدم قبول الإيمان المعبّر عن عدم قبوله بالفسق اللازم عن عدم القبول وليس هذا مما ينكر.
﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿هل أنبئكم﴾ أي: أخبركم ﴿بشرّ من ذلك﴾ أي: الذي تنتقمونه ﴿مثوبه عند الله﴾ نصب مثوبة على التمييز أي: ثواباً بمعنى جزاءً.
فإن قيل: المثوبة مختصة بالإحسان كما أنّ العقوبة مختصة بالشر أجيب: بأنّ ذلك على سبيل التهكم كما في قوله تعالى: ﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ (آل عمران، ٢١) وقوله تعالى: ﴿من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير﴾ (المائدة، ٦٠) بدل من بشر على حذف مضاف قبل لفظ ذلك أو قبل لفظ من لعنه وتقديره: بشر من أهل ذلك من لعنه الله أو بشر من ذلك دين من لعنه الله لأنّ الدّين المشار إليه غير مطابق لقوله: من لعنه الله في معنى يشترك فيه لفظ شر فيقدر أهل قبل ذلك أو دين قبل من ليطابق.
فإن قيل: هذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوماً عليهم بالشرّ ومعلوم إنه ليس كذلك أجيب: بأنه إنما خرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم، فإنهم حكموا بأنّ اعتقاد ذلك الدين شر فقيل لهم: هب أنّ الأمر كذلك لكن لعنة الله وغضبه ومسخ الصور شرّ من ذلك والذين لعنهم الله في هذه الآية هم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت وبعضهم خنازير وهم كفار أهل
عنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يحشر الناس حفاة عراة غرلاً، فقلت: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض، فقال: الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك» زاد النسائي في رواية لكم امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله: «يحشر الناس على ثلاث طوائف راغبين راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا»
﴿ووضع﴾ بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة ﴿الكتاب﴾ المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيّن لا يخفي على قارئ ولا غيره شيء منه، فيوضع كتاب كل إنسان في يده، إما في اليمن وإما في الشمال والمراد الجنس وهو صحف الأعمال ﴿فترى المجرمين مشفقين﴾ أي: خائفين خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة من الخلق ﴿مما فيه﴾ من قبائح أعمالهم وسيء أفعالهم وأقوالهم ﴿ويقولون﴾ عند معاينتهم ما فيه من السيآت وقولهم ﴿يا﴾ للتنبيه ﴿ويلتنا﴾ أي: هلكتنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك ﴿مال هذا الكتاب﴾ أي: أيّ شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا ﴿لا يغادر﴾ أي: لا يترك ﴿صغيرة ولا كبيرة﴾ من ذنوبنا وقال ابن عباس الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة، وقال سعيد بن جبير الصغيرة اللمم والمسيس والقبلة والكبيرة الزنا ﴿إلا أحصاها﴾ أي: عدّها وأثبتها في هذا الكتاب، ونظيره قوله تعالى: ﴿وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون﴾ (الإنفطار: ١٠، ١١، ١٢)
وقوله تعالى: ﴿إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ (الجاثية، ٢٩)
تنبيه: إدخال التاء في الصغيرة والكبيرة على تقدير أنّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة، قال بعض العلماء: احتجبوا من الصغائر قبل الكبائر لأن الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر واحترزوا من الصغائر حذراً من أن تقعوا في الكبائر، وعن سهل بن سعد قال قال رسول الله ﷺ «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء هذا بعود فطبخوا خبزهم وإن محقرات الذنوب لموبقات ﴿ووجدوا ما عملوا حاضراً﴾ أي: مثبتاً في كتابهم ﴿ولا يظلم ربك﴾ أي: الذي رباك بخلق القرآن ﴿أحداً﴾ منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب بل يجازي الأعداء بما يستحقونه تعذيباً لهم ويجازي أولياءه الذين عادوهم بما يستحقون تنعيماً لهم، روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله أنه سافر إلى عبد الله بن أنيس مسيرة شهر يستأذن فاستأذن عليه قال: فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته قلت حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ﷺ في القصاص فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يحشر الله عز وجل الناس أو قال العباد حفاة عراة بهما قلت: وما بهما قال: ليس معهم شيء ثم ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عليه حق حتى أقتص منه حتى اللطمة، قال: فقلنا كيف وإنا
اهتماماً به؛ لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل وبهذا الوجه بدأ الزمخشري، الثاني: أن يكون مفعولاً به بتريدون ويكون آلهة بدلاً منه جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها منه وفسره بها واقتصر على هذا ابن عطية، الثالث: أنه حال من فاعل تريدون أي: أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك، وإليه نحا الزمخشري، واعترضه أبو حيان بأن جعل المصدر حالاً لا يطرد إلا مع نحو أما علماً فعالم، والإفك أسوأ الكذب.
﴿فما ظنكم﴾ أي: أتظنون ﴿برب العالمين﴾ أنه جوز جعل هذه الجمادات مشاركة له في العبودية أو تظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في العبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء، أو فما ظنكم برب العالمين إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره أنه يترككم بلا عذاب لا، وكانوا نجامين فخرجوا إلى عيد لهم وتركوا طعامهم عند أصنامهم زعموا التبرك عليه فإذا رجعوا أكلوه وقالوا للسيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام: اخرج.
﴿فنظر نظرة في النجوم﴾ إيهاماً لهم أنه يعتمد عليها فيتبعوه.
﴿فقال إني سقيم﴾ أي: عليل وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فيقدر على كسرها. فإن قيل: النظر في علم النجوم غير جائز فكيف قدم إبراهيم عليه السلام عليه وأيضاً لم يكن سقيماً فكيف أخبرهم بخلاف حاله؟ أجيب عن ذلك: بأنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخاصة لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم؛ لأن قوله ﴿إني سقيم﴾ على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم، وعلى تقدير تسليم ذلك أجيب بأوجه:
أحدها: أن نظره في النجوم أو في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه الحمى في بعض ساعات الليل والنهار، فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال ﴿إني سقيم﴾ فجعله عذراً في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقاً فيما قال؛ لأن السقم كان يأتيه في ذلك الوقت.
ثانيها أنهم كانوا أصحاب النجوم أي: يعلمونها ويقضون بها على أمورهم، فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي: في علم النجوم كما تقول: نظر فلان في الفقه أي: في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في عملهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال لهم ﴿إني سقيم﴾ سكنوا إلى قوله، وأما قوله ﴿إني سقيم﴾ فمعناه سأسقم كقوله تعالى ﴿إنك ميت﴾ (الزمر: ٣٠)
أي: ستموت.
ثالثها: أن نظره في النجوم هو قوله تعالى ﴿فلما جن عليه الليل رأى كوكباً﴾ إلخ الآيات (الأنعام: ٧٦)
فكان نظره ليتعرف هذه الكواكب هل هي قديمة أو حادثة وقوله ﴿إني سقيم﴾ أي: سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل بلوغه.
رابعها: قال ابن زيد: كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مرض إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال ﴿إني سقيم﴾ أي: هذا السقم واقع لا محالة.
خامسها: أن قوله ﴿إني سقيم﴾ أي: مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد ﷺ ﴿فلعلك باخع نفسك﴾ (الكهف: ٦)
سادسها: قال الرازي: قال بعضهم: ذلك القول من
﴿ولا يسأل﴾ أي: من شدة الأهوال ﴿حميم حميماً﴾ أي: قريب في غاية القرب والصداقة قريباً مثله عن شيء من الأشياء لفرط الشواغل ولأنه قد كشفت لهم أنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً وأنه قد تقطعت الأسباب وتلاشت الأنساب وعلم أنه لا عز إلا بالتقوى.
﴿يبصرونهم﴾ أي: يبصرهم بهم مبصر فلا يخفى أحد على أحد وإن بعد مكانه ﴿يودّ المجرم﴾ أي: يتمنى الكافر أو هذا النوع سواء كان كافراً أم مسلماً عاصياً علم أنه يعذب بعصيانه ﴿لو﴾ بمعنى أن ﴿يفتدى﴾ أي: يفدي نفسه ﴿من عذاب يومئذ﴾ أي: يوم إذ كانت هذه المخاوف. وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم والباقون بكسرها، ﴿ببنيه﴾ أي: بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه لشدة ما يرى.
ولما ذكر ألصق الناس بالفؤاد وأعز من يلزمه نصره والذب عنه أتبعه ما يليه في الرتبة والمودة بقوله تعالى: ﴿وصاحبته﴾ أي: زوجه التي يلزمه الذب عنها لا سيما عند العرب من أقبح العار ولكونه دائماً معها. ولما ذكر الصاحبة لما لها من تمام الوصلة أتبعها الشقيق الذي هو عليه شفيق بقوله تعالى: ﴿وأخيه﴾ أي: الذي له به النصرة على من يريد، قال الشاعر:
*أخاك أخاك إن من لا أخا له | كنازل الهيجاء بغير سلاح* |
ولما خصص عمم بقوله تعالى: ﴿ومن في الأرض﴾ أي: من الثقلين وغيرهم سواء كان فيهم صديق لا صبر عنه ولا بدّ في كل حال منه أم لا، ثم أكد ذلك بقوله تعالى: ﴿جميعاً﴾ وقوله تعالى: ﴿ثم ينجيه﴾ أي: ذلك الافتداء عطف على يفتدى، وقوله تعالى: ﴿كلا﴾ ردّ وردع وزجر لما يودّه، وقال القرطبي: وإنها تكون بمعنى حقاً وبمعنى لا وهي هنا تحتمل الأمرين فإذا كانت بمعنى حقاً كان تمام الكلام ينجيه، وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها إذ ليس من عذاب الله افتداء.
ولما كان الإضمار قبل الذكر لتعظيم ذلك المضمر أشار إلى أنه مستحضر في الذهن لا يغيب قال تعالى: ﴿إنها﴾ أي: النار وإن لم يجر لها ذكر لدلالة لفظ عذاب عليها، وقيل: الضمير للقصة. وقيل: مبهم يفسره قوله تعالى: ﴿لظى﴾ أي: ذات اللهب الخالص المتناهي في الحرّ اسم لجهنم تتلظى، أي: تتوقد فتأكل بسببه بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله وتأكل كل ما وجدته كائناً ما كان، وقوله تعالى: ﴿نزاعة للشوى﴾ جمع شواة وهي جلدة الرأس، أي: شديدة النزع لجلود الرؤوس. وقال في «القاموس» : اليدان والرجلان والأطراف ومخ الرأس وما كان غير مقتل ا. هـ. وقرأ حفص بالنصب على الاختصاص والحال المؤكدة والمستقلة على أن لظى متلظية، والباقون بالرفع على أنها خبر إن.
﴿تدعو من أدبر وتولى﴾ عن الإيمان، تقول: إليّ يا مشرك، إليّ يا فاسق ونحو هذا، ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب.
ولما كانت الدنيا والآخرة ضرتين، فكان الإقبال على أحدهما دالاً على الإعراض عن الأخرى قال تعالى دالاً على إدباره بقلبه: ﴿وجمع﴾ أي: كل ما كان منسوباً إلى الدنيا ﴿فأوعى﴾ أي: جعل ما جمعه في وعاء وكنزه حرصاً وطول