فإن فالق بمعنى فلق، والباقون بكسر العين ورفع اللام وألف قبل العين وقوله تعالى: ﴿والشمس والقمر﴾ منصوبان بإضمار فعل دلّ عليه جاعل الليل أي: وجعل الشمس والقمر ﴿حسباناً﴾ أي: حساباً للأوقات أو الباء محذوفة وهو حال من مقدر أي: يجريان بحسبان كما في آية الرحمن وقوله تعالى: ﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما تقدّم ذكره في هذه الآية من الأشياء التي خلقها بقدرته وكمال علمه وهو المراد بقوله: ﴿تقدير العزيز العليم﴾ فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه ﴿وهو الذي جعل﴾ أي: خلق ﴿لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحرّ﴾ أي: في ظلمات الليل في البرّ والبحر وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعدما أجملها بقوله: لكم، ومن منافعها أنها زينة للسماء كما قال تعالى: ﴿ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح﴾ ومنها رمي الشياطين كما قال تعالى: ﴿وجعلناها رجوماً للشياطين﴾ (الملك، ٥)
﴿قد فصلنا﴾ أي: بينا ﴿الآيات﴾ أي: الدالات على قدرتنا وتوحيدنا ﴿لقوم يعلمون﴾ أي: يتدبرون فإنهم المنتفعون به
﴿وهو الذي أنشأكم﴾ أي: خلقكم ﴿من نفس واحدة﴾ أي: من آدم عليه الصلاة والسلام فهو أبو البشر كلهم وحوّاء مخلوقة منه وعيسى أيضاً لأنّ ابتداء خلقه من مريم وهي من بنات آدم فثبت أنّ جميع البشر من آدم عليه السلام ﴿فمستقرّ ومستودع﴾ أي: فمستقرّ في الرحم ومستودع في القبر إلى أن يبعث أو فمستقر في أرحام الأمّهات ومستودع في أصلاب الآباء، قال سعيد بن جبير: قال لي ابن عباس: هل تزوّجت؟ قلت: لا، قال: أما إنه ما كان مستودعاً في ظهرك فسيخرجه الله عز وجلّ أو مستقرّ في الرحم ومستودع فوق الأرض قال تعالى: ﴿ونقرّ في الأرحام ما نشاء﴾ أو فمستقرّ على وجه الأرض ومستودع عند الله في الآخرة أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الدنيا وكان الحسن يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك يوشك أن تلحق بصاحبك أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الجنة أو النار قال تعالى في صفة الجنة: حسنت مستقرّاً وفي صفة النار وساءت مستقرّاً، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف على اسم الفاعل والمستودع مفعول أي: فمنكم قار ومنكم مستودع لأنّ الاستقرار من الله تعالى دون الاستيداع لأنّ الاستقرار في الأصلاب أو فوق الأرض، لا صنع للعبد فيه بخلاف الاستيداع في الأرحام أو تحت الأرض، والباقون بالنصب ﴿قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون﴾ أي: يفهمون ما يقال لهم ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأنّ أمرها ظاهر وذكر مع تخليقه بني آدم يفقهون لأنّ إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر ﴿وهو الذي أنزل من السماء ماء﴾ أي: مطراً وهو من السحاب أو من جانب السماء، وقيل: إنّ الله تعالى ينزله من السماء إلى السحاب ثم من السحاب إلى الأرض ﴿فأخرجنا به﴾ أي: بالماء وفي ذلك التفات حيث لم يقل فأخرج على وفق أنزل ﴿نبات كلّ شيء﴾ أيّ شيء ينبت وينمو من جميع أصناف النبات فالسبب واحد وهو الماء والمسيبات صنوف متفرّقة كما قال تعالى: ﴿يسقى بماء واحد
ونفضل بعضها على بعض في الأكل﴾
(الرعد، ٤)
﴿فأخرجنا منه﴾ أي: من النبات أو الماء ﴿خضراً﴾ أي: شيئاً أخضر يقال: أخضر وخضر مثل أعور وعور والأخضر هو جميع البقول والزروع والبقول الرطبة ﴿نخرج منه﴾
إذا قرئ أولا يذكر مشدّداً، أمّا إذا قرئ مخففاً فالمراد أولاً يعلم ذلك من حال نفسه لأنّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حياً في الدنيا ثم صار حياً. ثم إنه تعالى لما قرّر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه أوّلها قوله تعالى:
﴿فوربك﴾ أي: المحسن إليك بالانتقام منهم ﴿لنحشرنهم﴾ بعد البعث ﴿والشياطين﴾ الذين يضلونهم بأن نحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة وفائدة القسم أمران:
أحدهما: أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين والثاني: في إقسام الله باسمه مضافاً إلى رسول الله ﷺ تفخيم لشأنه ورفع منه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى: ﴿فورب السماء والأرض أنه لحق﴾ (الذاريات، ٢٣)
والواو في والشياطين يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهو أولى. ثانيها: قوله تعالى ﴿ثم لنحضرنهم﴾ بعد طول الوقوف ﴿حول جهنم﴾ من خارجها ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله تعالى منها وخلصهم فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطتهم وسروراً إلى سرورهم ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغبطهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم وقوله تعالى ﴿جثياً﴾ حال مقدرة من مفعول لنحضرنهم وهو جمع جاث جمع على فعول نحو قاعد وقعود وجالس وجلوس وأصله جثوو بواوين أو جثوى من جثاً يجثو ويجثى لغتان.
فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى: ﴿وترى كل أمّة جاثية﴾ (الجاثية، ٢٨)
ولأنّ العادة جارية بأنّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، وإذا كان هذا حاصلاً للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار؟ أجيب: بأنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور على هذه الحالة وذلك يوجب مزيد ذلهم وقرأ حفص وحمزة والكسائي جثياً وعتياً وصلياً بكسر أوّلها والباقون بضمه ثالثها: قوله تعالى:
﴿ثم لننزعنّ﴾ أي: لنأخذن أخذاً بشدّة وعنف ﴿من كل شيعة﴾ أي: فرقة مرتبطة بمذهب واحد ﴿أيهم أشدّ على الرحمن﴾ الذي غمرهم بالإحسان ﴿عتياً﴾ أي: تكبراً مجاوزاً للحدّ والمعنى أنّ الله تعالى يحضرهم أوّلاً حول جهنم ثم يميز البعض من البعض فمن كان أشدّهم تمرّداً في كفره خص بعذاب عظيم لأنّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره وليس عذاب من يتمرّد ويتجبر كعذاب المقلد ففائدة هذا التمييز التخصيص بشدّة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب، ولذلك قال تعالى في جميعهم:
﴿ثم لنحن أعلم﴾ من كل عالم ﴿بالذين هم﴾ بظواهرهم وبواطنهم ﴿أولى بها﴾ أي: بجهنم ﴿صلياً﴾ أي: دخولاً واحتراقاً فنبدأ بهم ولا يقال أولى إلا مع اشتراكهم وأصله صلوى من صلى بكسر اللام وفتحها
تنبيه: في إعراب أيهم أشدّ أقوال كثيرة أظهرها عند جمهور المعربين وهو مذهب سيبويه أن أيهم موصولة بمعنى الذي وإن حركتها حركة بناء بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر وأشدّ خبر مبتدأ مضمر والجملة صلة لأيهم وأيهم وصلتها في محل نصب مفعول بها، ولأيّ أحوال أربعة ذكرتها في شرح القطر. ولما كانوا بهذا الإعلام المؤكد بالإقسام من ذي الجلال والإكرام جديرين بإصغاء الأفهام إلى ما توجه إليها من الكلام التفت إلى مقام الخطاب إفهاماً للعموم فقال تعالى:
﴿وإن﴾ أي: وما ﴿منكم﴾ أيها الناس أحد {إلا واردها
الثاني مع أنه لا يطلق إلا على الشيطان كما مر؟ أجيب: بأنه أطلق عليه على سبيل المجاز لأن الطغيان لما حصل بسبب عبادته والتقرب إليه وصفه بذلك إطلاقاً لاسم السبب على المسبب بحسب الظاهر. وقوله تعالى: ﴿أن يعبدوها﴾ بدل اشتمال من الطاغوت لأن الطاغوت مؤنث كأنه قيل: اجتنبوا عبادة الطاغوت. فإن قيل: على التفسير الأول إنما عبدوا الصنم لا الشيطان؟ أجيب: بأنه الداعي إلى عبادة الصنم.
فائدة: نقل في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نور عظيم وأن الملائكة أنوار مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صور على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة.
﴿وأنابوا﴾ أي: رجعوا ﴿إلى الله﴾ أي: إلى عبادة الله بكليتهم وتركوا ما كانوا عليه من عبادة غيره ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها قوله تعالى: ﴿لهم البشرى﴾ أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فالثناء عليهم بصالح أعمالهم وعند نزول الموت وعند الوضع في القبر، وأما في الآخرة: فعند الخروج من القبور وعند الوقوف للحساب وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البشارة بنوع من الخير والراحة والروح والريحان.
تنبيه: يحتمل أن يكون المبشر لهم هم الملائكة عليهم السلام لأنهم يبشرونهم عند الموت لقوله تعالى: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم﴾ (النحل: ٣٢)
وعند دخول الجنة لقوله تعالى: ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار﴾ (الرعد: ٢٣ ـ ٢٤)
ويحتمل أن يكون هو الله تعالى لقوله تعالى: ﴿تحيتهم يوم يلقونه سلام﴾ (الأحزاب: ٤٤)
ولا مانع أن يكون من الله تعالى ومن الملائكة عليهم السلام فإن فضل الله سبحانه واسع وقوله تعالى: ﴿فبشر عباد﴾ قرأه السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف والباقون بغير ياء.
