﴿والشهر الحرام﴾ أي: الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب أي: صير الأشهر الحرم قياماً للناس يأمنون فيها من القتال ﴿والهدي﴾ أي: الذي لم يقلد ﴿والقلائد﴾ أي: الهدى الذي يقلد فيذبح ويقسم على الفقراء ومرّ الكلام عليه في أوّل السورة ﴿ذلك﴾ أي: الجعل المذكور وهو الأربعة الأشياء التي جعلها الله قياماً للناس ﴿لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السموات وما في الأرض﴾ فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها دليل على علمه بما في الوجود وما هو كائن وقوله تعالى: ﴿وإنّ الله بكل شيء عليم﴾ تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق وقوله تعالى:
﴿اعلموا أنّ الله شديد العقاب﴾ فيه وعيد لأعدائه ممن انتهك محارمه وقوله تعالى: ﴿وإنّ الله غفور﴾ فيه وعد لأوليائه ممن حافظ عليها ﴿رحيم﴾ بهم وقوله تعالى:
﴿ما على الرسول إلا البلاغ﴾ فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به وأنّ الرسول ﷺ قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط ﴿وا يعلم ما تبدون﴾ أي: تظهرون من العمل ﴿وما تكتمون﴾ أي: تخفون منه فيجازيكم به.
وقوله تعالى:
﴿قل لا يستوي الخبيث والطيب﴾ حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها رغب به في صالح العمل وحلال المال ﴿ولو أعجبك كثرة الخبيث﴾ إذ لا عبرة بالقلة والكثرة بل بالجودة والرداءة فإنّ المحمود القليل خير من المذموم الكثير، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال تعالى: ﴿فاتقوا الله﴾ أي: في ترك الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى وآثِروا الطيب وإن قلّ في الحس لكثرته في المعنى ﴿يا أولي الألباب﴾ أي: أصحاب العقول السليمة ﴿لعلكم تفلحون﴾ أي: لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب.
ونزل لما أكثروا سؤاله صلى الله عليه وسلم
﴿يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد﴾ أي: تظهر ﴿لكم تسؤكم﴾ أي: لما فيها من المشقة فقيل: سبب نزولها ما في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه إنهم لما سألوا النبيّ ﷺ حتى أحفوه المسألة أي: بالغوا في السؤال فغضب وصعد المنبر وقال: «لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم» وشرع يكرّر ذلك وإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: «حذافة» فقال عمر رضي الله تعالى عنه: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ﷺ رسولاً نعوذ بالله من الفتن فقال رسول الله ﷺ «ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه قد صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط في آخره» فنزلت هذه الآية.
وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله أنا حديث عهد بجاهلية اعف عنا يعف الله عنك فسكن غضبه، وللبخاريّ في التفسير عن أنس أيضاً قال: خطب رسول الله ﷺ خطبة ما سمعت مثلها قط قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» فغطى أصحاب رسول الله ﷺ وجوههم لهم حنين فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان فنزلت هذه الآية. وللبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله ﷺ استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ يقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله
النبي ﷺ قال: «كان ذهباً وفضة» رواه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه والذم على كنزهما في قوله تعالى: ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة﴾ (التوبة، ٣٤)
لمن لا يؤدي زكاتهما وما يتعلق بهما من الحقوق، وعن سعيد بن جبير قال: كان الكنز صحفاً فيها علم رواه الحاكم وصححه، وعن ابن عباس قال: كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجباً لمن أيقن بالقدر كيف يغضب عجباً لمن أيقن بالرزق كيف يتعب عجباً لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الجانب الآخر مكتوب أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل كل الويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه، قال البغوي: وهذا قول أكثر أهل التفسير وروي أيضاً ذلك مرفوعاً. قال الزجاج: الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ويجوز عند التقييد أن يقال عنه كنز علم وهذا اللوح كان جامعاً لهما، وقوله: ﴿وكان أبوهما صالحاً﴾ فيه تنبيه على أن سعيه في ذلك كان لصلاحه فيراعى وتراعى ذريته، وكان سياحاً واسمه كاسح، قال ابن عباس: حفظا لصلاح أبيهما وقيل: كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء، قال محمد بن المنكدر: إن الله تعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم، قال سعيد بن المسيب: إني أصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي، وعن الحسن أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما: بم حفظ الله الغلامين قال: بصلاح أبيهما، قال: فأبي وجدي خير منه، قال: قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون وذكروا أيضاً أن ذلك الأب الصالح كان من الذين تضع الناس الودائع عنده فيردها إليهم ﴿فأراد ربك أن يبلغا﴾ أي: الغلامان ﴿أشدّهما﴾ أي: الحلم وكمال الرأي ﴿ويستخرجا كنزهما﴾ لينتفعا به وينفعا الصالحين.
