لا تمنعوا أنفسكم بنذر أو يمين أو غير ذلك ﴿طيبات﴾ أي: مستلذات ﴿ما أحلّ الله لكم﴾ كمنع التحريم أي: لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً ﴿ولا تعتدوا﴾ حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرّم عليكم ﴿إنّ الله لا يحب المعتدين﴾ أي: لا يفعل فعل المحب من الإكرام للمفرطين في الورع بحيث يحرمون ما أحللت ولا للمفرّطين فيه الذين يحللون ما حرمت أن يفعلوا فعل المحرّم من المنع وفعل المحلل من التناول فالآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرّم داعية إلى القصد بينهما.
روي أنّ رسول الله ﷺ وصف يوم القيامة لأصحابه فبالغ وأشبع في الكلام في الإنذار فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون وهم: أبو بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال لهم رسول الله ﷺ «ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟» قالوا: بلى يا رسول الله ما أردنا إلا الخير فقال رسول الله ﷺ «إني لم أومر بذلك» ثم قال: «إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثم جمع الناس وخطبهم وقال: «ما بال أقوام يحرّمون النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة صوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع» فأنزل الله تعالى هذه الآية فقالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا فأنزل الله تعالى لا ﴿يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾ (البقرة، ٢٢٥)، الآية.
وروي «أنّ رسول الله ﷺ كان يأكل الدجاج والفالوز وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال: «المؤمن حلو يحب الحلاوة» وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ رجلاً قال له: إني حرمت الفراش فتلا هذه الآية وقال: نم على فراشك وكفر عن يمينك» وعن الحسن: أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج والفالوز وغير ذلك فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن أهو صائم فقالوا: لا ولكنه يكره هذه الألوان فقال: يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم، وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوز يقول: لا أؤدي شكره قال: أفيشرب الماء البارد؟ قال: نعم قال: إنه جاهل إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوز، وعنه أنّ الله تعالى أدب عباده
﴿مما علمت﴾ وصيغة من للتبعيض وطلب منه تعليم بعض ما علم، وهذا أيضاً اقرار بالتواضع كأنه يقول: لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء ما علمت، ومنها أن قوله: مما علمت اعتراف منه بأن الله تعالى علمه ذلك العلم، ومنها قوله: ﴿رشداً﴾ طلب منه الإرشاد والهداية، ومنها قوله: ﴿ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً﴾، ومنها أنه ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أن موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أبواب المبالغة في التواضع وذلك يدل على أن هذا هو اللائق به، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر كان طلبه لها أشدّ، فكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأرشد، وكل ذلك يدل على أنّ الواجب على المتعلم إظهار التواضع بكل الغايات، وأمّا المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيد نفعاً وإرشاداً إلى الخير فالواجب عليه ذكره فإنّ السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور وذلك يمنعه من التعلم. وروي أن موسى عليه السلام لما قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً؟ قال له الخضر: كفى بالتوراة علماً وببني إسرائيل شغلاً، فقال له موسى: الله أمرني بهذا
﴿قال﴾ له الخضر: ﴿فإن اتبعتني﴾ أي: صحبتني ولم يقل اتبعني ولكن جعل الاختيار إليه إلا أنه شرط عليه شرطاً فقال: ﴿فلا تسألني عن شيء﴾ أقوله أو أفعله ﴿حتى أحدث لك﴾ خاصة ﴿منه ذكراً﴾ أي: حتى أبدأك بوجه صوابه فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر، وإن كان ظاهره غير ذلك فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم من العالم، ولما تشارطا وتراضيا على الشرط تسبب عن ذلك قوله تعالى: ﴿فانطلقا﴾ أي: موسى والخضر عليهما السلام على الساحل فانتهيا إلى موضع احتاجا فيه إلى ركوب السفينة فما زالا يطلبان سفينة يركبان فيها واستمرّا ﴿حتى إذا ركبا في السفينة﴾ التي مرت بهما وأجاب الشرط بقوله: ﴿خرقها﴾ أي: أخذ الخضر فأساً فخرق السفينة بأن قلع لوحاً أو لوحين من ألواحها من جهة البحر لما بلغت اللجة ولم يقترن خرق بالفاء لأنه لم يكن مسبباً عن الركوب، ثم استأنف قوله: ﴿قال﴾ أي: موسى عليه السلام منكراً لذلك لما في ظاهره من الفساد بإتلاف المال المفضي إلى فساد أكبر منه بإهلاك النفوس ناسياً لما عقد على نفسه على أنه لو لم ينسَ لم يترك الإنكار كما فعل عند قتل الغلام لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد، لأنّ المستثنى شرعاً كالمستثنى وضعاً ﴿أخرقتها﴾ وبين عذره في الإنكار لما في غاية الخرق من الفظاعة فقال: ﴿لتغرق أهلها﴾ فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية مفتوحة وفتح الراء ورفع اللام من أهلها والباقون بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الراء ونصب لام أهلها، ثم قال له موسى: والله ﴿لقد جئت شيئاً أمراً﴾ أي: عظيماً منكراً.
﴿قال﴾ الخضر: ﴿ألم أقل إنك﴾ يا موسى ﴿لن تستطيع معي صبراً﴾ فذكره بما قال له عند الشرط.
﴿قال﴾ موسى: ﴿لا تؤاخذني﴾ يا خضر ﴿بما نسيت﴾ أي: غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك، قال ابن
﴿وإنكم﴾ يا أهل مكة ﴿لتمرون عليهم مصبحين﴾ أي: على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سدوم في طريقه، وقوله تعالى: ﴿وبالليل﴾ عطف على الحال قبلها أي: ملتبسين بالليل والمعنى: أن أولئك القوم كانوا يسافرون إلى الشام، والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في أول الليل وفي أول النهار فلهذا السبب عبر الله تعالى عن هذين الوقتين ثم قال تعالى: ﴿أفلا تعقلون﴾ أي: أليس فيكم عقل يا أهل مكة فتنظروا ما حل بهم فتعتبروا؟
القصة السادسة: وهي آخر القصص، قصة يونس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
﴿وإن يونس لمن المرسلين﴾ وقوله تعالى:
﴿إذ أبق﴾ ظرف للمرسلين أي: هو من المرسلين حتى في هذه الحالة وأبق أي: هرب وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه. ﴿إلى الفلك المشحون﴾ أي: السفينة المملوءة، قال ابن عباس رضي الله عنهما ووهب: كان يونس وعد قومه العذاب فتأخر عنهم فخرج كالمنشوز منهم فقصد البحر فركب السفينة، فقال الملاحون: ههنا عبد آبق من سيده فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فقال يونس: أنا الآبق فزج نفسه في البحر.
وروي في القصة: أنه لما وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب وأراد أن يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب ومر المركب، ثم جاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر، وجاء ذئب فأخذ ابنه الأصغر فبقي فريداً، فجاءت مركب أخرى فركبها وقعد ناحية من القوم، فلما جرت السفينة في البحر ركدت فقال الملاحون: إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل وقوف السفينة كما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر فأقرعوا فمن خرجت القرعة على سهمه نغرقه فإن تغريق واحد خير من غرق الكل فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فذلك قوله تعالى:
﴿فساهم﴾ أي: قارع أهل السفينة ﴿فكان من المدحضين﴾ أي: المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر.
﴿فالتقمه﴾ ابتلعه ﴿الحوت وهو مليم﴾ أي: آت بما يلام عليه من ذهابه إلى البحر وركوبه السفينة بلا إذن من ربه وقيل: مليم نفسه.
﴿فلولا أنه كان من المسبحين﴾ أي: الذاكرين قبل ذلك وكان عليه السلام كثير الذكر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من المصلين، وقال وهب: من العابدين، وقال الحسن: ما كان له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملاً صالحاً، قال الضحاك: شكر الله تعالى له طاعته القديمة، اذكر الله في الرخاء يذكرك في الشدة، فإن يونس كان عبداً صالحاً ذاكراً لله تعالى فلما وقع في الشدة في بطن الحوت شكر الله تعالى له ذلك، وقال سعيد بن جبير: يعني قوله: ﴿لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾ (الأنبياء: ٨٧)
﴿للبث في بطنه إلى يوم يبعثون﴾ أي: صار بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة وهو حي أو ميت وفي ذلك حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده في الضراء.
﴿فنبذناه﴾ أي: ألقيناه من بطن الحوت فأضاف النبذ إلى نفسه سبحانه مع أن النبذ إنما حصل بفعل الحوت فهو يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ﴿بالعراء﴾ أي: بوجه الأرض، وقال السدي: بالساحل والعراء الأرض الخالية من الشجر والنبات، روي أن الحوت سار مع السفينة رافعاً رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح الله تعالى حتى انتهى إلى الأرض فلفظه.
تنبيه: اختلفوا في مدة
لا انفكاك بعدها لا حكماً عن الآخر.
﴿والله﴾ أي: المستجمع لجميع الجلال والإكرام ﴿جعل لكم﴾ أي: نعمة عليكم اهتماماً بأمركم ﴿الأرض بساطاً﴾ أي: سهل عليكم التصرّف فيها والتقلب عليها سهولة التصرّف في البساط.
ثم علل ذلك بقوله تعالى: ﴿لتسلكوا﴾ أي: متخذين ﴿منها﴾ أي: الأرض مجددين ذلك ﴿سبلاً﴾ أي: طرقاً واضحة مسلوكة بكثرة ﴿فجاجاً﴾ أي: ذوات اتساع لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة براً وبحراً، فيعم الانتفاع بجميع البقاع فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرّف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره.
ولما أكثروا مع نوح عليه السلام الجدال ونسبوه إلى الضلال وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال.
﴿قال نوح﴾ أي: بعد رفقه بهم ولينه لهم: ﴿رب﴾ أي: أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أمري ﴿إنهم﴾ أي: قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ﴿عصوني﴾ أي: فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه، فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشدّ شراد، وخالفوني أقبح مخالفة.
﴿واتبعوا﴾ أي: بغاية جهدهم نظراً إلى المظنون العاجل ﴿من﴾ أي: رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم، وفسرهم بقوله تعالى: ﴿لم يزده﴾ أي: شيئاً من الأشياء ﴿ماله﴾ أي: كثرته ﴿وولده﴾ كذلك ﴿إلا خساراً﴾ أي: بالبعد من الله تعالى في الدنيا والآخرة، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح الواوين واللام، والباقون بضم الواو الثانية وإسكان اللام.
﴿ومكروا﴾ أي: هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني ﴿مكراً﴾ وزاده تأكيداً بصيغة هي النهاية في المبالغة بقوله: ﴿كباراً﴾ فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير، واختلفوا في معنى مكرهم فقال ابن عباس: قالوا قولاً عظيماً. وقال الضحاك: افتروا على الله تعالى وكذبوا رسله. وقيل: منع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح عليه السلام، فلم يدعوا أحداً منهم بذلك المكر يتبعه وحرشوهم على قتله.
﴿وقالوا﴾ أي: لهم ﴿لا تذرن﴾ أي: تتركن ﴿آلهتكم﴾ أي: عبادتها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة، وأضافوها إليهم تحبيباً فيها ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود، فقالوا مكرّرين اليمين والعامل تأكيداً: ﴿ولا تذرنّ ودًّا﴾ قرأ نافع بضم الواو والباقون بفتحها، وأنشدوا بالوجهين قول الشاعر:
*حيال وودّ من هداك لقيته | وحرض بأعلى ذي فضالة مسجد* |
واختلف المفسرون في هذه الأسماء فقال ابن عباس وغيره: هي أصنام وصور كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب، وهذا قول الجمهور، وقيل: إنها للعرب لم يعبدها غيرهم، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فلذلك خصوها بالذكر بعد قولهم: ﴿لا تذرنّ آلهتكم﴾ وقال عروة بن الزبير: اشتكى آدم عليه السلام وعنده