﴿الذين يستمعون﴾ أي: بجميع قلوبهم ﴿القول فيتبعون﴾ أي: بكل عزائمهم بعد انتقاده ﴿أحسنه﴾ أي: بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى.
تنبيه: في هذا وضع الظاهر موضع مضمر ﴿الذين اجتنبوا﴾ للدلالة على مبدإ إحسانهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب أو مباح وندب اختاروا الندب حرصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً، ويدخل تحت ذلك أبواب التكاليف وهي قسمان: عبادات ومعاملات، فأما العبادات فكقولنا: الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر مع اقتران النية ويقرأ فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في مواضعها الخمسة ويتشهد فيها ويخرج منها بالسلام، لا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال. قال الرازي: فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ا. هـ وكذا القول في جميع أبواب العبادات. قال في الكشاف: ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها على السبر وأبينها دليلاً أو أمارة ولا تكن في مذهبك كما قال القائل:
*ولا تكن مثل غير قيد فانقادا*
يريد: المقلد ا. هـ، وأما المعاملات فكإنظار المعسر وإبرائه فالإبراء أولى وإن كان الأول واجباً، والثاني: مندوباً وكذا القول في جميع المعاملات.

*لا وأبيك ابنة العامريّ لا يدّعي القوم أني أفر*
وفائدتها: توكيد القسم، ثم قال الزمخشري بعد أن ذكر وجه الزيادة والاعتراض: والجواب كما تقدّم والوجه أن يقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له يدل عليه قوله تعالى: ﴿فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم﴾ (الجمعة: ٧٥ ـ ٧٦)
فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك. قال بعضهم: قول الزمخشري: والوجه أن يقال إلى آخره تقرير لقوله: إدخال لا النافية فيه على فعل القسم مستفيض إلى آخره. وحاصل كلامه يرجع إلى أنها نافية وأنّ النفي متسلط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه، وليس فيه نفع لفظاً ولا معنى، وقرأ ابن كثير بخلاف عن البزي بغير ألف بعد اللام والهمزة مضمومة والباقون بالألف ويعبر عن قراءة ابن كثير بالقصر وعن قراءة الباقين بالمدّ.
ولا خلاف في قوله تعالى: ﴿ولا أقسم بالنفس اللوامّة﴾ في المدّ والكلام في لا المتقدّمة وجرى الجلال المحلي على أنها زائدة في الموضعين. واختلف في النفس اللوامّة فقيل: هي نفس المؤمن الذي لا تراه يلوم إلا نفسه تقول: ما أردت بكذا ولا تراه يعاتب إلا نفسه. وقال الحسن رضي الله عنه: هي والله نفس المؤمن ما ترى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلي ما أردت بحديثي، والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد رضي الله عنه: هي التي تلوم على ما فات، فتلوم نفسها على الشرّ لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه، وقيل: تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها. وقيل: المراد آدم عليه السلام لم يزل لائماً نفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل: هي الملومة فتكون صفة ذمّ وهو قول من نفى أن تكون قسماً، وعلى الأوّل صفة مدح فيكون القسم بها سائغاً. وقال مقاتل رضي الله عنه: هي نفس الكافر يلوم نفسه تحسراً في الآخرة على ما فرّط في جنب الله تعالى.
وجواب القسم محذوف أي: لتبعثنّ دل عليه قوله تعالى: ﴿أيحسب الإنسان﴾ أي: هذا النوع الذي جبل على الأنس بنفسه والنظر في عطفية وأسند الفعل إلى النوع كله؛ لأنّ أكثرهم كذلك لغلبة الحظوظ على العقل إلا من عصم الله تعالى، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها ﴿ألن﴾ أي: أنا لا ﴿نجمع﴾ أي: على ما لنا من العظمة ﴿عظامه﴾ أي: التي هي قالب بدنه فنعيدها كما كانت بعد تمزقها وتفتتها للبعث والحساب.
وقيل: نزلت في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة خال الأخنس بن شريق الثقفي وذلك أن عدياً أتى النبيّ ﷺ فقال: يا محمد حدّثني عن القيامة متى تقوم؟ وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبيّ ﷺ بذلك فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن بك، أَوَ يجمع الله العظام بعد تفرّقها ورجوعها رميماً ورفاتاً مختلطاً بالتراب وبعد ما نسفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض ولهذا كان النبيّ ﷺ يقول: «اللهمّ اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة والأخنس بن شريق» وقيل: نزلت في عدوّ الله أبي جهل أنكر البعث بعد الموت وذكر العظام، والمراد نفسه كلها لأنّ العظام قالب الخلق.
تنبيه: ألن هنا موصولة وليس بين الهمزة واللام نون في الرسم كما ترى.
وقوله تعالى: ﴿بلى﴾ إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام وهو وقف حسن، ثم يبتدئ بقوله تعالى: ﴿قادرين﴾ وقيل: المعنى: بل


الصفحة التالية
Icon