يضرّوك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه».
﴿وهو القاهر﴾ أي: القادر الذي لا يعجزه شيء مستعلياً ﴿فوق عباده﴾ فهم مقهورون تحت قدرته وكل من قهر شيئاً فهو مستعل عليه بالقهر والغلبة ﴿وهو الحكيم﴾ في خلقه ﴿الخبير﴾ ببواطنهم كظواهرهم ونزل لما قالت قريش للنبيّ ﷺ يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا ما يشهد لك.
﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك ويجحدون نبوّتك من قومك ﴿أيّ شيء﴾ بيني وبينكم ﴿أكبر شهادة﴾ تمييز محوّل عن المبتدأ ﴿قل الله﴾ أكبر شهادة إن لم تقولوه لا جواب غيره ثم ابتدأ ﴿شهيد بيني وبينكم﴾ أي: هو شهيد بيني وبينكم ويحتمل أن يكون الله شهيداً هو الجواب لأنه تعالى إذا كان هو الشهيد كان أكبر شيء شهادة ﴿وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم﴾ يا أهل مكة ﴿به﴾ أي: القرآن واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة وقوله تعالى: ﴿ومن بلغ﴾ عطف على ضمير المخاطبين أي: لأنذركم به يا أهل مكة ومن بلغه من الإنس والجنّ إلى يوم القيامة وهو دليل على أنّ أحكام القرآن تعمّ الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم وأنه لا يؤاخذ بها من لم يبلغه قال محمد بن كعب القرطبيّ: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبيّ ﷺ وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله ﷺ إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله تعالى.
وروي أنه ﷺ قال: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار». وفي رواية «نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها فربّ مبلغ أوعى من سامع». وفي رواية «فربّ حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» وقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجنّ والإنس فهو نذير له وقوله تعالى: ﴿أئنكم لتشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى﴾ إستفهام إنكاري قل: يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جحدوا نبوّتك واتخذوا آلهة غيري إنكم أيها المشركون لتشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها ﴿قل﴾ لهم ﴿لا أشهد﴾ بما تشهدون به أنّ مع الله آلهة أخرى بل أجد ذلك وأنكره ﴿قل إنما هو إله واحد﴾ لا شريك له وبذلك أشهد ﴿وإنني بريء مما تشركون﴾ معه من الأصنام، وفي الآية دليل على إثبات التوحيد ونفي الشريك لأنّ كلمة إنما تفيد الحصر فثبت بذلك إيجاب التوحيد والتبري من كل معبود سوى الله تعالى.
﴿الذين آتيناهم الكتاب﴾ أي: التوراة والإنجيل وهم علماء اليهود والنصارى ﴿يعرفونه﴾ أي: محمداً ﷺ بنعته وصفته ﴿كما يعرفون أبناءهم﴾ من بين الصبيان.
روي أنّ النبيّ ﷺ لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال عمر رضي الله تعالى عنه: إنّ الله تعالى أنزل على نبيه محمد ﷺ بمكة هذه الآية فكيف هذا؟ فقال عبد الله بن سلام: قد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشدّ معرفة بمحمد ﷺ من ابني فقال له عمر: كيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله حقاً ولا أدري ما تصنع النساء ﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ من أهل الكتاب والمشركين ﴿فهم لا يؤمنون﴾ به لما سبق لهم من الفضاء بالشقاء.
﴿ومن﴾ أي: لا أحد ﴿أظلم ممن افترى على الله كذباً﴾ كقولهم: الملائكة بنات الله
امرأتي عاقراً} لا تلد أصلاً بما دل عليه فعل الكون ﴿فهب لي﴾ أي: فتسبب عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة وخوفي من سوء خلافة أقاربي ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي وبلوغي من الكبر حدّاً لا حراك بي معه أني أقول لك: يا قادر على كل شيء هب لي ﴿من لدنك﴾ أي: من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات ﴿ولياً﴾ أي: ابناً من صلبي
﴿يرثني﴾ في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوّة والعمل ﴿ويرث﴾ زيادة على ذلك ﴿من آل يعقوب﴾ جزءاً مما خصصتهم به من المنح وفضلتهم به من النعم ومحاسن الأخلاق ومعالي الشيم فإن الأنبياء لا يورثون المال، وقيل: يرثني الحبورة أي: العلم بتحبير الكلام وتحسينه فإنه كان حبراً هو بالفتح والكسر وهو أفصح، يقال: للعالم بتحبير الكلام وتحسينه وهو يعقوب بن إسحاق عليهما السلام.
وقيل: يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوّة ولفظ الإرث يستعمل في المال وفي العلم والنبوّة، أما في المال فلقوله تعالى: ﴿وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم﴾ (الأحزاب، ٢٧)، وأما في النبوة فلقوله تعالى: ﴿وأورثنا بني إسرائيل الكتاب﴾ (غافر، ٥٣)
الآية، وقال ﷺ «العلماء ورثة الأنبياء» ولأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما يورثون العلم وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليه السلام: ﴿ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب﴾ (يوسف، ٦)
ولأن إسرائيل قد صار علماً على الأسباط كلهم وكانت قد غلبت عليهم الأحداث، وقرأ أبو عمرو والكسائي بجزم الثاء المثلثة فيهما على أنهما جواب الأمر إذ تقديرهما إن تهب يرث والباقون بالضم فيهما على أنهما صفة واعتراض بأن زكريا دعا الله تعالى أن يهبه ولداً يرثه مع أن يحيى قتل قبله فلم يجبه إلى أرثه منه وأجيب: بأن إجابة دعاء الأنبياء غالبة لا لازمة فقد يتخلف لقضاء الله تعالى بخلافه كما في دعاء إبراهيم عليه السلام في حق أبيه وكما في دعاء نبينا محمد ﷺ في قوله: «وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها»، ولما كان من قضاء الله تعالى وقدره أن يوجد يحيى نبياً صالحاً ثم يقتل استجيب دعاء زكريا في إيجاده دون إرثه. ولما ختم دعاءه بقوله: ﴿واجعله رب﴾ أي: أيها المحسن إليّ ﴿رضياً﴾ أي: مرضياً عندك، أجابه الله تعالى بقوله تعالى:
﴿يا زكريا إنا نبشرك بغلام﴾ يرث كما سألت ﴿اسمه يحيى﴾ وقرأ حمزة بفتح النون وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة والباقون بضم النون وفتح الموحدة وكسر الشين مشددة وكذلك في آخر السورة.
تنبيه: يحيى اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل: منقول من الفعل المضارع كما سموا بيعمر، وإنما تولى تعالى تسميته تشريفاً له قال تعالى: ﴿لم نجعل له من قبل سمياً﴾ (مريم، ٦٥)
أي: مسمى بيحيى، قال قتادة والكلبي: لم يسمّ أحد قبله بيحيى.
تنبيه: سمياً مأخوذ من السمّو وفيه دلالة لقول البصريين إن الاسم من السمو، ولو كان من الوسم لقيل وسيماً، وقال سعيد بن جبير وعطاء: لم نجعل له شبهاً ومثلاً كما قال تعالى: ﴿هل تعلم له سمياً﴾ أي: مثلاً والمعنى أنه لم يكن له مثل لأنه لم يعص ولم يهمّ بمعصية قط، وردّ هذا لأن هذا يقتصي تفضيله على الأنبياء قبله كإبراهيم وموسى وليس كذلك، وقيل: لم يكن له ميل إلى أمر النساء لأنه كان سيداً وحصوراً، وعن ابن عباس لم تلد العواقر مثله ولداً، ثم كأنه قيل: فما قال في جواب هذه البشارة العظيمة؟ فقيل:
﴿قال﴾ عالماً
الصلاة إنما يكون ذلك مذموماً إذا تركها متعمداً ولم يكن ذلك بل نسيها وقد نام ﷺ في الوادي حتى طلعت الشمس وقضى الصبح والنسيان والنوم لا مؤاخذة فيهما، وقوله: ثانيها: أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إنما اشتغل بذلك لأمر الجهاد وهو مطلوب في حقه، وقوله: ثالثها: أنه لم يشتغل بالتوبة يقال: إنه لم يأت بذنب، وقوله: رابعها: أنه خاطب رب العالمين بقوله: ردوها علي ممنوع والمخاطب إنما هو جماعته، وقوله: خامسها إلى أن قال: وقد نهى النبي ﷺ عن عقر الحيوان قد مر عنهم أن ذلك كان مباحاً له فليس فيما قالوه نسبة سليمان عليه الصلاة والسلام إلى معصية فلو قال: الأولى أن يقال: كذا كان أولى، وقرأ قنبل بهمزة ساكنة بعد السين وقيل عنه أيضاً بضم الهمزة وواو بعدها، واختلف في سبب الفتنة التي وقعت لسليمان عليه السلام في قوله تعالى:
﴿ولقد فتنا سليمان وألقينا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿على كرسيه جسداً ثم أناب﴾ فقال محمد بن إسحاق: عن وهب بن منبه قال: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر وكان الله تعالى قد أعطى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر إنما يركب إليه الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فأخذها وقتل ملكها وسبا ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتاً لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسناً وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه، وأحبها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها فشق ذلك على سليمان عليه السلام.