تنبيه: أسند الإرادة في قوله: فأردت أن أعيبها إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب، وثانياً في قوله: فأردنا إلى الله وإلى نفسه لأنّ التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله تعالى بدله، وثالثاً في قوله: فأراد ربك إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين، أولأن الأول في نفسه شرّ والثالث خير والثاني ممتزج، أو لأنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه، ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية، ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى لأنّ التكفل بصلاح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا لله تعالى أو لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسايط فإن قيل: اليتيمان هل أحد منهما عرف حصول ذلك الكنز تحت ذلك الجدار أم لا فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار، وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به؟ وأجيب: لعلهما كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالماً به ثم إن ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط، ولما قرّر الخضر هذه الجوابات قال: رحمة من ربك أي: إنما فعلت هذه الأفعال لغرض أن تظهر رحمة الله لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما تقرّر
وهي ست أو ثمان وثمانون آية، وسبعمائةواثنتان وثمانون كلمة، وثلاثة آلاف وتسعة وتسعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ المنزه عن كل شائبة نقص ﴿الرحمن﴾ الذي عم جوده سائر مخلوقاته ﴿الرحيم﴾ بمن خلقه، واختلف في تفسير قوله تعالى:
﴿ص﴾ فقيل: قسم وقيل: هو اسم للسورة كما ذكرنا في سائر حروف التهجي في أوائل السور وقال محمد بن كعب القرظي: مفتاح اسمه الصمد وصادق الوعد، وقال الضحاك: معناه صدق الله، وروي عن ابن عباس: صدق محمد ﷺ وقيل: معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضته. ﴿والقرآن﴾ أي: الجامع مع البيان لكل خير ﴿ذي الذكر﴾ أي: الموعظة والتذكير وقال ابن عباس: ذي البيان، وقال الضحاك: ذي الشرف ودليله قوله تعالى: ﴿وإنه لذكر لك ولقومك﴾ (الزخرف: ٤٤)، فإن قيل: هذا قسم فأين المقسم عليه؟ أجيب: بأنه محذوف تقديره: ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة وقوله تعالى:
﴿بل الذين كفروا﴾ أي: من أهل مكة إضراب انتقال من قصة إلى أخرى ﴿في عزة﴾ أي: حمية وتكبر عن الإيمان ﴿وشقاق﴾ أي: خلاف وعداوة للنبي ﷺ والتنكير في عزة وشقاق للدلالة على شدتهما، وقيل: جواب القسم قد تقدم وهو قوله تعالى: ﴿ص﴾ أقسم الله تعالى بالقرآن أن محمد الصادق وقال الفراء: ﴿ص﴾ معناها وجب وحق فهو جواب قوله: ﴿والقرآن﴾ كما تقول: نزل والله، وقال الأخفش: قوله تعالى: ﴿إن كل إلا كذب الرسل﴾ وقال السدي: إن ذلك لحق تخاصم أهل النار، قال البغوي: وهذا ضعيف لأنه تخلل بين القسم وبين هذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة وقال مجاهد: في عزة متعازين.
﴿كم﴾ أي: كثيراً ﴿أهلكنا من قبلهم﴾ وأكد كثرتهم بقوله تعالى: ﴿من قرن﴾ أي: من أمة من الأمم الماضية كانوا في شقاق مثل شقاقهم.
تنبيه: كم مفعول أهلكنا، ومن قرن تمييز، ومن قبلهم لابتداء الغاية ﴿فنادوا﴾ أي: استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة وقيل: نادوا بالإيمان والتوبة ﴿ولات﴾ أي: وليس الحين ﴿حين مناص﴾ أي: منجى وفرار، قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب، قال بعضهم لبعض: مناص أي: اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص، فأنزل الله تعالى ذلك، والمناص مصدر ناص ينوص إذا تقدم، ولات بمعنى: ليس بلغة أهل اليمن، وقال النحويون: هي لا زيدت فيها التاء كقولهم: رب وربت، وثم وثمت، وأصلها هاء وصلت بلا فقالوا: لات كما قالوا: ثمت ولا تعمل إلا في الأزمان خاصة نحو لات حين ولات أوان كقول الشاعر:
*طلبوا صلحنا ولات أوان... فأجبنا أن ليس حين بقاء*
والأكثر حينئذ حذف مرفوعها فتقديره ولات الحين حين مناص، وقد يحذف المنصوب ويبقى المرفوع كقول القائل:
*من صد عن نيرانها... فأنا ابن قيس لا براح*
أي: لا براح لي، ولما حكى تعالى عن الكفار كونهم في عزة وشقاق أتبعه بشرح كلماتهم الفاسدة بقوله تعالى:
﴿وعجبوا﴾ أي: الكفار الذين ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿بل الذين كفروا في عزة وشقاق﴾ ﴿أن﴾ أي: لأجل أن ﴿جاءهم منذر﴾ هو النبي ﷺ وفي قوله تعالى: ﴿منهم﴾ وجهان أحدهما: أنهم قالوا أن محمداً مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنية والنسب
غاية البيان ﴿إلى الرشد﴾ أي: الحق والصواب ﴿فآمنا﴾ أي: كل من استمع منا لم يتخلف منا أحد ولا توقف بعد الاستماع ﴿به﴾ أي: القرآن أي فاهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله.
﴿ولن نشرك بربنا أحداً﴾ أي: لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنّ أولئك الجنّ كانوا مشركين. قال الرازي: واعلم أنّ قوله تعالى: ﴿قل﴾ أمر لرسوله ﷺ أن يظهر لأصحابه ما أوحي إليه في واقعة الجنّ وفيه فوائد: أحدها: أن يعرفوا بذلك أنّ رسول الله ﷺ بعث إلى الجنّ كما بعث إلى الإنس. ثانيها: أن تعلم قريش أنّ الجنّ مع تمرّدهم لما سمعوا القرآن وعرفوا إعجازه آمنوا بالنبيّ ﷺ ثالثها: أن يعلم القوم أنّ الجنّ مكلفون كالإنس. رابعها: أن يعلم أنّ الجنّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا. خامسها: أن يظهر المؤمن منهم بدعوى غيره من الجنّ إلى الإيمان، وفي هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.
تنبيهات:
أحدها: اختلف العلماء في أصل الجنّ فروي عن الحس البصري أنّ الجنّ ولد إبليس والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ الجنّ هم ولد الجان وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. وروي أنّ ذلك النفر كانوا يهوداً. وذكر الحسن أنّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين.
ثانيها: اختلفوا في دخول الجنّ الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من الجانّ لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم، ومن قال إنهم من ذرّية إبليس فلهم فيهم قولان: أحدهما وهو قول الحسن: يدخلونها. والثاني وهو رواية مجاهد: لا يدخلونها.
ثالثها: قال القرطبي: قد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجنّ، وقالوا: إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله تعالى والقرآن والسنة يردّان عليهم، وليس في المخلوقات بسيط بل مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه وغيره مركب ليس بواحد، وليس بممتنع أن يراهم النبيّ ﷺ في صورهم كما يرى الملائكة، وأكثر ما يتصوّرون لنا في صور الحيات.
ثم عطفوا على قولهم إنا سمعنا ﴿وأنه﴾ أي: الشأن العظيم قال الجنّ ﴿تعالى﴾ أي: انتهى في العلوّ إلى حدّ لا يستطاع ﴿جدّ﴾ أي: عظمة وسلطان وكمال غنى ﴿ربنا﴾ يقال: جدّ الرجل إذا عظم ومنه قول أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم قدره. وقال السدي: جدّ ربنا أي أمر ربنا. وقال الحسن: غني ربنا. ومنه قيل: الحظ جدّ، ورجل مجدود، أي: محظوظ. وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ». قال أبو عبيد والخليل: أي ذا الغنى منك الغنى إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس: قدرة ربنا. وقال الضحاك: فعله. وقال القرطبي: آلاؤه ونعماؤه على خلقه. وقال الأخفش: علا ملكُ ربنا، والأولى جميع هذه المعاني، وقرأ ﴿وأنه تعالى جدّ ربنا﴾ وما بعده إلى قوله تعالى: ﴿وأنا منا المسلمون﴾ وهي اثنا عشر موضعاً ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة في الجميع والباقون بالكسر.
ولما وصفوه بهذا التعالي الأعظم المستلزم للغنى المطلق والتنزه عن كل شائبة نقص بينوه بنفي ما ينافيه من قولهم إبطالاً للباطل


الصفحة التالية
Icon