الطاعة.
﴿قل﴾ لهم ﴿لا أقول لكم عندي خزائن الله﴾ نزلت حين اقترحوا عليه الآيات فأمره الله تعالى أن يقول لهم: إنما بعثت بشيراً ونذيراً ولا أقول لكم عندي خزائن الله جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي خزائن رزقه أو مقدوراته فأعطيكم منها ما تريدون لأنهم كانوا يقولون للنبيّ ﷺ إن كنت رسولاً من الله فاطلب منه أن يوسع علينا ويغني فقرنا فأخبر أنّ ذلك بيد الله لا بيدي ﴿ولا﴾ أقول لكم إني ﴿أعلم الغيب﴾ أي: فأخبركم بما مضى وما هو آت وذلك أنهم قالوا له: أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نستعدّ لتحصيل المصالح ودفع المضار فأجابهم بقوله: ولا أعلم الغيب فأخبركم بذلك ﴿ولا أقول لكم إني ملك﴾ وذلك أنهم قالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوّج النساء؟ فأجابهم بذلك لأنّ الملك يقدر على ما لا يقدر عليه البشر ويشاهد ما لا يشاهدونه أي: لا أقول لكم شيئاً من ذلك فتنكرون وتجحدون.
فإن قيل: قد يستدل بهذا على أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء لأنّ معنى الكلام لا أدعي منزلة أقوى من منزلتي ولولا أنّ الملائكة أفضل لم يصح ذلك؟ أجيب: بأنه ﷺ إنما قال ذلك تواضعاً لله تعالى واعترافاً بالعبودية حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح وبأنّ المراد بما قاله نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة وذلك لا يدل على أنهم أفضل من الأنبياء ﴿إن أتبع إلا ما يوحى إليّ﴾ تبرأ ﷺ من دعوى الألوهية والملكية وادّعى النبوّة مع الرسالة التي هي أعلى كمالات البشر ردّاً لاستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدّعاه وظاهر هذه الآية يدل على أنه ﷺ ما كان يجتهد في شيء من الأحكام بل جميع أوامر الله ونواهيه إنما كانت بوحي ولكن المرجح أنه يجتهد ﴿قل﴾ لهم ﴿هل يستوي الأعمى والبصير﴾ أي: هل يكونون سواء من غير مزية فإن قالوا: نعم كابروا الحس، وإن قالوا: لا، قيل: فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير ومن أعرض فهو الأعمى. وقيل: المراد بالأوّل الكافر وبالثاني المؤمن، وقيل: الضال والمهتدي، وقيل: الجاهل والعالم ﴿أفلا تتفكرون﴾ في أنهما لا يستويان فتؤمنوا.
﴿وأنذر﴾ أي: خوّف إذ الإنذار إعلام مع تخويف ﴿به﴾ أي: القرآن وقوله تعالى: ﴿الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم﴾ إمّا قوم داخلون في الإسلام ومقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل وأمّا أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث وإمّا ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار دون المتمرّدين منهم وقوله تعالى: ﴿ليس لهم من دونه﴾ أي: غير الله تعالى ﴿وليّ﴾ أي: ينصرهم ﴿ولا شفيع﴾ أي: يشفع لهم حال من ضمير يحشرون بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم ولا بدّ من هذه الحال لأنّ كلاً منهم محشور فإنّ المخوّف هو الحشر على هذه الحالة. ،
فإن قيل: إذا فسر ما ذكر بالمؤمنين كان مشكلاً لأنه قد ثبت بصحيح النقل شفاعة نبينا ﷺ للمذنبين من أمّته وكذلك تشفع الملائكة والأنبياء والمؤمنون بعضهم لبعض أجيب: بأنّ الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله تعالى كما قال: ﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه﴾ (البقرة، ٢٥٥) وإذا كانت الشفاعة لا تكون
السلام وأنه كالقابلة للولد.
ثالثها: أن المنادي على القراءة بالفتح هو عيسى وعلى القراءة بالكسر هو جبريل وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم، قال الرازي: والأول أقرب وصدر به البيضاوي واقتصر الجلال المحلي على الثاني، والمعنى على الأول أن الله تعالى أنطقه لها حين ولدته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل من علو شأن ذلك الولد، وعلى الثاني أن الله تعالى أرسله إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أوّل الأمر تذكيراً للبشارات المتقدمة والضمير في تحتها للسيدة مريم وعلى تقدير أن يكون المنادي هو عيسى فهو ظاهر، وإن كان جبريل فقيل: إنه كان تحتها يقبل الولد كالقابلة، وقيل: تحتها أسفل من مكانها، وقيل: الضمير فيه للنخلة أي: ناداها من تحتها ﴿أن لا تحزني﴾ يجوز في أن أن تكون مفسرة لتقدمها ما هو بمعنى القول ولا على هذا ناهية وحذف النون للجزم وأن تكون الناصبة و ﴿لا﴾ حينئذٍ نافية وحذف النون للنصب ومحل ﴿أن﴾ إما نصب أو جرّ لأنها على حذف حرف الجر أي: فناداها بكذا ﴿قد جعل ربك﴾ أي: المحسن إليك ﴿تحتك﴾ في هذه الأرض التي لا ماء جار فيها ﴿سرياً﴾ أي: جدولاً من الماء تطيب به نفسك، قال الرازي: اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري: هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه، وأما الحسن وابن زيد فإنهما جعلا السري هو عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال: فلان من سروات قومه أي: أشرافهم، واحتج من قال: هو النهر بأن النبي ﷺ سئل عن السري فقال: «هو الجدول»
وبقوله تعالى: ﴿فكلي واشربي﴾ فدل على أنه النهر حتى يضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب، واحتج من قال: إنه عيسى بأن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كقول فرعون: ﴿وهذه الأنهار تجري من تحتي﴾ (الزخرف، ٥١)
لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى لم يحتج إلى هذا المجاز وأيضاً فإنه موافق لقوله وجعلنا ابن مريم وأمه آية وأجيب: بأن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان تحت.
تنبيه: إذا قيل بأن السري هو النهر ففيه وجهان؛ الأول: قال ابن عباس: إن جبريل ضرب برجله الأرض، وقيل: عيسى فظهر عين ماء عذب وجرى، وقيل: كان هناك ماء جار، قال ابن عادل: والأول أقرب لأن قوله قد جعل ربك تحتك سرياً يدل على الحدوث في ذلك الوقت ولأن الله تعالى ذكره تعظيماً لشأنها، وقيل: كان هناك نهر يابس أجرى الله فيه الماء وحييت النخلة اليابسة وأورقت وأثمرت وأرطبت، قال أبو عبيدة والفراء: لسري هو النهر مطلقاً، وقال الأخفش: هو النهر الصغير.
﴿وهزي إليك﴾ أي: أوقعي الهز وهو جذب بتحريك ﴿بجذع النخلة﴾ أي: التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها ﴿تساقط عليك﴾ من أعلاها ﴿رطباً جنياً﴾ طرياً آية أخرى عظيمة روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر، وكان الوقت شتاء فهزتها فجعل الله تعالى لها رأساً وخوصاً ورطباً، وقرأ حمزة بفتح التاء والسين مخففة وفتح القاف وحفص بضم التاء وفتح السين مخففة وكسر القاف والباقون بفتح التاء
كان له ضعف ما كان، وقوله تعالى: ﴿رحمة﴾ أي: نعمة ﴿منا﴾ مفعول لأجله أي: وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه ﴿وذكرى﴾ أي: وتذكيراً بحاله ﴿لأولي الألباب﴾ أي: أصحاب العقول ليعلموا أن من صبر ظفر وأن رحمة الله تعالى واسعة وهو عند القلوب المنكسرة فما بينه وبين الإجابة الأحسن الإنابة فمن دام إقباله عليه أغناه عن غيره كما قيل:

*لكل شيء إذا فارقته عوض وما عن الله إن فارقت من عوض*
وهذا تسلية لنبيه ﷺ كما مر وقوله تعالى:
﴿وخذ بيدك ضغثاً﴾ معطوف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش والقضبان فيها مائة عود كشمراخ النخلة وقيل: الحزمة الكبيرة من القضبان، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿فاضرب به ولا تحنث﴾ يدل على تقدم يمين منه عليه الصلاة والسلام واختلفوا في سبب حلفه عليها ويبعد ما قيل أنها رغبته في طاعة الشيطان ويبعد أيضاً ما روي أنها قطعت ذؤابتيها لأن المضطر يباح له ذلك، بل الأقرب ما روي أن زوجته ليا بنت يعقوب وقيل: رحمة بنت افراثيم بن يوسف عليه السلام ذهبت لحاجة فأبطأت عليه فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برئ.
ولما كانت حسنة الخدمة جعل الله تعالى يمينه بأهون شيء عليه وعليها وهذه الرخصة باقية في الحدود لما روي أنه ﷺ «أتي برجل ضعيف قد زنا بأمة فقال ﷺ خذوا مائة شمراخ واضربوه بها ضربة واحدة» ﴿إنا وجدناه صابراً﴾ أي: فيما أصابه في النفس والأهل والمال.
فإن قيل: كيف وجده صابراً وقد شكا إليه؟ أجيب بأوجه: أحدها: أن شكواه إلى الله تعالى كتمني العافية فلا يسمى جزعاً ولهذا قال يعقوب عليه السلام: ﴿إنما أشكو بثي وحزني إلى الله﴾ (يوسف: ٨٦)
وكذلك شكوى العليل وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية وطلبها، فإذا صح أن يسمى صابراً مع تمني العافية أفلا يعد صابراً مع اللجوء إلى الله تعالى والدعاء بكشف ما به مع التعالج ومشاورة الأطباء. ثانيها: أن الآلام حين كانت على الجسد لم يذكر شيئاً فلما تعاظمت الوساوس على القلب تضرع إلى الله تعالى. ثالثها: أن الشيطان عدو والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر، ويروى أنه قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصري ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعاناً ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه ثم استأنف قوله تعالى: ﴿نعم العبد﴾ أي: أيوب عليه السلام ثم علل بقوله تعالى: مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك ﴿إنه أواب﴾ أي: رجاع إلى الله تعالى روي: أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿نعم العبد﴾ في حق سليمان عليه السلام تارة وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم في قلوب أمة محمد ﷺ وقالوا: إن قوله تعالى: ﴿نعم العبد﴾ تشريف عظيم فإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب عليه السلام لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله فأنزل الله تعالى قوله سبحانه وتعالى: ﴿نعم المولى ونعم النصير﴾ (الأنفال: ٤٠)
والمراد: أنك أيها الإنسان إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى وإن كان منك غير الفضل فأنا مني الفضل، وإن كان منك التقصير فمني الرحمة والتيسير.
القصة الرابعة: قصة إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهما السلام المذكورة
الذي في بطن عضد الحمار ـ وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبر القوم، ثم قال: فثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: شطر أهل الجنة فكبروا» وفي هذا إشارة إلى الاعتناء بهم لأنّ إعطاء الإنسان مرّة بعد مرّة دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته، وفي هذا أيضاً حملهم على تجديد شكر الله تعالى وحمده على إنعامه عليهم وهو تكبيرهم لهذه البشارة العظيمة.
ثم وصف هول ذلك اليوم بقوله تعالى: ﴿السماء منفطر﴾ أي: ذات انفطار أي: انشقاق ﴿به﴾ أي: بسبب ذلك اليوم لشدّته فالباء سببية، وجوّز الزمخشري أن تكون للاستعانة فإنه قال: والباء في به مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به. وقال القرطبي: معنى به أي: فيه أي: في ذلك اليوم. وقيل: به أي: بالأمر أي: السماء منفطر بما يجعل الولدان شيباً، وقيل: منفطر بالله أي: بأمره.
تنبيه: إنما لم تؤنث الصفة لوجوه، منها: قال أبو عمرو بن العلاء: لأنها بمعنى السقف تقول هذا سماء البيت قال تعالى: ﴿وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً﴾ (الأنبياء: ٣٢)
. ومنها أنها على النسبة أي: ذات انفطار، نحو امرأة مرضع وحائض أي: ذات إرضاع وذات حيض. ومنها أنها تذكر وتؤنث أنشد الفراء:
*فلو رفع السماء إليه قوماً لحقنا بالسماء وبالسحاب
ومنها: أنه اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء فيقال: سماءة واسم الجنس يذكر ويؤنث ولهذا قال أبو علي الفارسي: هو كقوله تعالى ﴿منتشر﴾ (القمر: ٧)
و ﴿أعجاز نخل منعقر﴾ (القمر: ٢٠)
يعني: فجاء على أحد الجائزين، أو لأنّ تأنيثها ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز تذكيره. قال الشاعر:
*................... والمها... بالإثمد الحبرى مكحول*
والضمير في قوله تعالى: ﴿كان وعده مفعولاً﴾ يجوز أن يكون لله وإن لم يجر له ذكر للعلم به فيكون المصدر مضافاً لفاعله، ويجوز أن يكون لليوم فيكون مضافاً لمفعوله والفاعل وهو الله تعالى مقدّر. قال المفسرون: كان وعده بالقيامة والحساب والجزاء مفعولاً كائناً لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله.
﴿إن هذه﴾ أي: الآيات الناطقة بالوعيد الشديد أو السورة ﴿تذكرة﴾ أي: تذكير عظيم هو أهل لأن يتعظ به، ويعتبر به المعتبر ولاسيما ما ذكر فيها لأهل الكفر من العذاب.
ولما كان سبحانه قد جعل للإنسان عقلاً يدرك به الحسن والقبيح واختياراً يتمكن به من اتباع ما يريد فلم يبق له مانع من جهة اختيار الأصلح والأحسن إلا قهر المشيئة التي لا اطلاع له عليها ولا حيلة له فيها سبب عن ذلك قوله تعالى: ﴿فمن شاء اتخذ﴾ أي: بغاية جهده ﴿إلى ربه﴾ أي: المحسن إليه خاصة لا إلى غيره ﴿سبيلاً﴾ أي: طريقاً إلى رضاه ورحمته فليرغب فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: ﴿فمن شاء ذكره﴾ (المدثر: ٥٥)
قال الثعلبي: والأشبه أنه غير منسوخ.
﴿إنّ ربك﴾ أي: المدبر لأمرك على ما يكون إحساناً إليك ورفقاً بك ﴿يعلم أنك تقوم﴾ أي: في الصلاة كما أمرت به أوّل السورة ﴿أدنى﴾ أي: زماناً أقل والأدنى مشترك بين الأقرب والأدون الأنزل رتبة؛ لأنّ كلاً منهما يلزم عنه قلة المسافة. ﴿من ثلثي الليل﴾ وقرأ ﴿ونصفه وثلثه﴾ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بنصب الفاء بعد الصاد ونصب المثلثة بعد اللام ورفع الهاء فيهما عطف على أدنى والباقون بكسر الفاء والمثلثة وكسر الهاء فيهما عطف على ضمير تقوم وقيامه كذلك مطابق لما وقع التخيير فيه أوّل السورة من قيام النصف


الصفحة التالية
Icon