﴿ولو كانوا يؤمنون با والنبيّ﴾ محمد ﷺ ﴿وما أنزل إليه﴾ من عند الله تعالى أعم من القرآن وغيره إيماناً خالصاً من غير نفاق ﴿ما اتخذوهم﴾ أي: المشركين ﴿أولياء﴾ إذ الإيمان يمنع ذلك ﴿ولكنّ كثيراً منهم فاسقون﴾ أي: خارجون عن الإيمان، وقيل معناه: ولو كانوا يؤمنون بالله وموسى كما يدعون ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يولهم المسلمون.
﴿لتجدنّ﴾ يا محمد ﴿أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا﴾ من أهل مكة لتضاعف كفرهم وجهلهم وانهماكهم في اتباع الهوى وفي جعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين دلالة على شدة عداوتهم لهم، بل نبه على تقدّم قدمهم فيها على الذين أشركوا، وكذلك فعل في قوله تعالى: ﴿ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا﴾ (البقرة، ٩٦) وعنه ﷺ «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هَمَّا بقتله» ﴿ولتجدنّ أقربهم﴾ أي: الناس ﴿مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى﴾ إنما أسند تسميتهم نصارى إليهم دون تسمية اليهود لأنهم الذين سموا أنفسهم نصارى حين قال لهم عيسى عليه السلام: ﴿من أنصاري إلى الله﴾ (آل عمران، ٥٢) الآية، أو لأنهم كانوا يسكنون قرية يقال لها: ناصرة وكلهم لم يكونوا ساكنين فيها، وعلى التقديرين فتسميتهم نصارى ليست حقيقة بخلاف تسمية اليهود يهوداً فإنها حقيقة سواء سموا بذلك لكونهم أولاد يهودا بن يعقوب أو لكونهم تابوا عن عبادة العجل بقولهم: إنا هُدْنا إليك أو لتحرّكهم في دراستهم.
ثم علل سبحانه وتعالى سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين بقوله تعالى: ﴿ذلك بأن منهم قسيسين﴾ أي: علماء ﴿ورهباناً﴾ أي: عباداً ﴿وأنهم لا يستكبرون﴾ عن اتباع الحق كما استكبر اليهودو المشركون من أهل مكة، نزلت في وفد النجاشي القادمين من الحبشة لا في كل النصارى لأنهم في عداوتهم للمسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب ديارهم وهدم مساجدهم وحرق مصاحفهم، قال أهل التفسير: ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن من افتتن وعصم الله تعالى منهم من شاء ومنع الله تعالى رسوله محمداً ﷺ بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله ﷺ ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: «إنّ ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحداً فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً» وأراد به النجاشي واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وإنما النجاشي اسم الملك كقولهم: قيصر وكسرى فخرج إليه سراً أحد عشر رجلاً وأربع نسوة من جملتهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله ﷺ فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله ﷺ وهذه الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب وتتابع المسلمون إليهما فكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك أرسلوا إلى النجاشي بالهدايا ليردّهم إليهم فعصهم الله تعالى وانصرفوا خائبين، وأقام المسلمون هناك بحسن دار وخير جوار إلى أن هاجر رسول الله ﷺ وعلا دينه في سنة ست من الهجرة كتب
وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا وما بل الماء حوافر دوابنا والأخبار في ذلك كثيرة.
