يوم العيد عيداً وقوله: ﴿لأوّلنا وآخرنا﴾ بدل من لنا بإعادة العامل أي: عيداً لأهل زماننا ولمن جاء بعدنا وقال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم وقوله: ﴿وآية﴾ عطف على عيداً وقوله: ﴿منك﴾ صفة لها أي آية كائنة منك دالّة على كمال قدرتك وصحة نبوّتي ﴿وارزقنا﴾ المائدة والشكر عليها ﴿وأنت خير الرازقين﴾ أي: من يرزق؛ لأنه تعالى خالق الرزق ومعطيه بلا غرض.
﴿قال الله﴾ تبارك وتعالى مجيباً لعيسى عليه السلام ﴿إني منزلها عليكم﴾ أي: المائدة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح النون وتشديد الزاي والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي ﴿فمن يكفر بعد﴾ أي: بعد نزولها ﴿منكم فإني أعذبه عذاباً﴾ أي: تعذيباً أو مفعولاً به على السعة والضمير في ﴿لا أعذبه﴾ للمصدر ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء ﴿أحداً من العالمين﴾ أي: عالمي زمانهم أو العالمين مطلقاً فإنهم مسخوا قردة وخنازير ولم يُعذّب بمثل ذلك غيرهم، قال عبد الله بن عمران: أشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وقوم فرعون.
واختلف العلماء هل نزلت المائدة أو لا؟ فقال مجاهد والحسن: لم تنزل فإنّ الله تعالى لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستغفروا وقالوا: لا نريدها فلم تنزل، وقوله تعالى: ﴿إني منزلها عليكم﴾ أي: إن سألتم والصحيح الذي عليه الأكثرون أنها نزلت لقوله تعالى: ﴿إني منزلها عليكم﴾ ولتواتر الأخبار في ذلك عن رسول الله ﷺ واختلفوا في صفتها فقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسيّ: لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى عليه السلام مسحاً وبكى وقال: ﴿اللهمّ ربنا أنزل علينا مائدة﴾ الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي منقضة حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السلام وقال: اللهمّ اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة، فقام فتوضأ وصلى وكشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا فلوس أي: بلا قشر كالفلوس ولا شوك تسيل دهناً وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكرّاث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد، فقال شمعون الصفار وهو رأس الحواريين: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس شيئاً مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بقدرته، كلوا مما سألتم واشكروا يمددكم ويزدكم من فضله فقال: يا روح الله كن أوّل من يأكل منها فقال: معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها، من سألها فخافوا أن يأكلوا منها فدعا أهل الفاقة والمرض وأهل البرص والجذام والمقعدين وقال: كلوا من رزق الله لكم الهناء ولغيركم البلاء، فأكلوا وصدروا عنها وهم ألف وثلثمائة رجل وامرأة من فقير وزمن ومريض ومبتلى كلهم شبعان والسمكة كهيئتها حين نزلت، ثم طارت المائدة صعوداً وهم ينظرون إليها حتى توارت
فلم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلا استغنى، وندم من لم يأكل فلبثت أربعين صباحاً تنزل ضحاً فإذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء
وبالآلات التي أتقوّى بها في فعل ذلك فإن ما معي إنما هو للقتال وما يكون من أسبابه لا لمثل هذا ﴿أجعل بينكم﴾ أي: بين ما تحتصون به ﴿وبينهم ردماً﴾ أي: حاجزاً حصيناً موثقاً بعضه فوق بعض من التلاصق والتلاحم وهو أعظم من السد من قولهم ثوب ردم إذا كان رقاعاِ فوق رقاع قالوا: وما تلك القوة؟ قال: فعلة وصناع يحسنون البناء، قالوا: وما تلك الآلات؟ قال:
﴿آتوني﴾ أي: أعطوني ﴿زبر الحديد﴾ أي: قطعة وهو جمع زبرة كغرفة وغرف، قال الخليل: الزبرة من الحديد القطعة الضخمة فأتوه به وبالحطب حفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم ﴿حتى إذا ساوى﴾ أي: بذلك البناء ﴿بين الصدفين﴾ أي: بين جانبي الجبلين أي: سوى بين طرفي الجبلين سميا بذلك لأنهما يتصادفان أي: يتقابلان من قولهم: صادفت الرجل لاقيته وقابلته، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر برفع الصاد والدال وشعبة برفع الصاد وسكون الدال والباقون بنصب الصاد والدال، ثم وضع المنافخ وأطلق النار في الحطب والفحم و ﴿قال﴾ أي: للعملة ﴿انفخوا﴾ فنفخوا ﴿حتى إذا جعله﴾ أي: الحديد ﴿ناراً﴾ أي: كالنار ﴿قال آتوني﴾ أي: أعطوني ﴿أفرغ عليه قطراً﴾ أي: أصب النحاس المذاب على الحديد المحمى فصبه عليه فدخل في خلال الحديد مكان الحطب لأن النار أكلت الحطب حتى لزم الحديد النحاس فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً، قال الزمخشري: قيل ما بين السدين مائة فرسخ، وروي أن عرضه كان خمسين ذراعاً وارتفاعه مائتي ذراع، وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً «وفي رواية عن رجل من أهل المدينة قال: يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته لي قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء» وهذه معجزة عظيمة إن كان نبياً أو كرامة إن لم يكن؛ لأنّ هذه الزبرة الكبيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان أن يقرب منها والنفخ عليها لا يكون إلا بالقرب منها فكأنه تعالى صرف تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها حتى تمكنوا من العمل فيها.
