رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله ﷺ يحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدم فقال: «انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس» قال البيضاويّ وظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل ولعل المراد بالتبليغ ما يتعلق به مصالح العباد وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه اه.
قال بعض العارفين: ولهذا قال تعالى: ﴿بلغ ما أنزل إليك﴾ ولم يقل ما تعرّفنا به إليك، واعلم أنّ المراد من الناس ههنا الكفار بدليل قوله تعالى: ﴿إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين﴾ أي: لا يمكنهم مما يريدون.
وروي «أنه عليه الصلاة والسلام نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابيّ وهو نائم وأخذ سيفه واخترطه وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: «الله تعالى» فرعدت يد الأعرابيّ وسقط من يده وضرب رأسه الشجرة حتى انتثر دماغه».
﴿قل يا أهل الكتاب لستم على شيء﴾ أي: دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه كما تقول هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه، وفي أمثالهم أقل من لا شيء ﴿حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم﴾ أي: بأن تعملوا بما فيها ومن إقامتهما الإيمان بمحمد ﷺ والإذعان لحكمه فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقته المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له والمراد إقامة أصولها وما ينسخ من فروعها ﴿وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك﴾ أي: من القرآن ﴿طغياناً وكفراً﴾ لكفرهم به ﴿فلا تأس﴾ أي: تحزن ﴿على القوم الكافرين﴾ إن لم يؤمنوا بك أي: لا تهتم بهم فإن ضرر ذلك لا حق بهم لا يتخطاهم وفي المؤمنين مندوحة عنهم لك.
﴿إنّ الذين آمنوا والذين هادوا﴾ هم اليهود ﴿والصابئون﴾ فرقة منهم ﴿والنصارى﴾ وقد سبق تفسير هذه الآية في سورة البقرة.
فإن قيل: بم رفع الصابئون وكان حقه والصابئين؟ أجيب: بأنه رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في خبر إنّ مع اسمها وخبرها كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك وأنشد سبيويه شاهداً له:

*وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق*
والشاهد في أنتم فإنه مبتدأ حذف خبره والتقدير وإلا فإنا بغاة وأنتم كذلك.
فإن قيل: ما فائدة هذا التقديم والتأخير؟ أجيب: بأنّ الصابئين أشدّ العرب المذكورين في هذه الآية ضلالاً وما سموا صابئين إلا لأنهم صبأوا عن الأديان كلها أي: خرجوا فكأنه قال: هؤلاء الفرق الذين آمنوا وأتوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك، وقيل: منصوب بالفتحة فكما جوّز بالفتحة مع الياء في بنين وسنين جوّز مع الواو كما هنا وقوله تعالى: ﴿من آمن با واليوم الآخر وعمل صالحاً﴾ في محل رفع بالابتداء وخبره ﴿فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ في الآخرة والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والجملة خبر إن.
فإن قيل: كيف قيل: الذين آمنوا من آمن؟ أجيب: بأنّ المراد بالذين آمنوا الذين آمنوا بألسنتهم وهو المنافقون أو إنّ المراد مِنْ مَنْ ثبت على الإيمان واستقام ولم تخالجه ريبة فيه.
﴿لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل﴾ أي: على الإيمان بالله ورسوله ﴿وأرسلنا إليهم رسلاً﴾ أي: ولم نكتف بهذا العهد بل
وميز الأكثرية بقوله تعالى: ﴿جدلاً﴾ أي: خصومة، قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جادلوهم في الدين لأنّ المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين ولهذا قيل: أراد بالإنسان الكافر، وقيل الآية على العموم، قال ابن الخازن: وهو الأصح وكذا قال البغوي فعن عليّ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ طرقه وفاطمة بنت رسول الله ﷺ ورضي الله تعالى عنها ليلة فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله ﷺ حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً، وقال ابن عباس أراد النضر بن الحارث وجداً له في القرآن، وقال الكلبي: أراد به خلفاً الجمحي.
ولما بيّن سبحانه وتعالى إعراضهم بيّن موجبه عندهم فقال تعالى:
﴿وما منع الناس﴾ أي: الذين جادلوا بالباطل الإيمان هكذا كان الأصل ولكنه عبر عن هذا المفعول الثاني بقوله: ﴿أن يؤمنوا﴾ ليفيد التجديد وذمّهم على الترك ﴿إذ﴾ أي: حين ﴿جاءهم الهدى﴾ أي: القرآن على لسان رسوله ﷺ وعطف على المفعول الثاني معبراً بمثل ما مضى لما مضى قوله تعالى: ﴿ويستغفروا ربهم﴾ أي: لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة.