فقال لها: ويحك ما هذا الحزن؟ قالت له: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصاب فيحزنني ذلك فقال لها سليمان عليه السلام: قد أبدلك الله ملكاً هو أعظم من ملكه وسلطاناً هو أعظم من سلطانه وهداك إلى الإسلام وهو خير من ذلك كله، قالت: إن ذلك كذلك ولكن إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري أراها بكرة وعشياً لرجوت أن يذهب ذلك حزني، فأمر سليمان عليه السلام الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فعمدت إليه حين صنعوه وألبسته ثياباً مثل ثيابه التي كان يلبسها، ثم كانت إذا خرج سليمان عليه السلام تذهب إليه مع ولائدها فتسجد له ويسجدن معها له تبعاً لها كما كانت تصنع في ملكه، وسليمان عليه السلام لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحاً، فبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صديقاً لسليمان عليه السلام وكان لا يرد عن أبواب سليمان عليه السلام أي ساعة أراد دخول شيء من بيوت سليمان عليه السلام حاضراً كان سليمان عليه السلام أو غائباً.
فقال: يا نبي الله كبر سني ورق عظمي ونفد عمري وقد حان مني الذهاب وقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل الموت أذكر فيه من مضى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأثني عليهم بعملي فيهم وأعلم الناس ببعض ما كانوا يجهلون من كثير أمرهم، فقال: افعل فجمع سليمان عليه السلام الناس فقام فيهم خطيباً فذكر من مضى من أنبياء الله تبارك وتعالى وأثنى على كل نبي بما فضله الله به حتى انتهى إلى سليمان عليه السلام فقال: ما كان أحكمك في صغرك ثم انصرف، فوجد سليمان عليه السلام في نفسه من ذلك حتى امتلأ غضباً، فلما دخل داره
الوداع، واعتمر أربعاً وتوفيّ ﷺ يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة.
فائدة: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم معصومون قبل النبوة من الكفر وفي المعاصي خلاف وبعدها من الكبائر وكذا من الصغائر ولو سهواً عند المحققين.
وقوله تعالى ﴿نصفه﴾ بدل من قليلاً وقلته بالنظر إلى الكل ﴿أو انقص منه﴾ أي: من النصف ﴿قليلاً﴾ أي: الثلث ﴿أو زد عليه﴾ أي: على النصف إلى الثلثين، وأو للتخيير فكان ﷺ مخيراً بين هذه المقادير الثلاثة، وكان ﷺ يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب وكذا بعض أصحابه، واشتدّ ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم وقد تقدّم أنّ ذلك نسخ بإيجاب الصلوات الخمس، فصار قيام الليل تطوعاً فينبغي للمتعبد المواظبة عليه خصوصاً في الوقت الذي يبارك الله تعالى بالتجلي فيه، فإنه صح أنه ينزل سبحانه عن أن تشبه ذاته شيئاً أو نزوله نزول غيره، بل هو كناية عن فتح باب السماء الذي هو كناية عن وقت استجابة الدعاء حتى يبقى ثلث الليل، وفي رواية حتى يبقى شطر الليل الآخر إلى سماء الدنيا، فيقول سبحانه هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر.
ولما أمر بالقيام وقدّر وقته وعينه أمر بهيئة التلاوة التي هي روح الصلاة على وجه عامّ، فقال تعالى: ﴿ورتل القرآن﴾ أي: اقرأه على ترسل وتؤدة وتبيين حروفه وإشباع حركاته بحيث يتمكن السامع من عدّها ويجيء المتلو منه شبيهاً بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان وأن لا يهذه هذاً ولا يسرده سرداً، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شرّ السير الحقحقة، وشرّ القراءة الهذرمة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ولا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر ولكن قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
وقوله تعالى: ﴿ترتيلاً﴾ تأكيد في الأمر به وأنه لا بدّ منه للقارئ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: اقرأ على هينتك ثلاث آيات أو أربعاً أو خمساً، وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبيّ ﷺ قام حتى أصبح بآية» والآية ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم﴾ (المائدة: ١١٨)
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قراءته ﷺ فقالت: «لا كسردكم هذا لو أراد السامع أن يعد حروفها لعدها». وسئل أنس رضي الله عنه كيف كانت قراءة النبي ﷺ قال: «كانت مدًّا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدّ بسم الله ويمدّ الرحمن ويمدّ الرحيم». وجاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذاً كهذ الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان النبيّ ﷺ يقرن بينهنّ فذكر عشرين سورة من المفصل كل سورتين في ركعة.
وروى الحسن رضي الله عنه أنّ النبيّ ﷺ «مرّ برجل يقرأ آية ويبكي فقال ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجلّ: ﴿ورتل القرآن ترتيلاً﴾ هذا الترتيل». وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن عوف قال: «قال النبيّ ﷺ يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة، فيوقف في أوّل درج الجنة، ويقال له اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها». وندب إصغاء إليه وبكاء عند القراءة وتحسين صوت بها وتعوذ بها جهراً وإعادته لفصل طويل وجلوس لها واستقبال وتدبر وتخشع. وكرهت