في صدوركم. وفي الثاني: قلوبكم كالحصاة التي لا تطبخها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الريح. وفي الثالث: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخالطوا السفهاء فيشتموكم، وجاء في كلام العرب أسمع من قراد لأنّ العرب تزعم أنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرّك لها، وقيل: من مسيرة سبع ليال وأعز من مخ البعوض يضرب لمن يكلف الأمور الشاقة ﴿فما فوقها﴾ أي: ما زاد على البعوضة في الجثة كالذباب والعنكبوت، والمعنى أنه لا يستحيي من ضرب المثل بالبعوضة فضلاً عما هو أكبر منه، أو المعنى الذي جعلت فيه مثلاً وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضرب جناحها مثلاً للدنيا بقوله في خبر الترمذي: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء» ونظيره في احتمال الفوقية للجثة وللمعنى ما روى البخاري وغيره: أنّ رجلاً بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة في الألم كالسقوط على الطنب وما زاد عليها في القلة
كقرصة النملة، والطنب حبل الخباء، والفسطاط بيت من شعر. ﴿فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه﴾ أي: ضرب المثل بذلك ﴿الحق﴾ أي: الواقع موقعه ﴿من ربهم﴾ لأن الحق هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. وهم يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة من قولهم: حق إذا ثبت ومنه ثوب محقق، أي: محكم النسج، وأمّا حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء، قال سيبويه: أمّا زيد فذاهب معناه مهما يكن من شيء فزيد ذاهب أي: هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لا الخبر لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الفاء على الخبر وعوضوا المبتدأ عن جملة الشرط لفظاً ﴿وأمّا الذين كفروا فيقولون ماذا﴾ يحتمل وجهين: أن تكون ما استفهامية وذا بمعنى الذي وما بعده صلته والمجموع خبر ما، وأن تكون ما مع ذا اسماً واحداً بمعنى أيّ شيء ﴿أراد الله بهذا﴾ فهو منصوب المحل على المفعولية لأراد فما وذا كما في «الكشاف» في حكم ما وحده لو قلت ما أراد الله وكان من حقه، وأمّا الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه وهو الذين آمنوا ويقابل قسيمه وهو يعلمون أنه الحق، لكن لما كان قولهم هذا دليلاً واضحاً على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية عن عدم علمهم ليكون كالبرهان عليه والإرادة صفة ذاتية قديمة زائدة على العلم ترجح أحد مقدوريه على الآخر وتخصصه بوجه دون وجه بخلاف القدرة فإنها لا تخصص الفعل ببعض الوجوه بل هي موجدة للفعل مطلقاً وقوله تعالى: ﴿مثلاً﴾ نصب على الحال من اسم الإشارة والعامل فيه اسم الإشارة أو التمييز والمعنى أي فائدة في ذلك فقال تعالى: ﴿يضلّ به كثيراً﴾ بأن يكذبوا به ﴿ويهدي به كثيراً﴾ بأن يصدقوا به وكثرة كل واحد من القبيلين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس أي: لا بالنظر إلى مقابليهم فإنّ المهتدين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى: ﴿وقليل من عبادي الشكور﴾
(سبأ، ١٣)
ويحتمل أن تكون كثرة الضالين من حيث العدد وكثرة المهتدين باعتبار الفضل والشرف كما قال المتنبي في مدح علي بن يسار:
القائل:
*وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وقرأ عاصم وحمزة في الوصل بكسر اللام والباقون بضمها، وأمّا الهمزة من انظروا فكل القراء يبتدؤون بالضم ﴿وما تغني الآيات﴾ أي: وإن كانت في غاية الوضوح ﴿والنذر﴾ جمع نذير، أي: الرسل ﴿عن قوم لا يؤمنون﴾ في علم الله تعالى وحكمه.
تنبيه: قال النحويون: ما هنا تحتمل وجهين الأوّل: أن تكون نفياً بمعنى أنّ هذه الآيات والنذر لا تفيد الفائدة في حق من حكم الله تعالى عليه بأنه لا يؤمن كقولك: لا يغني عنك المال إذا لم تنفق. والثاني: أن تكون استفهاماً كقولك، أي: شيء يغني عنهم، وهو استفهام بمعنى الإنكار.