تنبيه: قطراً هو المتنازع فيه وهذه الآية أشهر أمثلة النحاة في باب التنازع وبها تمسك البصريون على أن أعمال الثاني من العاملين المتوجهين نحو معمول واحد أولى إذ لو كان قطراً مفعول آتوني لأضمر مفعول أفرغ حذراً من الإلباس، ثم قال تعالى:
﴿فما﴾ أي: فتسبب عن ذلك أنه لما أكمل عمل الردم وأحكمه ما ﴿اسطاعوا﴾ أي: يأجوج ومأجوج وغيرهم ﴿أن يظهروه﴾ أي: يعلوا ظهره لعلوّه وملاسته، وقرأ حمزة بتشديد الظاء والباقون بالتخفيف ﴿وما استطاعوا له نقباً﴾ أي: خرقاً لصلابته وسمكه وزيادة التاء هنا تدل على أنّ العلوّ عليه أصعب من نقبه لارتفاعه وصلابته والتحام بعضه ببعض حتى صار سبيكة واحدة من حديد ونحاس في علوّ الجبل فإنهم ولو احتالوا ببناء درج من جانبهم أو وضع تراب حتى ظهروا عليه لم ينفعهم ذلك لأنهم لا حيلة لهم على النزول من الجانب الآخر، ويؤيده أنهم إنما يخرجون في آخر الزمان بنقبه لا بظهورهم عليه ولا ينافي نفي الاستطاعة لنقبه ما رواه الإمام أحمد والترمذي في التفسير وابن ماجه في الفتن «عن أبي رافع عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: «إن يأجوج
يدخل عليه، فإنه عليه السلام كان جزأ زمانه يوماً للعبادة ويوماً للقضاء ويوماً للوعظ ويوماً للاشتغال بحاجته فتسور عليه ملكان على صورة الإنسان في يوم الخلوة ﴿قالوا لا تخف﴾ وقولهم: ﴿خصمان﴾ خبر مبتدأ وضمر أي: نحن خصمان أي: فريقان، ليطابق ما قبله من ضمير الجمع وقيل: اثنان، والضمير بمعناهما وقد مر أن الخصم يطلق على الواحد والأكثر، وقولهم: ﴿بغى بعضنا على بعض﴾ جملة يجوز أن تكون مفسرة لحالهم وأن تكون خبراً ثانياً، فإن قيل: كيف قالوا بغى بعضنا على بعض وهم ملائكة على المشهور؟ أجيب: بأن ذلك على سبيل الفرض أي: أرأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر وهذا من معاريض الكلام لا من تحقيق البغي من أحدهما ﴿فاحكم بيننا بالحق﴾ أي: الأمر الثابت الذي يطابق الواقع ﴿ولا تشطط﴾ أي: ولا تجر في الحكومة ﴿واهدنا﴾ أي: أرشدنا ﴿إلى سواء الصراط﴾ أي: وسط الطريق الصواب فقال لهما: تكلما فقال أحدهما:
﴿إن هذا أخي﴾ أي: على ديني وطريقتي أو في النصح لا من جهة النسب ﴿له تسع وتسعون نعجة﴾ أي: امرأة ﴿ولي نعجة واحدة﴾ امرأة واحدة، والنعجة هي الأنثى من الضأن ولكن كثر في كلامهم الكناية عن المرأة، قال ابن عون:
*أنا أبوهن ثلاثة هنه | رابعة في البيت صغرا هنه* |
قال الحسن بن الفضل: هذا تعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن ثم نعاج ولا بغي فهو كقولهم: ضرب زيد عمراً واشترى بكر داراً ولا ضرب هناك ولا شراء، وقرأ حفص بفتح الياء والباقون بالسكون ﴿فقال أكفلنيها﴾ قال ابن عباس: أعطنيها وقال مجاهد: انزل لي عنها وحقيقته ضمها إلي واجعلني كافلها وهو الذي يعولها وينفق عليها والمعنى: طلقها لأتزوجها ﴿وعزني﴾ أي: غلبني ﴿في الخطاب﴾ أي: الجدال لأنه أفصح مني في الكلام، وقيل: قهرني لقوة ملكه، قال الضحاك: يقول: إن تكلم كان أفصح مني وإن حارب كان أبطش مني، وحقيقة المعنى: أن الغلبة كانت له لضعفي في يده وإن كان الحق معي وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود وسيأتي الكلام على قصته إن شاء الله تعالى عن قريب.