ولما قال فتاه ذلك كأنه قيل فما قال موسى عليه السلام حينئذٍ؟ ﴿قال﴾ له ﴿ذلك﴾ أي: الأمر العظيم من فقد الحوت ﴿ما كنا نبغ﴾ أي: نريد من هذا الأمر المغيب عنا فإن الله تعالى جعله موعداً في لقاء الخضر، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء وصلا لا وقفاً وابن كثير يثبتها وصلاً ووقفاً والباقون بالحذف ﴿فارتدّا على آثارهما﴾ أي: فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه يقصانها ﴿قصصاً﴾ أي: يتبعان أثرهما إتباعاً أو مقتصين حتى يأتيا الصخرة، قال البقاعي: يدل على أنّ الأرض كانت رملاً لا علم فيها فالظاهر والله أعلم أنه مجمع النيل والملح عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركب في سفينته للتعدية كما في الحديث، فإن الطير لا يشرب من الملح ومن المشهور في بلاد رشيد أنّ الأمر كان عندهم وأن عندهم سمكاً ذاهب الشق يقولون: إنه من نسل تلك السمكة والله أعلم انتهى. وتقدم عن قتادة أنه ملتقى بحر فارس والروم، وقال محمد بن كعب طنجة، وقال أبيّ بن كعب: إفريقية، وقيل: البحران موسى والخضر لأنهما كانا بحري علم، قال ابن عادل: وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح في الخبر الصحيح شيء فذاك وإلا فالأولى السكوت عنه انتهى. ثم استمرا يقصان حتى انتهيا إلى موضع فقد الحوت ﴿فوجدا عبداً من عبادنا﴾ مضافاً إلى حضرة عظمتنا قيل: كان ملكاً من الملائكة والصحيح الذي جاء في التواريخ، وثبت عن النبي ﷺ أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان وكنيته أبو العباس، قيل: كان من بني إسرائيل وقيل: من أبناء الملوك الذين تنزهوا وتركوا الدنيا، والخضر لقب سمي بذلك لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء والفروة قطعة نبات مجتمعة يابسة، وقيل: سمي خضراً لأنه كان إذا صلى اخضرّ ما
حوله، روي أن
موسى عليه السلام رأى الخضر مسجى موكأ فسلم عليه فقال الخضر: وأني بأرضك السلام، قال: أنا موسى أتيتك تعلمني مما علمت رشداً، وفي رواية لقيه وهو مسجى بثوب مستلقياً على قفاه بعض الثوب تحت رأسه وبعضه تحت رجليه، وفي رواية لقيه وهو يصلي، ويروى لقيه وهو على طنفسة خضراء على كبد البحر، وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك، فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى: ما عرّفك هذا؟ فقال: الذي بعثك إليّ، وكان الخضر في أيام أفريدون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى، وقيل: إن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك؟ قال: «الذي يذكرني ولا ينساني»، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: «الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى» فقال: فأي عبادك أعلم؟ قال: «الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى»، فقال: إن كان في عبادك أفضل مني فادللني عليه قال: أعلم منك الخضر، قال: أين أطلبه؟ قال: على ساحل عند الصخرة، قال كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك ﴿آتيناه﴾ بعظمتنا ﴿رحمة من عندنا﴾ أي: وحياً ونبوة وكونه نبياً هو قول الجمهور، وقيل: إنه ليس بنبي. قال البغوي: عند أهل العلم أي: فعندهم أنه وليّ ﴿وعلمناه من لدنا﴾ أي: مما لم يجر على قوانين العادات على أنه ليس بمستغرب عند أهل
ظالمين، قال: ست سنين، قال: أنا أرحم بخلقي من ذلك، قال: فخمس سنين، قال: أنا أرحم بخلقي من ذلك، ولكن أعطيك ثأرك ثلاث سنين أجعل خزائن المطر بيدك، قال: فبأي شيء أعيش؟ قال: أسخر لك جنساً من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف ومن الأرض التي لم تقحط، قال إلياس: قد رضيت، فأمسك الله تعالى عنهم المطر حتى هلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الناس جهداً عظيماً، وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان وقد عرف ذلك قومه.l
قال ابن عباس: أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر إلياس بعجوز فقال لها: هل عندكم طعام؟ قالت: نعم شيء من دقيق وزيت قليل فدعا بهما ودعا فيه بالبركة حتى ملأ خوابيها دقيقاً وخوابيها زيتاً، فلما رأوا ذلك عندها، قالوا لها: من أين لك هذا؟ قالت: مر بي رجل من حاله كذا وكذا ثم وصفته بصفته فعرفوه وقالوا: ذلك إلياس، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ثم أنه أوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع بن أخطوب به مرض فآوته وأخفت أمره فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به، واتبع إلياس وآمن به وصدقه ولزمه وكان يذهب حيثما ذهب، وكان إلياس قد كبر سنه واليسع غلام شاب ثم إن الله تعالى أوحى إلى إلياس أنك قد أهلكت كثيراً من الخلق ممن لم يعص من البهائم والطير والهوام بحبس المطر، فقال إلياس: يا رب دعني أنا الذي أكون أدعو لهم وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم أن يرجعوا عما هم عليه من عبادة غيرك، فقيل له: نعم، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال: إنكم قد هلكتم جوعاً وجهداً وقد هلكت البهائم والهوام والشجر بخطاياكم وإنكم على باطل، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوتم الله سبحانه وتعالى، ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قالوا: أنصفت فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ثم قالوا لإلياس: إنا قد هلكنا فادع الله لنا فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر فأغاثهم وحييت بلادهم، فلما كشف الله تعالى عنهم المطر لم ينزعوا عن كفرهم وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه، فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه أن يريحه منهم، فقيل له: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس ومعه
اليسع حتى إذا كانا بالموضع الذي أمر به أقبل فرس من نار، وقيل: لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فوثب عليه إلياس وانطلق به الفرس وناداه اليسع: يا إلياس ما تأمرني؟ فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، وكان ذلك آخر عهده به ورفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش، فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً، وسلط الله تعالى على لاجب الملك وقومه عدواً لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى أرهقهم فقتل لاجب وامرأته إزميل في بستان مزدكي فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما، ونبأ الله تعالى اليسع وبعثه رسولاً إلى
﴿جعلوا أصابعهم﴾ كراهة منهم واحتقاراً للداعي ﴿في آذانهم﴾ حقيقة لئلا يسمعوا الدعاء، إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ودل على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: ﴿واستغشوا ثيابهم﴾ أي: أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم لئلا يبصروه كراهة للنظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله تعالى، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً. ﴿وأصروا﴾ أي: أكبوا على الكفر وعلى المعاصي من أصر الحمار على العانة، وهي القطيع من الوحش إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها ﴿واستكبروا﴾ أي: أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه وأكد ذلك بقوله: ﴿استكباراً﴾ تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة، وقد أفادت هذه الآيات بالصريح في غير موضع أنهم عصوا نوحاً عليه السلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار وباطناً بالإصرار والاستكبار.
﴿ثم إني دعوتهم جهاراً﴾ أي: معلناً بالدعاء، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بأعلى صوتي.
﴿ثم إني أعلنت لهم﴾ أي: كررت لهم الدعاء معلناً، وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بسكونها ﴿وأسررت لهم إسراراً﴾ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سراً بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك.
لأنه مضروب لهم. ﴿لو كنتم تعلمون﴾ أي: لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ولكنهم لانهماكهم في حبّ الدنيا كأنهم شاكّون في الموت.
ولما كان عليه السلام أطول الأنبياء عمراً وكان قد طال نصحه لهم ولم يزدادوا إلا طغياناً وكفراً ﴿قال﴾ منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره: ﴿رب﴾ أي: يا سيدي وخالقي ﴿إني دعوت﴾ أي: أوقعت الدعاء إلى الله بالحكمة والمواعظة الحسنة ﴿قومي﴾ أي: الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم مني، وفيهم قوّة المحاولة لما يريدون ﴿ليلاً ونهاراً﴾ أي: دائماً متصلاً لا أفتر عن ذلك. وقيل: معناه سراً وجهراً. ﴿فلم يزدهم دعائي﴾ أي: شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها ﴿إلا فراراً﴾ أي: بعداً وإعراضاً عن الإيمان كأنهم حمر مستنفرة استثناء مفرغ وهو مفعول ثان، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء، والباقون بفتحها وهم على مراتبهم في المد.
﴿وإني كلما﴾ أي: على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات ﴿دعوتهم﴾ أي: إلى الإقبال إليك بالإيمان بك والإخلاص لك ﴿لتغفر لهم﴾ أي: ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحد محواً بالغاً، فلا يبقى لشيء من ذلك عين ولا أثر حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم ﴿جعلوا أصابعهم﴾ كراهة


الصفحة التالية
Icon