كذابين يخرجان بعدي يقال لأحدهما مسيلمة صاحب اليمامة والعنسي صاحب صنعاء» وقوله ﷺ «فأوحى الله إلي أن أنفحهما» بالحاء المهملة ومعناه الرمي والدفع من نفحت الدابة برجلها ويروى بالخاء المعجمة من النفخ وهو قريب من الأوّل فأمّا مسيلمة الكذاب فإنه ادعى النبوّة في اليمامة وتبعه قوم من بني حنيفة وقتل في خلافة أبي بكر قتله وحشيّ قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما وكان يقول: قتلت خير الناس يعني: حمزة، وقتلت شرّ الناس يعني: مسيلمة الكذاب، قتل الأوّل وهو كافر وقتل الثاني وهو مسلم، وأمّا الأسود العنسي بالنون ويقال له: ذو الحمار، ادعى النبوّة باليمن في آخر عهد رسول الله ﷺ وقتل في حياته ﷺ قبل موته بيومين وأخبر ﷺ أصحابه بقتله، قتله فيروز الديلميّ فقال صلى الله عليه وسلم
«فاز فيروز بقتل الأسود العنسي» ﴿ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله﴾ قال السدّي: نزلت في عبد الله بن أبي سرح وكان قد أسلم وكان يكتب للنبيّ ﷺ فكان إذا أملى عليه ﷺ سميعاً بصيراً كتب عليماً حكيماً وإذا أملى عليه عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً فلما نزلت ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين﴾ (المؤمنين، ١٢)
أملاها رسول الله ﷺ فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبيّ ﷺ «اكتبها هكذا نزلت» فشك عبد الله بن سرح وقال لئن كان محمد صادقاً فقد أوحي إليّ مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة حين نزول رسول الله ﷺ بمرّ الظهران وقال ابن عباس: ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله يريد المستهزئين وهو جواب لقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، قال العلماء: وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذباً في ذلك الزمان وبعده لأنّ خصوص السبب لا يمنع عموم الحكم
﴿ولو ترى﴾ يا محمد ﴿إذ الظالمون﴾ حذف مفعوله لدلالة الظرف عليه، أي: ولو ترى الظالمين المذكورين ﴿في غمرات﴾ أي: شدائد ﴿الموت﴾ من غمره الماء إذا غشيه فاستعير للشدة الغالبة ﴿والملائكة باسطو أيديهم﴾ أي: لقبض أرواحهم كالمتقاضي الملازم لغريمه لا يفارقه، أو بالعذاب أو الضرب يضربون وجوههم وأدبارهم يقولون لهم تعنيفاً: ﴿أخرجوا أنفسكم﴾ إلينا لنقبضها.
فإن قيل: إنه لا قدرة لأحد على إخراج روحه من بدنه فما فائدة هذا؟ أجيب: بأنهم يقولون لهم: أخرجوها كرهاً لأن المؤمن يحب لقاء الله بخلاف الكافر، وقيل: يقولون لهم: خلصوا أنفسكم من هذا العذاب إن قدرتم على ذلك فيكون هذا القول توبيخاً لهم لأنهم لا يقدرون على خلاص أنفسهم من العذاب في ذلك الوقت ﴿اليوم تجزون عذاب الهون﴾ أي: الهوان ﴿بما كنتم تقولون على الله غير الحق﴾ أي: كادعاء الولد والشريك له تعالى ودعوى النبوّة والإيحاء كذباً ﴿وكنتم عن آياته تستكبرون﴾ أي: تتكبرون عن الإيمان بها وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراَ فظيعاً.
﴿و﴾ يقال لهم إذا بعثوا للحساب والجزاء ﴿لقد جئتمونا فرادى﴾ أي: منفردين عن الأهل والمال والولد وسائر ما آثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى وفي هذا تقريع
متى شاؤوا، ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل أشار إلى علوّ رتبتها وما هو سببها بقوله تعالى:
﴿تلك الجنة﴾ بأداة البعد لعلو قدرها وعظم أمرها ﴿التي نورث من عبادنا﴾ أي: نعطي عطاء الإرث الذي لا كدّ فيه ولا استرجاع وتبقى له الجنة كما يبقى للوارث مال الموروث وقيل تنقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل النقل إرثاً قاله الحسن ﴿من كان تقياً﴾ أي: المتقين من عباده.
فإن قيل: الفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك الوصف فلا يدخلها؟.
أجيب: بأن الآية تدل على أن الجنة يدخلها المتقي وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضاً صاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل الجنة فدلالة الآية على أنّ صاحب الكبيرة يدخلها أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها. واختلف في سبب نزول قول جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم
﴿وما نتنزل إلا بأمر ربك﴾ فقال ابن عباس قال رسول الله ﷺ «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا» فنزلت الآية وقال مجاهد: أبطأ الملك على رسول الله ﷺ ليلة فقال لعلى أبطأت قال: قد فعلت، قال: ولم لا أفعل وأنتم لا تتسوّكون ولا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم وقال وما نتنزل إلا بأمر ربك فنزلت وقال قتادة والكلبي احتبس جبريل عليه السلام عن النبيّ ﷺ حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح وسبب سؤالهم عن ذلك ما روي «أنّ قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة النبيّ ﷺ وهل يجدونه في كتابهم وسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه وقالت اليهود نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن ثلاث فلم يعرف فسلوه عنهنّ فإن أخبركم عن خصلتين فاتبعوه فسألوه عن قصة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً فشقّ ذلك عليه مشقة عظيمة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبيّ ﷺ أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك، قال إني إليك أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت هذه الآية وأنزل قوله تعالى: ﴿ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله﴾ (الكهف، ٢٣)
وسورة الضحى»
فإن قيل: قوله: ﴿تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً﴾ كلام الله وقوله: وما نتنزل إلا بأمر ربك كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل؟ أجيب: بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كقوله تعالى: ﴿إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون﴾ (البقرة، ١١٧)
وهذا كلام الله تعالى ثم عطف عليه قوله: ﴿وأنّ الله ربي وربكم فاعبدوه﴾ (مريم، ٣٦)
ثم علل جبريل قوله ذلك بقوله: ﴿له ما بين أيدينا﴾ أي: أمامنا من أمور الآخرة ﴿وما خلفنا﴾ أي: من أمور الدنيا ﴿وما بين ذلك﴾ أي: ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة أي: له علم ذلك جميعه وقيل: ما بين ذلك ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة وقيل ما بين أيدينا ما بقي من الدنيا وما خلفنا ما مضى منها وما بين ذلك مدّة حياتنا وقيل: ما بين أيدينا بعد أن نموت
أكثر من حصوله للمؤمنين كما قال ﷺ «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».
واختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وأرض الله﴾ أي: الذي له الملك كله والعظمة الشاملة ﴿واسعة﴾ فقال ابن عباس: يعني ارتحلوا من مكة وفيه حث على الهجرة من البلد الذي تظهر فيه المعاصي ونظيره قوله تعالى: ﴿قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها﴾ (النساء: ٥٧)
وقيل: نزلت في مهاجري الحبشة. وقال سعيد بن جبير: من أمر بالمعاصي فليهرب، وقال أبو مسلم: لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة كما قال تعالى: ﴿جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين﴾ (آل عمران: ١٣٣)
﴿إنما يوفى﴾ أي: التوفية العظيمة ﴿الصابرون أجرهم﴾ أي: على الطاعات وما يبتلون به، وقيل: نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا ومعنى ﴿بغير حساب﴾ أي: بغير نهاية بكيل أو وزن لأن كل شيء داخل تحت الحساب فهو متناهٍ، فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب. وعن ابن عباس: لا يهتدي إليه حساب الحُسَّاب ولا يعرف. وقال علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنه: كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً إلا الصابرين فإنه يحثى لهم حثياً. وروى الشعبي لكن بسند ضعيف عن النبي ﷺ «أن الموازين تنصب يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون أجورهم ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل».
ولما كان للعبادة ركنان: عمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح فقدمه سبحانه بقوله تعالى:
﴿قل﴾ أي: يا أشرف المرسلين ﴿إني أمرت﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بسكونها ﴿أن أعبد الله مخلصاً له الدين﴾ أي: مخلصاً له التوحيد لا أشرك به شيئاً ثم ذكر عقبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام المذكور في قوله:
﴿وأمرت لأن﴾ أي: لأجل أن أو بأن ﴿أكون أول المسلمين﴾ أي: من هذه الأمة وبهذا زال التكرار.
وقال الزمخشري: فإن قلت كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء آخر، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين.
ولما دعا المشركون النبي ﷺ إلى دين آبائه أمره الله تعالى بقوله سبحانه:
﴿قل إني أخاف إن عصيت ربي﴾ أي: المحسن إلي المربي لي بكل جميل وعبدت غيره ﴿عذاب يوم عظيم﴾ والمقصود من هذا الأمر المبالغة في زجر الغير عن المعاصي، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أني بفتح الياء والباقون بسكونها.
﴿قل الله﴾ أي: المحيط بصفات الكمال وحده ﴿أعبد مخلصاً له﴾ وحده ﴿ديني﴾ من الشرك.
قال الرازي: فإن قيل: ما معنى التكرير في قوله تعالى ﴿قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين﴾ وقوله تعالى:
﴿قل الله أعبد مخلصاً له ديني﴾ قلنا: ليس هذا بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالإيمان بالعبادة، والثاني: إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله تعالى، وذلك أن قوله ﴿أمرت أن أعبد الله﴾ لا يفيد الحصر وقوله تعالى: ﴿قل الله أعبد﴾ يفيد الحصر أي: الله أعبد ولا أعبد أحداً سواه.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فهؤلاء الذين في جهنم.
﴿فما لهم عن التذكرة معرضين﴾ أي: فما لأهل مكة قد أعرضوا وولوا عن القرآن قال مقاتل رضي الله عنه: معرضين عن القرآن من وجهين: أحدهما: الجحود والإنكار، والثاني: ترك العمل بما فيه، وقيل: المراد بالتذكرة العظة بالقرآن وغيره من المواعظ ومعرضين حال من الضمير في الجار الواقع خبراً عن ما الاستفهامية، ومثل هذه الحال تسمى حالاً لازمة، وعن التذكرة متعلق به، أي: أيّ شيء حصل لهم في إعراضهم عن الاتعاظ.
﴿كأنهم﴾ في إعراضهم عن التذكرة من شدة النفر ﴿حمر﴾ أي: من حمر الوحش وهي أشد الأشياء نفاراً، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل بسرعة السير بالحمر في عدوها إذا وردت ماء فأحست بما يريبها ﴿مستنفرة﴾ أي: موجدة للنفار بغاية الرغبة حتى كأنها تطلبه من أنفسها لأنه شأنها وطبعها، وقرأ ابن عامر ونافع بفتح الفاء على أنه اسم مفعول أي: نفرها القناص والباقون بكسرها بمعنى نافرة.
﴿فرّت من قسورة﴾ قال مجاهد رضي الله عنه: هي جماعة الرماة الذين يتصيدونها لا واحد له من لفظه، وهي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: هو القناص، وعن زيد بن أسلم: فريق من رجال أقوياء. وكل ضخم شديد عند العرب قسور وقسورة، وعن أبي المتوكل هي لغط القوم وأصواتهم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حبال الصيادين. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: هي الأسد، وهو قول عطاء والكلبي، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبيّ ﷺ يقرأ القرآن هربوا، وعن عكرمة رضي الله عنه ظلمة الليل ويقال لسواد الليل قسورة، وفي تشبيههم بالحمر مذمّة ظاهرة وتهجين لحالهم بين كما في قوله تعالى ﴿كمثل الحمار يحمل أسفاراً﴾ (الجمعة: ٥)
شهادة عليهم بالبله وقلة العقل.
ولما كان الجواب قطعاً لا شيء لهم في إعراضهم هذا أضرب عنه بقوله تعالى: ﴿بل يريد﴾ أي: على دعواهم في زعمهم ﴿كل امرئ منهم﴾ أي: المعرضين من ادّعائة الكمال في المروءة ﴿أن يؤتى﴾ أي: من السماء ﴿صحفاً﴾ أي: قراطيس مكتوبة ﴿منشرة﴾ أي: مفتوحة، وذلك أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه: من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان ونؤمر فيه باتباعك ونظيره ﴿لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه﴾ (الإسراء: ٩٣)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كانوا يقولون: إن كان محمد صادقاً ليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار. وقال الكلبي رضي الله عنه: إن المشركين قالوا: يا محمد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً عند رأسه ذنبه وكفارته فائتنا بمثل ذلك. وقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه، فما لنا لا نرى ذلك. قال البغوي: والصحف جمع الصحيفة ومنشرة منشورة.
قال الله تعالى: ﴿كلا﴾ أي: لا يؤتون الصحف. وقيل: حقاً قال البغوي: وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه. قال ابن عادل: والأول أجود لأنه ردّ لقولهم. ثم بين تعالى سبب إعراضهم بقوله تعالى: ﴿بل لا يخافون﴾ أي: في زمن من الأزمان ﴿الآخرة﴾ فهذا هو السبب في إعراضهم.
وقوله تعالى: ﴿كلا﴾ استفتاح قاله الجلال المحلي. وقال البيضاوي: ردع عن إعراضهم. وقال البغوي وتبعه ابن عادل: حقاً ﴿إنه﴾ أي: القرآن ﴿تذكرة﴾ أي: عظيمة توجب إيجاباً


الصفحة التالية
Icon