ولما كان الاستثناء مفرغاً أتى بالفاعل فقال: ﴿إلا أن﴾ أي: طلب أن ﴿تأتيهم سنة الأوّلين﴾ أي: سنتنا فيهم وهي الإهلاك المقدّر عليهم ﴿أو﴾ طلب أن ﴿يأتيهم العذاب قبلاً﴾ أي: مقابلة وعياناً وهو القتل يوم بدر، وقيل عذاب الآخرة وقرأ الكوفيون برفع القاف والباء الموحدة والباقون بكسر القاف وفتح الباء الموحدة.
ولما كان ذلك ليس إلى الرسول وإنما هو إلى الله تعالى نبه بقوله تعالى:
﴿وما نرسل المرسلين إلا مبشرين﴾ بالثواب على أفعال الطاعة ﴿ومنذرين﴾ بالعقاب على أفعال المعصية فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم ﴿ويجادل الذين كفروا﴾ أي: يجدّدون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا ﴿بالباطل﴾ من قولهم ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو كنتم صادقين لأتيتم بما يطلب منكم مع أن ذلك ليس كذلك إذ ليس لأحد غير الله من الأمر شيء ﴿ليدحضوا به﴾ أي: ليبطلوا بجدالهم ﴿الحق﴾ أي: القرآن والمعجزات المثبتة لصدقهم ﴿واتخذوا آياتي﴾ أي: القرآن ﴿وما أنذروا﴾ أي: وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب ﴿هزوا﴾ أي: استهزاء وقرأ حفص بالواو وقفاً ووصلاً وحمزة بالواو ووقفاً لا وصلاً وسكن الزاي حمزة ورفعها الباقون ولحمزة في الوقف أيضاً النقل.
ولما حكى الله تعالى عن الكفار أحوالهم الخبيثة وصفهم بما يوجب الخزي بقوله تعالى:
﴿ومن أظلم﴾ أي: لا أحد أظلم وهو استفهام على سبيل التقرير ﴿ممن ذكر بآيات ربه﴾ أي: المحسن إليه بها وهي القرآن ﴿فأعرض عنها﴾ تاركاً لما يعرف من تلك العلامات العجيبة وما يوجب ذلك الإحسان من الشاكر ﴿ونسي ما قدّمت يداه﴾ من الكفر والمعاصي فلم يتفكر في عاقبتها ثم علل تعالى ذلك الإعراض بقوله تعالى: ﴿أنا جعلنا على قلوبهم﴾ فجمع رجوعاً إلى أسلوب واتخذوا آياتي لأنه أنص على ذم كل واحد ﴿أكنة﴾ أي: أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئاً من الخير يصل إليها فهي لا تعي شيئاً من آياتنا، ودلّ تذكير الضمير وإفراده على أنّ المراد بالآيات
أجري، واكفف عني ثيابي حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء وتراه أمي فتحزن حزناً طويلاً، واشحذ شفرتك وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله تعالى ففعل إبراهيم ما أمر به ابنه، ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه وهو يبكي والابن يبكي ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تجل شيئاً ثم أنه شحذها مرتين أو ثلاثاً بالحجر كل ذلك لا يستطيع أن يقطع شيئاً، قال السدي: ضرب الله تعالى صفيحة من نحاس على حلقه قال: فقال الإبن عند ذلك يا أبت كبني على وجهي لجبيني فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني وأدركتك رحمة تحول بينك وبين أمر الله وأنا لا أنظر الشفرة فأجزع، ففعل ذلك إبراهيم ووضع السكين على قفاه فانقلبت السكين.
﴿وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا﴾ أي: بالعزم والإتيان بالمقدمات ما أمكنك.
تنبيه: في جواب لما ثلاثة أوجه أظهرها: أنه محذوف، أي: نادته الملائكة عليهم السلام أو ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما، وقدره بعضهم بعد الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال والوصف مما لا يدرك كنهه.
ونقل ابن عطية أن التقدير: فلما أسلما سلما وتله للجبين ويعزى هذا لسيبويه وشيخه الخليل.