﴿قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه﴾ وهذا جواب قسم محذوف أريد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة والانضمام أي: ليضمها مضافة إلى نعاجه، فإن قيل: كيف قال: ﴿لقد ظلمك﴾ ولم يكن سمع قول صاحبه؟ أجيب: بأن معناه: إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك أو أنه قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول ولم يذكر الله تعالى ذلك لدلالة الكلام عليه، وقيل: التقدير أن الخصم الذي هذا شأنه قد ظلمك، وقرأ قالون وابن كثير وهشام وعاصم بإظهار الدال عند الظاء والباقون بالإدغام، وقوله: ﴿وإن كثيراً من الخلطاء﴾ أي: مطلقاً منكم ومن غيركم والخلطاء جمع خليط وهم الشركاء الذين خلطوا أموالهم، وقال الليث: خليط الرجل مخالطه ﴿ليبغي﴾ أي: ليعتدي ﴿بعضهم﴾ غالباً ﴿على بعض﴾ فيريدون غير الحق. فإن قيل: لم خص الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء يفعلون ذلك؟ أجيب: بأن المخالطة توجب كثرة المنازعة
المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.
﴿فلا تدعوا﴾ أي: فلا تعبدوا أيها المخلوقون ﴿مع الله﴾ الذي له جميع العظمة ﴿أحداً﴾ وهذا توبيخ للمشركين في دعواهم مع الله تعالى غيره في المسجد الحرام، وقال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله تعالى نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها يقول: فلا تشركوا فيها صنماً أو غيره مما يعبد، وقيل: المعنى أفردوا المساجد لذكر الله تعالى ولا تجعلوا لغير الله تعالى فيها نصيباً وفي الصحيح: «من نشد ضالة في المسجد فقولوا: لا ردّها الله عليك، فإنّ المساجد لم تبن لهذا» وقال الحسن: من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله؛ لأنّ قوله تعالى: ﴿فلا تدعوا مع الله أحداً﴾ في ضمنه أمر بذكر الله تعالى ودعائه، وروى الضحاك عن ابن عباس «أنّ النبيّ ﷺ كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى، وقال: ﴿وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً﴾ اللهمّ عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار، فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى، وقال: اللهمّ صب عليّ الخير صباً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الأرض جدّاً» أي: غنى.
وقرأ ﴿وأنه﴾ نافع وشعبة بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بالفتح أي وأوحي إليّ أنه ﴿لما قام عبد الله﴾ أي: عبد الملك الأعلى الذي له الجلال كله والجمال، فلا موجود يدانيه بل كل موجود من فائض فضله وعبد الله هو محمد ﷺ حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن.
فإن قيل: هلا قيل رسول الله أو النبي؟ أجيب: بأنّ تقديره وأوحي، فلما كان واقعاً في كلام رسول الله ﷺ عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل أو لأنّ المعنى أنّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر حتى تكونوا عليه لبداً، ومعنى ﴿يدعوه﴾ أي: يعبده وقال ابن جريج: يدعوه أي قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحال أي موحداً له ﴿كادوا﴾ أي: قرب الجنّ المستمعون لقراءته ﴿يكونون عليه﴾ أي: على عبد الله ﴿لبداً﴾ أي: متراكمين بعضهم على بعض من شدّة ازدحامهم حرصاً على سماع القرآن وقيل: كادوا يركبونه حرصاً قاله الضحاك. وقال ابن عباس: رغبة في سماع القرآن وروي عن مكحول أنّ الجنّ بايعوا رسول الله ﷺ في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر، وعن ابن عباس أيضاً أنّ هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله ﷺ وائتمامهم به في الركوع والسجود.
وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني لما قام عبد الله محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليبطلوه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره ويتم نوره، واختار الطبري أن يكون كادت العرب يجتمعون على النبيّ ﷺ ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به، وقرأ هشام بضم اللام والباقون بكسرها، فالأولى جمع لبدة بضم اللام نحو غرفة وغرف. وقيل: بل هو اسم مفرد صفة من الصفات، وعليه قوله تعالى: ﴿مالاً لبداً﴾ (البلد: ٦)
وأمّا الثانية فجمع لبدة بالكسر نحو قربة وقرب واللبدة واللبدة الشيء الملبد أي المتراكب بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد كقول زهير: