أي: يسوونها به في العبادة وعلى هذا فيعدلون من العدل وهو التسوية، والباء متعلقة بيعدلون أو على قوله: الحمد لله على معنى أنّ الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه وأنعمه من العباد ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيكفرون نعمته، وعلى هذا فيعدلون من العدول، والباء متعلقة بكفروا ومعنى ثم استبعاد عدولهم بعد وضوح آيات قدرته.n
﴿
هو الذي خلقكم من طين﴾ أي: ابتدأ خلقكم منه فإنه المادّة الأولى، وإنّ آدم الذي هو أصل البشر خلق منه أو خلق أباكم فحذف المضاف، قال السدّي: بعث الله جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني فرجع جبريل عليه السلام ولم يأخذ قال: يا رب عاذت بك فبعث ميكائيل عليه السلام فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت عليه السلام فعاذت بالله منه فقال: أنا أعوذ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم فقال الله تعالى لملك الموت: رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم اجعل أرواح الخلق من هذا الطين بيدك.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه: خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب وجعله طيناً ثم تركه حتى كان حمأ مسنوناً ثم خلقه وصوّره وتركه حتى كان صلصالاً كالفخار ثم نفخ فيه من روحه ﴿ثم قضى أجلاً﴾ أي: أجلاً لكم تموتون عند انتهائه ﴿وأجل مسمى﴾ أي: مضروب ﴿عنده﴾ أي: وهو أجل القيامة، وقال الحسن: الأوّل: بين وقت الولادة إلى وقت الموت والثاني: من وقت الموت إلى البعث فإن كان الرجل براً تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر وإن كان فاجراً قاطعاً للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث وذلك قوله تعالى: ﴿وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب﴾ (فاطر، ١١) وقيل: الأول: النوم، والثاني: الموت وقيل: الأوّل: لمن مضى، والثاني: لمن بقي ولمن يأتي ﴿ثم أنتم﴾ أيها الكفار ﴿تمترون﴾ أي: تشكون في البعث بعد علمكم أنه ابتدأ خلقكم ومن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر ومعنى ثم استبعاد أيضاً كما مرّ لأن يمتروا فيه بعدما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.
﴿وهو الله﴾ الضمير لله والله خبره وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ بسكون الهاء من وهو والباقون بالضم وقوله تعالى: ﴿في السموات وفي الأرض﴾ متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل: هو مستحق العبادة فيهما ومنه قوله تعالى: ﴿وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله﴾ (الزخرف، ٨٤) أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيهما، وقال الزجاج: فيه تقديم وتأخير تقديره: وهو الله ﴿يعلم سركم﴾ أي: ما تسرون ﴿وجهركم﴾ أي: ما تجهرون به بينكم في السموات والأرض، وقيل: معناه وهو إله السموات والأرض كقوله تعالى: ﴿وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله﴾ (الزخرف، ٨٤) ﴿ويعلم ما تكسبون﴾ أي: ما تعملون من خير أو شرّ فيثيب عليه أو يعاقب.
فإن قيل: الأفعال إمّا أفعال القلوب وهي المسماة بالسر وإمّا أفعال الجوارح وهي المسماة بالجهر والأفعال لا تخرج عن السرّ والجهر فقوله تعالى: ﴿ويعلم ما تكسبون﴾ يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو غير جائز أجيب: بأنّ المراد بالسر ما يخفى وبالجهر ما يظهر من أحوال الأنفس
واجتهادهم في الحياة الدنيا ﴿وهم يحسبون﴾ أي: يظنون، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بالكسر ﴿أنهم يحسنون صنعاً﴾ أي: عملاً يجازون عليه لاعتقادهم أنهم على الحق. ثم بيّن تعالى السبب في بطلان سعيهم بقوله تعالى:
﴿أولئك﴾ أي: البعداء البغضاء ﴿الذين كفروا بآيات ربهم﴾ أي: بدلائل توحيده من القرآن وغيره ﴿ولقائه﴾ أي: رؤيته لأنه يقال: لقيت فلاناً أي: رأيته فإن قيل: اللقاء عبارة عن الوصول قال تعالى: فالتقى الماء على أمر قد قدر وذلك في حق الله تعالى محال فوجب حملة على لقاء ثواب الله تعالى كما قال بعض المفسرين أجيب: بأنّ لفظ اللقاء، وإن كان عبارة عن الوصول إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور والذي يقول: إن المراد لقاء ثواب الله قال: لا يتم إلا بالإضمار وحمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار، ثم قال تعالى: ﴿فحبطت﴾ أي: فبسبب جحدهم الدلائل بطلت ﴿أعمالهم﴾ فصارت هباءً منثوراً فلا يثابون عليها، وفي قوله تعالى: ﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً﴾ قولان؛ أحدهما: أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار، تقول العرب: ما لفلان عندي وزن أي: قدر لخسته، وروى أبو هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة»، وقال: اقرؤوا إن شئتم ﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً﴾ »، الثاني: لا نقيم لهم ميزاناً لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميز مقدار الطاعات ومقدار السيئات، وقال أبو سعيد الخدري: تأتي ناس بأعمالهم يوم القيامة عندهم في التعظيم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً فذلك قوله تعالى: ﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً﴾.
ولما كان هذا السياق في الدلالة على أنّ لهم جهنم أوضح من الشمس قال تعالى:
﴿ذلك﴾ أي: الأمر العظيم الذي بيّناه من وعيدهم ﴿جزاؤهم﴾ ثم بيّن ذلك الجزاء بقوله تعالى: ﴿جهنم﴾ وصرّح بالسببية بقوله تعالى: ﴿بما كفروا﴾ أي: بما أوقعوا التغطية للدلائل ﴿واتخذوا آياتي﴾ الدالة على واحدانيتنا ﴿ورسلي﴾ المؤيدين بالمعجزات الظاهرات ﴿هزوا﴾ أي: مهزوءاً بهما فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزو الذي هو أعظم احتقاراً. ولما بيّن سبحانه وتعالى ما لا حد قسمي أهل الجمع تنفيراً عنهم بيّن ما للآخرين على تقدير الجواب لسؤال يقتضيه الحال ترغيباً في اتباعهم والاقتداء بهم بقوله:
﴿إن الذين آمنوا﴾ أي: باشروا الإيمان ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ من الخصال ﴿كانت لهم﴾ أي: في علم الله قبل أن يخلقوا البناء أعمالهم على الأساس ﴿جنات﴾ أي: بساتين ﴿الفردوس﴾ أي: أعلى الجنة وأوسطها والإضافة إليه للبيان، روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها، وقال كعب: الفردوس هو بستان الجنة الذي فيه الأعناب، وقال مجاهد: هو البستان بالرومية، وقال الزجاج: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية،
على هذا الوجه لا يلزم منه إسناد شيء من الذنوب إليه بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه، وقيل: إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مسألته وهناك أشياء كثيرة ذكرها البغوي وغيره وفيما ذكرناه كفاية.
﴿فغفرنا له ذلك﴾ أي: ما استغفر منه ﴿وإن له عندنا لزلفى﴾ أي: زيادة خير في الدارين بعد المغفرة ﴿وحسن مآب﴾ أي: مرجع في الجنة.
ولما تم الكلام في شرح القصة أردفها ببيان أن الله تعالى فوض إلى داود خلافة الأرض بقوله تعالى:
﴿يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض﴾ أي: تدبر أمر العباد بأمرنا وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول الأول كما مر لأن من البعيد جداً أن يوصف الرسول بكونه ساعياً في سفك دماء المسلمين رغبة في انتزاع أزواجهم من أيديهم ثم يذكر عقبه أن الله تعالى فوض خلافة الأرض إليه، ثم في تفسير كونه خليفة وجهان:
أحدهما: جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه وذلك إنما يعقل في حق من تصح عليه الغيبة وذلك على الله تعالى محال.
ثانيهما: إنا جعلناك ممكناً في الناس نافذ الحكم فيهم فبهذا التأويل يسمى خليفة ومنه يقال: خليفة الله تعالى في أرضه.
وحاصله: أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق الله تعالى فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة للزوم نفاذ الحكم في تلك الحقيقة ﴿فاحكم بين الناس﴾ أي: الذين يتحاكمون إليك من أي قوم كانوا ﴿بالحق﴾ أي: بالعدل لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقة الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات وإذا كانت الأحكام على وفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أفضى ذلك إلى تخريب العالم ووقوع الهرج فيه والمرج في الخلق وذلك يفضي إلى هلاك ذلك الحاكم ولهذا قال تعالى: ﴿ولا تتبع الهوى﴾ أي: لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله تعالى ثم سبب عنه قوله تعالى: ﴿فيضلك﴾ أي: ذلك الاتباع أو الهوى ﴿عن سبيل الله﴾ لأن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب ﴿إن الذين يضلون عن سبيل الله﴾ أي: عن الإيمان بالله تعالى ﴿لهم عذابٌ شديدٌ بما نسوا﴾ أي: بسبب نسيانهم ﴿يوم الحساب﴾ أي: المرتب عليه تركهم الإيمان ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في الدنيا، وقال الزجاج: بتركهم العمل لذلك اليوم، وقال عكرمة والسدي: في الآية تقديم وتأخير تقديره لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا أي: تركوا القضاء بالعدل.
﴿وما خلقنا السماء﴾ التي ترونها ﴿والأرض وما بينهما﴾ أي: مما تحسون به من الرياح وغيرها خلقاً ﴿باطلاً﴾ أي: عبثاً قال الله تعالى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون﴾ (المؤمنون: ١١٥)
تنبيه: احتج أهل السنة بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى خلق كل ما بين السماء والأرض وأعمال العباد مما بين السماء والأرض فوجب أن يكون تعالى خالقاً لها، ودلت على صحة القول بالحشر والنشر لأنه تعالى لما خلق الخلق في هذا العالم فإما أن يكون خلقهم للإضرار والانتفاع أو لا لشيء، والأول باطل لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم، والثالث أيضاً باطل، لأن هذه الحالة حاصلة خالصة حين كانوا معدومين فلم يبق إلا أن يقال: خلقهم للانتفاع وذلك الانتفاع
وكان ذلك في آخر السنة. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها وما فيها من المبالغة في الردّ على من يقول بالنجم. وقال له مسافر بن عون: يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر بعد ثلاث ساعات تمضين من النهار. فقال له عليّ: ولم؟ قال له: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظهرت وظفرت وأصبت ما طلبت، فقال عليّ: ما كان لمحمد ﷺ منجم ولا لنا من بعده، ثم قال: فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون اتخذ من دون الله ندّاً أو ضدّاً، اللهمّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر إنما المنجم كالكافر، والكافر في النار، والمنجم كالساحر والساحر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في صحيح مسلم ثم قال: «لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال: إنما كان ذلك بتنجيمي، وما لمحمد منجم وما لنا بعده، وقد فتح الله تعالى علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان، ثم قال: يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي عمن سواه».
﴿فإنه﴾ أي: الله سبحانه يظهر ذلك الرسول على ما يريد من ذلك الغيب، وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه ﴿يسلك﴾ أي: يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقوّمه ونفوذه من غير أدنى تعويج إلى غير المراد ﴿من بين يديه﴾ أي: الجهة التي يعلمها ذلك الرسول ﴿ومن خلفه﴾ أي: الجهة التي تغيب عن علمه، فصار ذلك كناية عن كل جهة. قال البقاعي: ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل، وخصهما لأنّ العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها، ومتى حفظتا لم يأت من غيرهما لأنه يصير بين الأوّلين والآخرين ﴿رصداً﴾ أي: حرساً من جنوده يحرسونه ويحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع من الملائكة ويحفظونه من الجنّ أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة قبل الرسول، فيطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم حتى يبلغ ما يوحى إليه.
وقال مقاتل وغيره: كان الله إذا بعث رسولاً أتاه إبليس في صورة ملك بخبر، فبعث الله تعالى من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره، وإذا جاءه ملك قالوا له: هذا رسول ربك. وعن الضحاك: ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك.
﴿ليعلم﴾ أي: الله علم ظهور كقوله تعالى: ﴿حتى نعلم المجاهدين﴾ (محمد: ٣١)
﴿أن﴾ مخففة من الثقيلة، أي أنه ﴿قد أبلغوا﴾ أي: الرسل ﴿رسالات ربهم﴾ وحد أوّلاً على اللفظ في قوله تعالى ﴿من بين يديه ومن خلفه﴾ ثم جمع على المعنى كقوله تعالى: ﴿فأنّ له نار جهنم خالدين فيها﴾ (التوبة: ٦٣)، والمعنى ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان. وقيل: ليعلم محمد ﷺ أن جبريل قد بلغ رسالات ربه. وقيل: ليعلم محمد ﷺ أنّ الرسل قد بلغوا رسالات ربهم.
﴿وأحاط بما لديهم﴾ أي: بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفاً، فهو مهيمن عليها حافظ لها ﴿وأحصى﴾