﴿فهل﴾ أي: ما ﴿ينتظرون﴾ أي: أهل مكة بتكذيبك ﴿إلا﴾ أياماً، أي: وقائع ﴿مثل أيام﴾ أي: وقائع ﴿الذين خلوا من قبلهم﴾ أي: من مكذبي الأمم كالقبط وقوم نوح وما انطوى بينهما من الأمم، أي: مثل وقائعهم من العذاب ﴿قل﴾ أي: قل لهم يا محمد ﴿فانتظروا﴾ أي: العذاب ﴿إني معكم من المنتظرين﴾ أي: لنزول العذاب بكم. وقوله تعالى:
﴿ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا﴾ عطف على محذوف، دل عليه قوله تعالى: ﴿إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم﴾ كأنه قيل: لنهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن بهم على حكاية الأحوال الماضية. وقرأ أبو عمرو وحده بسكون السين ﴿كذلك﴾ أي: كما نجينا رسلنا والذين آمنوا معهم من الهلاك ﴿حقاً علينا ننج المؤمنين﴾ أي: ننجيك يا محمد ومن آمن معك وصدّقك من الهلاك والعذاب. فإن قيل: قوله تعالى حقاً يقتضي الوجوب والله تعالى لا يجب عليه شيء. أجيب: بأنَّ ذلك حق بحسب الوعد والحكم لا أنه حق بحسب الاستحقاق. لما ثبت أنّ العبد لا يستحق على خالقه شيئاً وهو اعتراض بين المشبه والمشبه به ونصب بفعله المقدّر، وقيل بدل من ذلك. وقرأ حفص والكسائي بسكون النون الثانية والباقون بفتحها. وأمّا الوقف عليها فجميع القراء يقفون على الجيم؛ لأنها مرسومة في المصحف بالجيم بلا ياء، فهي في القرآن وقفاً ووصلاً بلا ياء لجميع القراء. ولما ذكر تعالى الدلائل على أقصى الغايات وأبلغ النهايات أمر رسوله ﷺ بإظهار دينه فقال:
﴿قل﴾ يا محمد ﴿يا أيها الناس﴾ أي: الذين أرسلت إليهم فشكوا في أمرك ولم يؤمنوا بك ﴿إن كنتم في شك من ديني﴾ أي: الذي أدعوكم إليه أنه حق وأصررتم على ذلك وعبدتم الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ﴿فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله﴾ أي: غيره وهو الأصنام التي لا قدرة لها على شيء ﴿ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم﴾ بقبض أرواحكم التي لا شيء عندكم يعدلها، فإنه الذي يستحق العبادة، وإنما خص الله تعالى هذه الصفة للتهديد. وقيل: إنهم لما استعجلوا بطلب العذاب أجابهم بقوله: ولكن أعبد الله الذي هو قادر على إهلاككم ونصري عليكم. ﴿وأمرت أن﴾ أي: بأن ﴿أكون من المؤمنين﴾ أي: المصدّقين بما جاء من عند الله. وقيل: إنه لما ذكر العبادة وهي من أعمال الجوارح أتبعها بذكر الإيمان لأنه من أعمال القلوب. فإن قيل: كيف قال في شك وهم كفار يعتقدون بطلان ما جاء به؟ أجيب: بأنه كان فيهم شاكون أو أنهم لما رأوا الآيات اضطربوا وشكوا في أمره ﷺ وقوله تعالى:
﴿وأن أقم وجهك للدين﴾ عطف على أن أكون، غير أن صلة
لم يشغلهم الشعر عن الذكر، روي أنّ كعب بن مالك قال للنبيّ ﷺ «إنّ الله قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبيّ ﷺ إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل» وعن أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ ﷺ «دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله ﷺ وفي حرم الله تقول شعراً فقال النبيّ ﷺ خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل» وعن البراء أنّ النبيّ ﷺ قال يوم قريظة لحسان: «أهج المشركين فإنّ جبريل معك» وعن عائشة رضي الله عنها قالت أنّ النبيّ ﷺ قال: «اهجوا قريشاً فإنه أشدّ عليهم من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال اهجهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فقال حسان قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد ثم أدلع لسانه فجعل يحرّكه فقال والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال النبيّ ﷺ لا تعجل فإنّ أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإنّ لي فيهم نسباً حتى يخلص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله لقد أخلص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما يسلّ الشعر من العجين، قالت عائشة فسمعت رسول الله ﷺ يقول لحسان: إنّ روح القدس لا يزال يؤدّيك ما نافحت عن الله ورسوله قالت وسمعت رسول الله ﷺ يقول: «هجاهم حسان فشفى وأشفى» قال حسان:*خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضر بكم على تنزيله* *ضرباً يزيل الهمام عن مقيله ويذهب الخليل عن خليله*
الكتاب: السراج المنير للخطيب الشربينى
*هجوت محمداً فأجبت عنه | وعند الله في ذاك الجزاء* |
*هجوت محمداً برّاً حنيفاً | رسول الله شيمته الوفاء* |
*فإنّ أبي ووالدتي وعرضي | لعرض محمد منكم وفاء* |
*فمن يهجو رسول الله منكم | ويمدحه وينصره سواء* |
*وجبريل رسول الله فينا | وروح القدس ليس له كفاء* |
بمحذوف أي: أمر بالجهاد ليدخل ﴿المؤمنين والمؤمنات﴾ الذين جبلتهم جبلة خير بجهاد بعضهم ودخول بعضهم في الدين بجهاد المجاهدين، ولو سلط على الكفار جنوده من أوّل الأمر فأهلكوهم أو دمّر عليهم بغير واسطة لفات دخول أكثرهم الجنة، وهم من آمن منهم بعد صلح الحديبية ﴿جنات﴾ أي بساتين لا يصل إلى عقولكم من وصفها إلا ما تعرفونه بعقولكم وإن كان الأمر أعظم من ذلك ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ فأي موضع أردت أن تجري منه نهراً قدرت على ذلك؛ لأنّ الماء قريب من وجه الأرض مع صلابتها وحسنها ﴿خالدين فيها﴾ أي لا إلى آخر، فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ذكر في بعض المواضع المؤمنين والمؤمنات وفي بعضها اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كقوله تعالى: ﴿قد أفلح المؤمنون﴾ (المؤمنون: ١)
وقوله تعالى: ﴿وبشر المؤمنين﴾ (البقرة: ٢٢٣)
أجيب بأنه في المواضع التي فيها ما يوهم اختصاص المؤمنين بالخير الموعود به مع مشاركة المؤمنات لهم ذكرهنّ الله تعالى صريحاً وفي المواضع التي فيها ما لا يوهم ذلك اكتفى بدخولهم في المؤمنين كقوله تعالى: ﴿وبشر المؤمنين﴾ ولما كان ههنا قوله تعالى: ﴿ليدخل المؤمنين﴾ متعلقاً بالأمر بالقتال والمرأة لا تقاتل فلا تدخل الجنة الموعود بها فصرح الله تعالى بذكرهنّ ﴿ويكفر﴾ أي يستر ستراً بليغاً ﴿عنهم سيئاتهم﴾ فلا يظهرها، فإن قيل: تكفير السيئات قبل الإدخال فكيف ذكره بعده أجيب بأنّ الواو لا تقتضي الترتيب بأنّ تكفير السيئات والمغفرة من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الادخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة ﴿وكان ذلك﴾ أي: الإدخال والتكفير ﴿عند الله﴾ أي: الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام ﴿فوزاً عظيماً﴾ لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع ودفع ضر.
تنبيه: ﴿عند﴾ متعلق بمحذوف على أنه حال من ﴿فوزاً﴾ ولما كان من أعظم الفوز إقرار العين بالانتقام من العدوّ وكان العدوّ الكاتم أشدّ من المجاهر المراغم. قال تعالى:
﴿ويعذب المنافقين﴾ المخفين للكفر المظهرين الإيمان أي: فيزيل كل ما لهم من العذوبة ﴿والمنافقات﴾ لما غاظهم من ازدياد الإيمان ﴿والمشركين والمشركات﴾ أي: المظهرين الكفر للمؤمنين وقدّم المنافقين على المشركين في كثير من المواضع؛ لأنهم كانوا أشدّ على المؤمنين من الكفار المجاهرين؛ لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر ويخالط المنافق لظنه إيمانه وكان يفشي أسراره وإلى هذا أشار النبي ﷺ بقوله «أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك» ولهذا قال الشاعر:
*احذر عدوّك مرّة... واحذر صديقك ألف مرّة*
*فلربما انقلب الصدي... ق فكان أخبر بالمضرّة*
وقوله تعالى: ﴿الظانين بالله﴾ أي: المحيط بصفات الكمال صفة للفريقين وأما قوله تعالى ﴿ظنّ السوء﴾ فقال أكثر المفسرين: هو أن لا ينصر محمداً ﷺ والمؤمنين، ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين ﴿عليهم دائرة السوء﴾ أي: دائرة ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم لا يتخطاهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بضم السين والباقون بالفتح. وهما لغتان كالكره والكره والضعف والضعف من ساء إلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كل شيء،