الثاني: أنه وتله للجبين والواو زائدة، وهو قول الكوفيين والأخفش، الثالث: أنه وناديناه والواو زائدة أيضاً واقتصر على هذا الجلال المحلي، وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار: أن إبراهيم عليه السلام لما رأى ذبح ولده قال الشيطان: لئن لم أفتن آل إبراهيم عند هذا لم أفتن أحداً منهم أبداً فتمثل الشيطان في صورة رجل وأتى أم الغلام وقال: هل تدرين أين يذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب به يحتطبان من هذا الشعب قال: والله ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت: كلا هو أرحم به وأشد حباً له من ذلك، قال: إنه يزعم أن الله أمره بذلك، قالت: فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن إن يطيع ربه، فخرج من عندها الشيطان، ثم أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه فقال له: يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: نحتطب لأهلنا من هذا الشعب قال: والله ما يريد إلا أن يذبحك، قال: ولم؟ قال: زعم أن ربه أمره، قال: فليفعل ما أمره به ربه فسمع وطاعة، فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم فقال له: أين تريد أيها الشيخ؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه، قال: والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ولدك هذا، فعرفه إبراهيم فقال: إليك عني يا عدو الله فوالله لأمضين لأمر ربي فرجع إبليس بغيظه لم يصب من إبراهيم وآله شيئاً كما أراد الله عز وجل.
وروى أبو الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنه: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أمر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
فإن قيل: لم قال تعالى: ﴿قد صدقت الرؤيا﴾ وكان قد رأى الذبح ولم يذبح؟ أجيب: بأنه جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه
الكلام الذي هو أوضح من الشمس حال كونهم ﴿قبلك﴾ أي: نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك ﴿مهطعين﴾ أي: مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مقالك، هيئة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه ﴿عن﴾ أي: متجاوزين إليك مكاناً عن جهة ﴿اليمين﴾ أي: منك حيث يتيمنون به ﴿وعن الشمال﴾ أي: منك وإن كانوا يتشاءمون به، وقوله تعالى: ﴿عزين﴾ حال من الذين كفروا، وقيل: من الضمير في مهطعين فتكون حالاً متداخلة، أي: جماعات جماعات وحلقاً حلقاً متفرقين فرقاً شتى أفواجاً لا يتمهلون ليأتوا جميعاً. جمع عزة وأصلها عزوة لأنّ كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى فهم متفرقون قال الكميت:
*ونحن وجندل باغ تركنا كتائب جندل شتى عزينا*
وجمع عزة جمع سلامة شذوذاً.
وقيل: كان المستهزؤون خمسة أرهط روي أنّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبيّ ﷺ يستمعون كلامه ويستهزؤون به ويكذبونه ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فندخلها قبلهم، فردّ الله تعالى عليهم بقوله عز من قائل: ﴿أيطمع﴾ أي: هؤلاء البعداء البغضاء، وعبر بالطمع إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في السفه لكونهم طلبوا أعز الأشياء من غير سبب تعاطوه له.
ولما كان إتيانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة قال تعالى: ﴿كل امرئ منهم﴾ أي: على انفراده ﴿أن يدخل﴾ أي: وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم، فيستوي المسيء والمحسن ﴿جنة نعيم﴾ أي: لا شيء فيها عير النعيم.
وقوله تعالى: ﴿كلا﴾ ردع لهم عن طمعهم ودخولهم الجنة، أي: لا يكون ما طمعوا فيه أصلاً؛ لأنّ ذلك ثمن فارغ لا سبب له بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء. ثم علل ذلك بقوله تعالى: ﴿إنا خلقناهم﴾ أي: بالقدرة التي لا يقدر أحد أن يقاومها ﴿مما يعلمون﴾ أي: أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة كما خلق سائر جنسهم، فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل: كانوا يستهزؤون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم فقال تعالى: ﴿إنا خلقناهم ممايعلمون﴾ أي: من القذر وهو منصبهم الذي لا منصب أوضع منه ولذلك أبهم وأخفى إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره، فلا يليق بهم هذا التكبر ويدعون التقدم ويقولون: ندخل الجنة قبلهم.
قال قتادة في هذه الآية إنما خلقت يا ابن آدم من قذر، فاتّقِ الله. وروي أنّ مطرّق بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز، فقال له: يا عبد الله ما هذه المشية التي يبغضها الله تعالى؟ فقال له: أتعرفني؟ قال: نعم، أوّلك نطفة مزرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة فمضى المهلب وترك مشيته.
فائدة: قال ابن عربي في «الفتوحات» : خلق الله الناس على أربعة أقسام: قسم لا من ذكر ولا من أنثى وهو آدم عليه السلام، وقسم من ذكر فقط وهو حوّاء، وقسم من أنثى فقط وهو عيسى عليه السلام، وقسم من ذكر وأنثى وهو بقية الناس.
﴿فلا﴾ زيدت فيه لا ﴿أقسم برب﴾ أي: سيد ومبدع ومدبر ﴿المشارق﴾ أي: التي تشرق الشمس والقمر والكواكب السيارة، كل يوم في موضع منها على المنهاج الذي دبره والطريق والقانون الذي أتقنه وسخره ستة أشهر صاعدة وستة أشهر هابطة


الصفحة التالية
Icon